فـي الجانـب الآخـر مـن المقـهى

14-08-2009

فـي الجانـب الآخـر مـن المقـهى

المشهد الأول...
كانت ثمة برودة باريسية تغلّف المكان في ذلك اليوم المنتمي إلى خريف العام 1993. على رصيف المقهى الذي يقع في ساحة «التروكاديرو»، المطلّة مباشرة على برج إيفيل (الشهير) جلست أنا وصديقة مغربية ننتظره. كنت قد قلت لها قبل أيام قليلة من اللقاء، إني على موعد مع محمود درويش، وسألتها إن كانت ترغب في المجيء معي للتعرف إليه. سؤال، أعتقد أنه كان يومها للتأثير عليها، أي بمعنى آخر أردت أن اظهر لها إني على «قدر ما من الأهمية» وأني أعرف محمود درويش وهو ينتظرني في مقهى من مقاهي باريس.
لا أعرف يومها ـ في تلك الإقامة الباريسية الصغيرة التي كنت فيها ـ لماذا اتصلت به. في بيروت، أعطاني رقم هاتفه في باريس الروائي الصديق الياس خوري. وحين كلمته للمرة الأولى في فترة ما بعد الظهيرة، وحين عرّفته عن اسمي، صاح قائلا أهلا يا اسكندر. تفاجأت وتساءلت كيف يعرفني. قال: «لو لم أكن هذا المساء مشغولا لكنت التقيت بك، اتصل بي غدا لنحدد موعدا». عند الحادية عشرة من صباح اليوم التالي اتصلت به. أيقظته من النوم، فجاء صوته معاتبا «لسنا هنا في بيروت، أنا لا استيقظ باكرا، كلّمني مساء». اعتذرت منه، واتصلت به مجددا في المساء.
بعد يومين، وصلت مع ربيعة، (اسم الصديقة المغربية، التي كانت تعمل في إحدى الإذاعات) إلى المقهى في ساحة التروكاديرو، قبل الموعد بربع ساعة. ولحسن الحظ لم نغيّر المترو سوى مرة واحدة، من حيث مكان إقامتي في شارع «لا بوت أو كاي» (في الدائرة الثالثة عشرة، القريب من «ساحة إيطاليا»). وصلنا وجلسنا قرب الباب كي لا نفوت اللحظة التي يدخل فيها. تخطت الساعة الموعد بأكثر من عشرين دقيقة. نظرت إليّ ربيعة كأنها تتساءل إن كان الموعد صحيحا وعمّا إذا لم أخترع لها هذه القصة. أحسست بالضيق قليلا. «هل أعطاني موعدا وهميا للتخلص مني»؟ قلت في نفسي. ولا أعرف لحظتها ما الذي دفعني إلى الوقوف والاستدارة صوب باب المقهى الثاني، إلى الجانب الآخر، لأجده جالسا يقرأ الجريدة. «تأخرت» قال لي. أجبت بأني أنتظره مع صديقة في الطرف الآخر منذ أكثر من نصف ساعة. وقف وقال «سأجلس معكما».
لغاية اليوم، لم أفهم سرّ ابتسامة ربيعة حين رأته. لكنني شعرت براحة عميقة. ربما اقتنعَتْ لحظتها بأنه يمكن لي أن أقابل شخصا مثل درويش الذي لم يجد غضاضة من القول «وصلتني مجموعتك الأخيرة. لقد أرسل لي سمير قصير السلسلة الشعرية التي أصدرها عن دار النهار». أخذ الحديث عن بيروت جزءا كبيرا من ذلك اللقاء. الشعر أيضا. وبين لحظة وأخرى، كان يلتفت إلى الصديقة المغربية ليطرح عليها سؤالا. مضت أكثر من ساعتين. وحين أعتذر بسبب ارتباطه بأمر آخر، قال لي أن أتصل من جديد لكن ليس في الصباح، ضحكنا. وبعد أن وافق على أن نلتقط صورة نظهر فيها نحن الثلاثة، دخل إلى المقهى ليخرج من الباب الآخر، بينما استدرنا أنا والصديقة المغربية، لننزل الدرجات التي تقود إلى الساحة الكبيرة.
عدت ورأيته في باريس مرات قليلة. كنت أتصل في كلّ مرة أكون فيها في تلك المدينة. ومن بيروت كنا نتسقط أخباره وشعره الذي بدأ يعرف مرحلة جديدة، قد تكون هي المرحلة التي أسست لكلّ ما كتبه لاحقا.
