موروثنا من العنصرية

03-06-2006

موروثنا من العنصرية

الرق، وهو أبشع نظام للاستغلال في تاريخ البشرية، لم يكن، ويا للعجب، من صنع الانسان الهمجي، بل من ابتكار الانسان المتحضر. فالمجتمعات البدائية الأولى لم تعرف الاسترقاق قط. أما المجتمعات المدينية التي مارست الحرب فهي التي طوّرت للأسرى نظاما شنيعا للرق، واتخذته وسيلة لاستعباد هؤلاء الأسرى وتشغيلهم.
لعل من الأمور الجديرة بالتأمل كيف ان فقهاء الاسلام الذين دعوا الى اجتناب الخمر بحسب القرآن لم يدعوا الى اجتناب الرق، مع ان تحرير الانسان من عبودية الانسان أولى من اجتناب شرب الخمر.
تحتضن المصادر التاريخية آلاف الحكايات المأساوية عمن عثر بهم الدهر فصاروا أرقاء. وقد وقعت على حكايتين تختزلان الألم الانساني في ذروة استغاثته، او في لحظة البوح المريرة التي تسبق وجل الموت والنهاية: حكاية <حجاب النور> وعبد الرحمن الكواكبي، وحكاية أم جعفر والعلامة محسن الأمين. انهما حكايتان باكيتان فيهما من اللوعة والفظاظة والعبرات ما يفيض على مجرى الأحزان القديمة.
1 حجاب النور
اختطفت وهي طفلة من بين اخوتها وأترابها في السودان، ونُقلت الى مكة في موسم الحج. وهناك بيعت من تاجر حلبي حملها معه الى حي باب النيرب في حلب. وكان هذا الحاج يعذبها أشد العذاب. وعندما وصلت شكواها الى عبد الرحمن الكواكبي انبرى الى تخليصها، فاشتراها من مالكها. لما كانت لا تعرف أحدا في حلب فقد دعاها الكواكبي الى الاقامة في منزله ريثما تتسنى له إعادتها الى أهلها في السودان. لكنه توفي مسموما في القاهرة في 13/6/1902 قبل ان يعيد حجاب النور الى أهلها.
تقص حجاب النور حكايتها على سعد زغلول الكواكبي، حفيد عبد الرحمن الكواكبي على النحو التالي: <أنا يا حبيبي من بلاد السودان، وبلدي اسمها سنار . والدي كان شيخا في مسجد البلدة، يُعلّم الأطفال قراءة القرآن، واسمي حجاب النور.
<كنا نخرج لجمع الخضار والفواكه من غابة قريبة بسبب فقرنا، لنعود بها ونأكلها في البيت مع اخوتي الصغار. وفي احدى الجولات، وبينما كنا في طريق الغابة عند مطلع الشمس، انتحيت مكانا قصيا خلف شجرة لقضاء الحاجة. فإذا بكف قوية من خلفي تطبق على فمي، وبأيد كثيرة تطوقني، فأُحمل بعيدا. وهناك يُكمُّ فمي بشريط وتُعصب عيناي وأُحمل على دابة أمام رجل يمتطيها الى ان ترجلنا على مسافة بعيدة. ولما فكوا العصابة عن عيني وجدت نفسي بين مجموعة من الأطفال عرفت واحدا منهم فقط من أهل بلدتنا.
<جلست مثلهم على الأرض موثقة اليدين مكمومة الفم، ثم وزعونا على أماكن أخرى. وفي اليوم التالي أعادوا عصب عيني، وشعرت بأنهم أركبونا في قارب. ولم أُبصر إلا حينما أزالوا العصابة عن عيني فإذا نحن على شاطئ بحر لم اعرفه في حياتي. سرنا فيه حتى بلدة قالوا ان اسمها جدة. فأفردوا البنات عن الصبيان، كل نوع في حظيرة. وبعد أيام أمضيتها في البكاء والعويل والضرب المبرح عرضوني على أحد الحجاج الحلبيين فاشتراني، وجاء بي الى حلب، وأطلق عليّ اسم سعيدة. وأمضيت في خدمة هذا الحاج سنتين تقريبا ذقت خلالهما الأمرّين، وكانت اصوات استغاثتي تصل الى الجيران> (شذى مصطفى، <الشرق الأوسط>، 1/3/2006).
