حنا مينه: أنتم تسألون عن حياتي وأنا أجيبكم! (3- 3)

17-04-2010

حنا مينه: أنتم تسألون عن حياتي وأنا أجيبكم! (3- 3)

البداية ترتبط بالنهاية دائماً، فعندما تكون النهاية سيئة، تجبّ البداية الحسنة، والمسألة، بعد، ليست في السجن، بل فيما يكونه المرء بعد السجن، وليست في المنفى، وإنما ما بعد المنفى وقد سجنت مرات عديدة، في نضالي ضد الاحتلال الفرنسي، وعرفت المنافي للأسباب ذاتها، ثلاث مرات، وتابعت بعد الاستقلال، كفاحي لتحقيق ما أمكن من مطالب الشعب الضرورية وهذه كانت بدايتي، وقد دفعت الثمن، لأن المسؤولين آنذاك وجدوا فيّ مخلوقاً يطالب بقوة، بإلحاح، بجرأة، مع أمثاله، بما هو حق لهم. وماذا كنا نخشى؟ في السجن نجد اللقمة، وفي تحقيق هذا المطلب أو ذاك نلقى العزاء، ولم يكن لدينا ما نخاف عليه، لأننا، أصلاً مخلوقات العالم السفلي.

بعد ذلك، وأنا حلاق في اللاذقية، كنت أبيع جريدة (صوت الشعب) الناطقة باسمنا ونيابة عنا، وعن المسحوقين من أمثالنا. كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية، وكنا ضد النازية، وضد الاحتلال الفرنسي، وضد أغواتنا، وقد تدرجت، من كتابة الأخبار والمقالات الصغيرة، في صحف سورية ولبنان، إلى كتابة القصص القصيرة. ‏

بدأت حياتي الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية، صرخت فيها على كيفي، غيرت العالم على كيفي، أقمت الدنيا ولم أقعدها.. ضاعت المسرحية ومنذئذ تهيبت الكتابة للمسرح، وما أزال. القصص ضاعت أيضاً. لم أشعر بالأسف. وكيف أشعر به وحياتي نفسها ضائعة! المهم أنني لم أفكر ، وأنا حلاق، وسياسي مطارد، بأنني سأصبح كاتباً. وكان هذا فوق طموحي، رغم رحابة هذا الطموح.. صدقوني إنني، حتى الآن، كاتب دخيل على المهنة، وأفكر بعد هذا العمر الطويل، بتصحيح الوضع والكف عن الكتابة، فمهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة. لا تفهموني خطاً. الحياة أعطتني، وبسخاء، يقال إنني أوسع الكتاب العرب انتشاراً، مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قباني وغزلياته التي أعطته أن يكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين. ‏

يطالبونني، في الوقت الحاضر، بمحاولاتي الأدبية الأولى، التي تنفع النقاد والدارسين، لكنها بالنسبة إليّ ورقة خريف سقطت!. ‏

وقد كنت، كما هو معروف، يسارياً وسأبقى.. أما لماذا الأمر كذلك، فإن هذه (اللماذا) في غير محلها! تصوروا أن العالم السفلي، العاري، الحافي، الجائع، مثلي ومثل ناسي، ثم نكون في اليمين، الذي يتغذى أطفاله بالشيكولاته ويركبون الكاديلاك! مفارقة أليس كذلك؟ ‏

الرواية الأولى التي كتبتها كانت (المصابيح الزرق)، لكنني لم أفكر بشرارتها، أهي حمراء أم زرقاء، وهل أنا نيروداً حتى تطلق قصائدي شرارات؟ إنني بابا نوئيل أوزع الرؤى على الناس، كي أفتح عيونهم على الواقع البائس. ‏

واحسب أنني ناجح إلى حد ما، لأن كلماتي التي أكلت عيوني، على مدى نصف قرن، لم تكن مجانية. لقد حرصت دائماً على شيئين: الإيقاع والتشويق! وكتبت لغايتين: توفير المتعة والمعرفة للقراء، وهذا سر نجاحي الكبير، فلا أبوح به إلا للنشر! تأملوا! ‏