المشهد الثاني..
«أمسية شعرية لمحمود درويش في بيروت بعد غياب 16 عاما». هكذا تحدثت وكالات الأنباء، في مجملها، معلنة عن الأمسية التي كان يرغب في إقامتها في بيروت. كان قد غادر باريس، واستقر ما بين عمّان ورام الله. اتصلت به في عمان، بطلب من الجريدة، من أجل تصريح صغير لنعلن عن الأمسية صباح اليوم الذي سيقرأ فيه. بدا صوته متوترا، أو هكذا خيّل إليّ، لا من الخوف مثلا، بل من هذا اللقاء الذي سيتجدد مع المكان الذي شهد مرحلة مهمة من حياته. قال لي في نهاية الحدث الهاتفي نلتقي غدا.
لم أتوقع أن أراه في اليوم الثاني مباشرة. كانت الجريدة قد سهلت لي الأمر باتصالها بالأمن العام في المطار كي أستطيع الدخول إلى صالون الشرف. لكن لحسن الحظ استطعت استقباله وهو يغادر الطائرة بعد أن التقت به على متنها الإعلامية جيزيل خوري في مقابلة تحدث فيها عن شعوره وإحساسه قبل أن يحطّ بقدميه على أرض المطار. ربما أردت تخليد هذه اللحظة، فطلبت من الزميل المصور الذي كان يرافقني أن يلتقط لي العديد من الصور معه.
كنا ستّة في الصالون: سمير قصير، فواز طرابلسي، الياس خوري، جيزيل خوري، عاصم سلام وهو. لم يكن قد رأى المدينة بعد، لكنه استرسل في الحديث عن المدينة التي وقعت ضحية خرافتها. لازالت بيروت حاضرة إذا في وجدان درويش على الرغم من كلّ هذه المسافة التي أصبح يقبع وراءها. كيف يقبع وراء الذاكرة؟ حين تلح عليه إلى هذه الدرجة. ربما من هنا، قرّر صبيحة اليوم التالي أن يزور المقبرة التي دفن فيها ضحايا صبرا وشاتيلا. كان متضايقا، ليس فقط من زيارة مكان المجزرة، بل من عدم احترام قدسيّة الموت حيث شُيّد سوق للخضار، لم تعد تعرف معه ملامح المكان...
المشهد الثالث...
هي الأمسية الأولى التي كنت أحضرها لمحمود درويش. استمعنا إليه مطولا عبر الكاسيتات التي كانت تسجل خلسة عند كل أمسية يقيمها. حفظنا طريقته في الإلقاء قبل أن نشاهده. يومها كان يوم الحشر في قصر الأونيسكو في بيروت. كأن المدينة فرغت من قاطنيها الذين أتوا وانحشروا في هذا المكان الضيق ليستمعوا إلى الشاعر. لنقل هي أكثر من «كاريزما»، إذ ما إن أطل على المسرح حتى اهتزت الجدران. كانت قراءاته لا تشبه إلا قراءته. مثلما شعره لا يشبه إلا شعره. هذا الشعر الذي مرّ بحالات متعددة. ربما كنت أفضل المراحل الأخيرة منه، إذ كنت أجد أنه استطاع أن يفتح أمامه آفاقا رحبة، لم تعد معها قصيدته واقفة عند تخوم معينة... كانت قد بدأت «حضارات» عديدة تتجمع في هذا الشعر. لم تكن قضية أن يكون عربيا حكرا على زاوية معيّنة عند درويش. فأن تكون عربيا بالنسبة إليه، معناه أن تضطلع بكل التواريخ والحضارات التي مرت على أرضنا، وبكل ما حملته معها حتى في أسوأ تجلياتها. ومع ذلك اختار أن يكون «شاعرا طرواديا» وفق ما قاله في الفيلم الذي أخرجه الفرنسي جان ـ لوك غودار بعنوان «موسيقانا». كانت فكرته الكبيرة تكمن في كيفية أن يُعبر المهزوم عن وجوده. برأيه أننا لم نستمع يوما إلى أيّ شاعر طروادي قد عبر عن الهزيمة. كلّ ما جاءنا من أخبار عن طروادة كان بلغة المنتصر. من هنا تساؤله الدائم هل أن بلدا يملك شعراء كبار كان يحق له أن يُغيب الصوت الآخر، الشعر الآخر؟
المشهد الرابع...