أي ألم أطبق على صدر هذه الفتاة المسكينة التي اقتُلعت من نعيم العائلة الى جحيم الاستعباد! أي كابوس راعب اكتنف حياتها ولم ينفك عنها حتى موتها! وكم تعذبت في رجائها الخائب وحنينها اللاهب الى العودة الى ديارها! وليس غريبا انها، في أيامها الأخيرة، حينما مرضت، راحت تهذي، ثم طلبت ان تسمع من جميع آل الكواكبي كلمة <العتق>. وقال لها سعد زغلول الكواكبي: أنت حرة، وأنت واحدة منا. ولما اشتد عليها المرض قبيل وفاتها في سنة 1946 كانت تردد: <أنا مشتاقة لأمي. آه، مَن يأخذني إليها. اكتبوا لها ان حجاب النور تموت... يمّا> (المصدر السابق نفسه).
2 أم جعفر
يروي جعفر بن السيد محسن الأمين مأساته بمرارة ولوعة وسخرية كالتالي: <والدتي افريقية سوداء سرقها عربي مسلم مع مَن سرق بين إناث وذكور من افريقيا الشرقية. لقد ساقهم في قافلة حزينة كما تساق المواشي الى مكة المكرمة. وكانت هذه هي الكأس الأولى من الغصص التي تجرعتها الوالدة. والكأس الثانية كانت في مكة المكرمة حيث يذهب المؤمنون (...). وكان من بين هؤلاء المؤمنين (...) السيد علي محمود الأمين وزوجته المفضلة بين زوجاته السيدة علوية، فعتقا رقبتيهما وغلاّ رقبة إنسانة بريئة، وجراها وراءهما كما تُجرّ الأضاحي الى شقرا ثم قدمتها هدية او باعتها لا أدري الى الوالد الذي كان في شقرا في ذلك الوقت وحيدا وعائلته في دمشق.
<أثناء اقامة والدتي القصيرة في شقرا حملت من الوالد، ثم استُدعيت الى دمشق فحملتني معها. (وفي دمشق) طُردت من البيت. وكل ما أذكر، بعد ان فُرق ما بيني وبينها، أنني كنت أُستدرج خفية من قبل بعض الجيران فيقودني أحدهم من بيتنا في دخلة الشرفا الى بيت لصق بيتنا لآل الجمال حيث تكون والدتي قد قدمت إليه من سكناها الذي كنت اجهله ولا أزال، فألتقي بها فتضمني الى صدرها وأبكي وتبكي (...).
<كم هي حرقة وحسرة ان يُفرق بين أم وولدها وهو الذي ليس لها في هذه الدنيا الواسعة من قريب إلا هو، هذا الطفل الذي لا يعرف بدوره معنى القبلة ولا معنى الحنان في هذه الدنيا (...). لقد أُبعدت عنها الى شقرا دون ان تتمكن من وداعي بنظرة او تزودني ولو بقبلة، وأنا وحيدها وفلذة كبدها ومبلسم جراحها. إني اتصورها وقد بلغها خبر إبعادي عنها فراحت تبكي وتنوح وقد اقفلت أمامها أبواب السماوات والأرض وليس أمامها إلا الجدران تناجيها وترفع إليها شكاتها. فيا للقلوب المتحجرة ويا للوحوش الكاسرة (...). وهكذا، بكل بساطة تموت أم ويُيتم طفل دون ان ترف لإنسان عين او يتأثر قلب او تُقرأ فاتحة او تُطلب رحمة. فإن كان هناك مَن مات عطشا فقد ماتت (والدتي) بأشد من ذلك، ماتت مقهورة وعطشى الى كل شيء. وإن كان هناك مَن يُسمى بسيد الشهداء فهي أميرة الشهيدات وقديسة القديسات. لقد قضت وفي قلبها حسرة وفي صدرها غصة، وكم حسرات في نفوس كرام> (انظر: جعفر محسن الأمين، <سيرة وعامليات> إعداد: أكرم جعفر الأمين، بيروت: دار الفارابي، 2004).