يقال: إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمداً؟ في الجواب أقول: ‏

في البدء لم أقصد شيئاً. لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة.. أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي. إذا نادوا: يا بحر! أجبت أنا،! البحر أنا فيه ولدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحاراً؟ إنه يتعمّد بماء اللجة لا بماء نهر الأردن، على طريقة يوحنا، أسألكم: أليس عجيباً، ونحن على شواطئ البحار، ألا نعرف البحر؟ ألا نكتب عنه؟ ألا نغامر والمغامرة احتجاج؟ أن يخلو أدبنا العربي، جديده والقديم، من صور هذا العالم الذي هو العالم، وما عداه اليابسة، جزء منه. ‏

البحّار لا يصطاد من المقلاة! وكذلك لا يقعي على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة. إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء! الأدباء العرب، أكثرهم لم يكتبوا عن البحر لأنهم خافوا معاينة الموت في جبهة الموج الصاخب. لا أدعي الفروسية، المغامرة نعم! أجدادي بحّارة، هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحّار على المراكب. ‏

كان ذلك في الماضي الشقي والماجد من حياتي، بعد ذلك، وفي الحرب العالمية الثانية، ‏

توقف العمل في البحر، اشتغلت في مهن كثيرة، من أجير مصلّح دراجات، إلى مربي أطفال في بيت سيد غني، كان يسومني العذاب مرّاً إذا بكى طفل، أو مرضت طفلة، إلى عامل في صيدلية، إلى حلاق، إلى صحفي، إلى كاتب مسلسلات إذاعية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة، مع كل ما تقوم به الوظيفة من تدجين بطيء، إلى روائي، وهنا المحطة قبل الأخيرة، أي قبل غزل الظلمة في حضن الثرى. ‏

هذه المسيرة الطويلة كانت مشياً، وبأقدام حافية، في حقول من مسامير.. دمي سال في مواقع خطواتي. أنظر الآن إلى الماضي، نظرة تأمل حيادية، فأرتعش. كيف، كيف!؟ أين، أين!؟ هناك البحر وأنا على اليابسة!؟ أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق.. أليس هذا حلماً جميلاً؟ ‏

السبب أنني مربوط بسلك خفي إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي الشام الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيم ببردى، لذلك أحب فيروز والشآميات. ‏

هذا كله جميل، لكنني غريب في غربته، قولة أبي حيان التوحيدي، غريب عن البحر: بيتي، حديقتي، ملعبي، فكيف تكون الهناءة والحبيب الأزرق بعيداً؟ تعويضاً أسترجع الماضي، أكتبه، أعوض بما هو كائن، عما كان، أهدم العالم وأعيد بناءه، أستحضر تجارب البحر، أشدّها هولاً، أكتب وأكتب: ثماني روايات عن البحر، ولم أزل في المقدمة من هذا السفر الذي سيكتبه الآتون بعدي من الأجيال الشابة، إذا لم تكن قلوبهم من تراب!. ‏

أكره الطرق المعبّدة، دأبي اكتشاف المناطق المجهولة في أدبنا: البحر، الغابة، الجبل، الثلج، المعركة الحربية، البلدان البعيدة، النضال الوطني السرّي، الموت، الجنون، الشجاعة، البطولات الشعبية، الموروثات والمأثورات والصور الغريبة. أكره، أيضاً، نصفي العاقل، لماذا نحن الأدباء العرب، في العقلاء جداً؟ ولماذا في القَعَدَة؟ وأين الجنون والانتحار وعدم الانتماء؟ لا أحب الذين يستريحون على مؤخراتهم! ‏