إثر عودته للمرة الأولى إلى بيروت بعد غياب نحو عقدين من الزمن، لم يتوقف درويش عن العودة، مرّة للمشاركة في مهرجان «حاصر حصارك» ومرة أخرى لأمسية قرأ فيها «جداريته» مع العديد من القصائد الأخرى، أو ربما من أجل توقيع مجموعة جديدة صادرة عند ناشره الأخير «رياض الريس». كانت مناسبات للقاءات سريعة، مثلما كانت مناسبات لاتصالات هاتفية حين يعود إلى عمّان. أذكر يوما دخل فيه الزميل عباس بيضون، قائلا لي فيها إن درويش اتصل به وهو يعاتب على مقالة كتبتها عنه، بالأحرى كان تعليقا على حوار أجري معه (أظن في تونس) تناول فيها «حالة الشعر» العربي الراهن. مقالة تغمز كثيرا من مواقفه التي صرح بها حول الشعر. لا أعرف لماذا لم يقل لي الأمر مباشرة. وكما عادتي، قررت أن لا أعاود الاتصال، إذ اعتبرت أنه يستطيع أن يحدثني بالأمر مباشرة. لم أكلمه منذ ذلك اليوم. هل يستحق الأمر برمته كلّ هذا العناد؟ لا أعرف. هي أشياء تحدث بهذه الطريقة في كثير من الأحيان. مثلما لا أعرف لمَ أتذكر كل ذلك الآن، وهنا بالذات. منذ سنة حاولت أن أكتب عن رحيله ولم أفلح سوى بكتابة شيء صغير لجريدة بلغة أجنبية. كأنني كنت بحاجة إلى لغة أخرى غير لغتي لأستطيع قول أشياء صغيرة عنه. وحين قررت أن أكتب اليوم، تأتي الأمور على شاكلة ذكريات. وأسأل مجددا إن كان يمكن أن أكتب بهذه الطريقة، وبخاصة أن الشخص المعني قد رحل ولا أحد غيره يمكن له أن يؤكد أو ينفي ما أقوله.
مشهد أخير (على سبيل الاحتمال..)
الأردن. آذار (مارس) 2009. مهرجان «شعر في مسرح» الذي تقيمه «فرقة الفوانيس» على هامش مهرجانها المسرحي. تدخل الشاعرة المغربية الصديقة عائشة البصري (التي كانت تشارك في المهرجان أيضا) إلى بهو الفندق. تلقي تحيّة الصباح على الموجودين على شكل دائرة، وهم يحتسون القهوة. تطلب شايا قبل أن تهمّ بالمغادرة سريعا. لكنها تعود وتهمس لي «اسكندر هل تريد المجيء معنا لزيارة بيت محمود درويش في عمان». عرفتني الى غانم زريقات الذي كان برفقة ابنته، والذي كان سيرافقنا الى هناك. حين وصلنا عرفه حارس المبنى. أدخلنا إلى هذه «الجنة الصغيرة». تجولنا ونحن لا نعرف ماذا نقول. لم تكن أصواتنا تخرج من فمنا. استوقفت الفراشات (على شكل ألعاب صغيرة) المعلقة على البراد في المطبخ، عائشة. قالت لي «سأبحث عن أثرها». لم أستطع الابتسام، بالأحرى لم أعرف ماذا أفعل. انتقلنا من غرفة إلى أخرى. توقفنا طويلا عند مكتبته التي كانت تضم الكثير من كتب الشعر. مضت أكثر من نصف ساعة. وحين نزلنا، بدأت الدموع تنساب من عيني عائشة. لم أعرف ماذا أقول لها. تسمرت مكاني. لم أستطع قول أي شيء، ولا التعبير عن أي شيء، إذ كلّ ما استطعته فتح باب السيارة لكي تصعد. عاد بنا الصديق، لكن الكلام بدا ضيقا ولا يخرج بسهولة. وكأنها رغبت في تحويل الحديث قالت لي «لقد شاهدتُ مجموعتي الأخيرة على أحد الرفوف». أجبتها «لقد رأيتها أيضا». ابتسمنا وكأننا نترك وراءنا هذه الذكرى الأخيرة. هذا المشهد الأخير لبيت كان يجب أن لا يكون هنا، بل هناك فوق الجليل الأعلى...

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...