معذرة يا إفريقيا
لا ريب في أن العبودية كانت واحدة من أكثر مآسي التاريخ البشري بشاعة وانحطاطا. ولا شك في أن تجارة العبيد كانت عاراً لم تنج منه البشرية حتى الآن. وللأسف الشديد فإن بعض العرب جعلوا من المتاجرة بالأفارقة السود مهنة رابحة جدا. وبهذا المعنى أسهموا في هذه المأساة الإنسانية بنصيب وافر.
ان قصة العبودية، في حد ذاتها، تراجيديا مروّعة جديرة بأن تروى وتُعاد روايتها باستمرار . أما فصولها الأولى فكانت تبدأ من أدغال أفريقيا التي ينتشر في أحضانها الباهرة بشر سود وادعون. وكان التجار المسلحون يطاردون هؤلاء السود فيقتلون من يحاول الهرب، ويلقون القبض على من قلّت حيلته وعثر حظه. وحينما يجمع التجار ما يكفي من هؤلاء الأسرى البائسين (ربما يصل العدد الى ألف) يبدأون رحلة العودة الى زنجبار وهم يسوقون قافلة بشرية لا تنفك باكية متألمة متعثرة، فيُربط <العبيد> في صفوف طويلة، وتُوضع رقابهم في أنيار خشبية، كما توضع السلاسل الحديدية حول كواحل أرجلهم. ولأن تجارة <العبيد> مرتبطة بتجارة العاج، فقد كان على <العبد> حمل قرون العاج على رأسه أو على ضهره في أثناء سيره المنهك الطويل، وكانت النساء يحملن أطفالهن على ضهورهن ويُرغمن، فوق ذلك، على حمل العاج أيضا. فإذا عجزت المرأة عن الاستمرار في حمل الطفل والعاج معاً، يُقتل الطفل أو يترك على الطريق. وإذا عجز <عبد> عن متابعة المسير يُقتل ويترك طعاماً للضباع والنسور. وبعد مسيرة أسابيع، وربما شهور، تصل القوافل الى الساحل. وهناك يجري تحميل <العبيد> في مراكب شراعية طول الواحد منها خمسة وثلاثون مترا فقط. وفي هذا المركب يُحشر ما بين مئتين الى ستمئة أفريقي، فضلا عن البحارة والحراس. ويُحشر السود كلهم في جوف المركب على رفوف من الخيزران لا يرتفع الواحد عن الآخر أكثر من متر واحد. وفي هذه الحال لم يكن ثمة متسع للجلوس أو الركوع أو القرفصاء. وكانت تعطى لهم وجبة واحدة من الطعام في اليوم عبارة عن كمية قليلة من الأرز المسلوق وكوب من المياه غير النظيفة. وفي أثناء الإبحار لا يتورع التجار عن إلقاء كل من يصاب بالمرض في البحر. وبوصول الرقيق الى زنجبار يكون هؤلاء جميعا في حال من الإعياء الشديد والجوع وتشنج الأرجل، ويحتاجون الى أسبوع، بعد النزول الى البر، لمد أرجلهم بشكل مستقيم. وبما أن تجار <العبيد> يدفعون رسوما جمركية للسلطات المحلية، فقد كان التجار يلقون بالعبيد المشكوك في قدرتهم على الحياة في البحر، والذي يبقى منهم أخيرا يباع من أصحاب المزارع في زنجبار وعُمان والجزيرة العربية.
العبودية الجديدة
في سنة 1998 قرأ الكثير من اللبنانيين، ودُهش القليل منهم، إعلانات تقول: <عرض خاص: نؤمن لكم خادمة سريلانكية بمبلغ 1111 دولارا بدلا من 2000 دولار> (لوموند دبلوماتيك الطبعة العربية، حزيران 1998). إن السريلانكيات، على سبيل المثال، هن رقيق هذا العصر في لبنان وبعض دول الخليج العربي. وهؤلاء صارت حكاياتهن نموذجية: يأتين بالطائرات ويعدن بالتوابيت. وما بين رحلتي الذهاب والإياب تمر سنون من العذاب الأليم، فيحتجزن في المنازل؛ فلا خروج ولا يوم راحة، ويحرمن من الطعام أحيانا، ويمنع عليهن استخدام الهاتف للاطمئنان عن أهاليهن في أثناء الكوارث، ويعملن ثماني عشرة ساعة على مدار سبعة أيام، وتنام الواحدة منهن فوق أرض المطبخ إذ لا مكان خاصا ولا خصوصية، ويصادر جواز سفرها ويتمرن بها جنسيا ذكور العائلة، وعند سفر العائلة تعار الى الأقارب، وفي نهاية عقدها لا يدفع لها أجرها، أو يدفع لها أجر أقل مما هو متفق عليه، وإذا شكت تتهم بالسرقة.