في أعمالي الأدبية (40 رواية حتى الآن) شخصيات كثيرة جداً: هناك عالم متكامل من مخلوقات متنوعة متباينة، على أرضية واقعية، تمتزج معها الرومانتيكية وتتبلور في تصرفاتها والأقوال، (روائي واقعي رومانتيكي) هذا هو عنوان دراسة الدكتورة نجاح العطار، التي نُشرت في (الطريق) و(المعرفة) ومجلات أدبية أخرى، ذلك أن الواقعية، كما ترى الناقدة الدكتورة العطار، تتسع، وتستوعب، كل المدارس الأدبية. ‏

أذكّر هنا بطرفتين: أولاهما أنني كلفت صديقاً بأن يجمع لي أسماء شخصيات رواياتي، قبل أن أبدأ كتابة رواية (النجوم تحاكم القمر)، فقام بالمهمة حتى عجز عنها. قال لي: (هناك أكثر من (560) شخصية، في عشر روايات فقط، فكم يكون العدد في الروايات العشر الأخرى؟ إنني، وأنا أقرأ الرواية، تستهويني الأحداث، فأنسى إحصاء الشخصيات، ويكون عليَّ أن أعود من جديد، وهذا ما لا أستطيعه.. يا للغرابة إن ضحكت طبعاً وقلت: (أنا تلميذ بالنسبة لأستاذي نجيب محفوظ، فكيف لو كلفك هو بما كلفتك أنا به!؟). ‏

الطرفة الأخرى أن أديباً من اللاذقية، هو الأستاذ سمير سكاف، قام بمحاولة من هذا النوع، دون تكليف طبعاً، وقد كتب إليّ، بعد أن أعياه الجواب على السؤال التالي: (من أي متحف بشري جئت بهذا الحشد من المخلوقات، التي لا يشبه أحدها الآخر!؟ إنني ألجأ إليك، وأنتظر الجواب!) ضحكت ولم أجب، أنا نفسي لا أعرف، وأحسب أن هذا السؤال من باب التعجيز، وأشهد أنني عاجز! إذاً، بمقياس كهذا، كيف أحصي الشخصيات الروائية التي تركت بصماتها في ذاكرتي، كيف أعدّ الشخصيات التي لم أكتبها بعد، والتي لا تزال حبيسة في طاسة رأسي، تدق على صدغيّ طالبة الخروج إلى النور؟ أحيلكم، في الجواب، على روايتي (النجوم تحاكم القمر) و(القمر في المحاق) ففي متحف مخلوقات أكبر بكثير من المتحف الذي سألني عنه الأديب سمير سكاف.. عرفتم الآن، لماذا أنا معذّب، ولماذا أفكر باعتزال الكتابة!؟ إنها (ملهاة إنسانية) كاملة! وإنها لسخرية أن تحاكم الشخصيات الروائية مبدعها الروائي، بكل ما تعنيه المحاكمة، التي يتهم فيها المؤلف عناد الزكرتاوي بقتل ديمتريو، بطل (مأساة ديمتريو) ويُحكم عليه بالإعدام مع وقف التنفيذ، حتى يكمل كتابة ما تبقى من روايات وقصص! وهو، المؤلف، يصرخ ناشجاً: (نفذوا! نفذوا!)، ذلك أننا، بعبارة واحدة، محكومون جميعاً بالإعدام مع وقف التنفيذ حتى تواصل حياة الأديب العربي التي هي، مع التخفيف والرحمة، حياة تعاسة دراماتيكية بامتياز!. ‏

في طفولتي، كنت في فقر أسود، وفي شيخوختي في فقر أبيض، أي إنها (مستورة!) حسب تعبير إحدى بناتي، وأجزم أن حياة زملائي من الكتاب أسوأ من حياتي، لأنها غير (مستورة!)

حنا مينه

المصدر: تشرين

حنا مينه: أنتم تسألون عن حياتي وأنا أجيبكم! (2-­3)

حنا مينه: أنتم تسألون عن حياتي.. وأنا أجيبكم! (1 ـ 3)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...