نشرت جريدة <صنداي تايمز> في كولومبو عاصمة سريلانكا في 16/6/1996 قصة الخادمة السريلانكية <شارميلا> التي تعرضت للتعذيب ورش المبيدات في عينيها، فهربت. لكن أحد المسؤولين أقنعها بأنه سيعيدها الى بلادها، فاصطحبها الى فندق واغتصبها مرتين ثم أعادها الى غرفته في المركز الذي يعمل فيه، واحتجزها أسبوعا كاملا. وعندما عادت أخيرا الى بلادها كانت تحمل في أحشائها طفلة (النهار الملحق الأدبي، 21/6/1997). وفي تقرير أعده ماري أوديل وكزافييه فافر ونشرته <لوموند دبلوماتيك> (حزيران 1998) ورد أن السريلانكيات في لبنان يتعرضن للاحتقار والشتائم والضرب، ولا يلقين أي عناية طبية، فضلاً عن عمليات اغتصاب متكررة يرتكبها ذكور المنازل، وعندما يجدن أنفسهن حوامل من أسيادهن تضطر الكثيرات من هؤلاء البائسات الى دفع مبالغ طائلة للقيام بعمليات الإجهاض. وتروي خادمة سريلانكية اسمها <لينيكا> أن مخدوميها كانوا يجبرونها على العمل حتى ساعة متأخرة من الليل، وكانوا يقرفون منها بسبب لونها، فيطلبون منها الذهاب الى غرفتها في أثناء تناول الطعام. وقد استبدلوا بها خادمة أخرى وأعادوها الى مكتب الاستخدام. وفي مكتب الاستخدام احتجزت واغتصبت وضربت. أما الخادمة <دفيكا>، وهي سريلانكية أيضا فتقول إن 20? من اللبنانيين قد يكونون طيبين، لكن الثمانين بالمئة الباقين هم أقرب الى الوحوش (النهار، الملحق الأدبي، 21/6/1997). وعن أحد هذه الوحوش تروي إحدى الخادمات ما جرى لها على النحو التالي: كبلني الى كرسي، واحتجزني في الحمام. وبعد ذلك أخرجني ورماني على الأرض وضربني بأنبوب معدني إلى أن انسلخ الجلد عن ساقيّ وظهري. وقص لي شعري بينما كنت أتوسل إليه ألا يفعل لأن الشعر مصدر اعتزاز لنساء سريلانكا، ثم لف شعري المقصوص وحشا به فمي. كنت أتوسل إليه أن يرحمني من أجل ولديّ اللذين تركتهما في سريلانكا وجئت الى لبنان من أجلهما، وأنا لا أريد إلا أن أرى وجهيهما من جديد.
? ? ?
هذه الوحشية هي سليلة الاستعلاء العنصري والادعاء الخرافي بالحضارة الممتدة الى ستة آلاف عام الى الخلف، لأن العنصرية والاستعلاء القومي مرض يتجاور، في معظم الأحيان، مع خرافة التفوق الحضاري على الأقوام المجاورة أو على الجماعات القاطنة بين ظهراني القوم <الأصليين>. وهؤلاء الذين ما انفكوا يعيدون الكلام المبتذل على التفوق الحضاري إنما هم ورثة لجماعات رثة من الزعران الذين برعوا في أمور السمسرة وتهريب المخدرات وصالات القمار والألعاب الممنوعة وتبييض الأموال وإدارة المواخير وتقديم الخدمات للسياح ولمحطات الاستخبارات معاً. وهذه العنصرية لا تظهر على هذه الصورة إلا في مثل هذه الجماعات الهمجية، وهي، في تكوينها، تضمر نوعا من الخسة وروح الاستقواء على الضعفاء واستفراد الغرباء.
متى، إذن، يُصبح الاسترقاق جريمة سافلة يعاقب عليها القانون؟.

 

صقر أبو فخر

 المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...