دمشق: عروض بمواصفات عالمية

16-05-2007

دمشق: عروض بمواصفات عالمية

يستوقفنا نشاط العروض الدمشقية عند ظواهر تشكيلية جديدة، تمثل تحولاً انعطافياً على مالفنان السوري عبد الله مراد ستوى التقدم التقني والفكري وخاصة الاستثماري المحلي والعالمي ـ العولمي. هو الذي أعاد تقويم وتعويم النشاط المتدهور لصالات العرض التجارية (بدرجاتها المتعددة)، وهي التي أشاعت فوضى التدني الذوقي العام، وجنت أرباحاً سريعة مؤقتة ملبية «أمية» الطبقة الاجتماعية الموسرة الجديدة من محدثي النعمة (خاصة أصحاب الفيلات والدور المهجنة معمارياً).
وهكذا كانت أحوال الفنانين المحترفين أشبه بالمستجير من الرمضاء بالنار، إثر ترهل المؤسسات التشكيلية الرسمية على تواضع دعمها المادي وديموقراطية مساواتها النقابية بين جحافل الأكثرية من الطفيليين والهواة من جهة والمحترفين المنتجين من جهة اخرى، مما جعل الفن التشكيلي متفوقاً في تمايز أصالته على نظائره المسرحية أو الدرامية أو السينمائية أو الموسيقية. لا تقارن إلا بالقيمة الاستثنائية لكتاب الذروة من مثال زكريا تامر وحسيب كيالي، جورج سالم ومحمد الماغوط وغيرهم.
من أجل أن ندرك عمق هذا التحول الآن علينا أن نرصد معارض الموسم الراهن بصيغة انتخابية. وذلك حتى لا يتشتت انتباه القارئ أو المتذوق العارف في غمرة الحشود المتلاطمة.
سأحاول أن أقبض على ظاهرتين منها: الاولى تخص المستوى الفني الاستثنائي والثانية التي تملك إضافة الى هذا المستوى القدرة على الاداء الحرفي العالي من سينوغرافيا ومطبوعات زاهية وقدرة تقنية عاليه على التسويق المحلي والعالمي والاتصال بأصحاب المجموعات والمزادات (خاصة دورات مزاد دبي عن طريق مؤسسة كريستي).
سأبتدئ بالاولى عابراً الى معرض استثنائي تحت عنوان «الأسود والأبيض» ـ (غاليري مرسم فاتح المدرس). اجتمعت على جدرانه باقة من الاسماء المعروفة اقتصرت في اللوحات على اللونين الأسود والأبيض فقدم كل منهم لوحتين من أجمل ما صوّر خلال مسيرته العريقة. وعلى رأسهم أعمال المعلم الراحل عن المكان: فاتح المدرس.
عرضت أسماء فيومي لوحة تعكس ببلاغة عالية وجوهها الانفصامية الفارقة في سديم عجائنها المرتجفة وذات الحدة البسكولوجية المحتدمة. وتفوق أدوار شهدا في عروسته المسجاة في فراغ معراجي على تصويره المألوف، مقتصراً على درجتين من الحبر الصيني، لعل لوحة عصام درويش من أجمل ما صور في حياته، أشكال ميتافيزيقية مستلهمة من شحوب العناصر الطبيعية (توريقات الزنبق أو سواه)، وكذلك أمر معلمي عائلة الدحدوح الثلاثة، حافظ أعرقهم فائق على دهشته الدمشقية في تدافع كائناته الحسية الحالمة خلف المخادع وأقاصيص الشرق العاطفية، وكذلك أمر الأوراق الملونة للنحات فؤاد، منضماً الى خصائص التعبيرية الدمشقية، رافداً إياها بعرائسه الملونة الملتبسة التي تنضح بالحبور والغياب في آن واحد، هو حال البقية في دررهم الأحادية اللون، من غسان السباعي الى نعنع ومن سعد يكن الى عكاري والوهيبي، أما لوحة نذير اسماعيل فكانت استمراراً لمعرضه الشخصي الراهن في «صالة عشتار»، والذي تفوق فيه (بأسلوبه المعروف) على شتى معارضه السابقة. هو الفرق النوعي بين أصالته وببغائية مقلديه. (نعثر على أعماله بشكل دائم لدى «غاليري أجيال» ـ بيروت).
ورغم اقتناء الصالة عدداً من الاعمال الورقية فإن إمكانياتها لم تسمح بعمل أي مطبوعة أو إعلان، كاتالوك أو كراس.
ثم إن المعرض على أهميته لم يلق أي اهتمام نقدي أو صحافي، وهنا نصل الى الفرق الاساسي مع التقدم التقني في مؤسسة تشكيلية شابة. ولدت منذ أشهر قريبة هي «غاليري أيام» في «حي المزة» خارج دمشق.
«غاليري أيام»:
تؤسس هذا «الغاليري» لقواعد جديدة بالغة الاحتراف في علاقتها مع الفنانين والمقتنين والذواقة صمّم البناء ليكون صالة احترافية ذات مواصفات عالمية، وكذلك أسلوب العرض (السينوغرافي) ومثاله زهو المطبوعات والاعلانات وبطاقات الدعوة، والأهم من ذلك فقد حررت عقوداً متوازنة مع عدد من الفنانين المعروفين وهم: عبد الله مراد وفادي يازجي وصفوان داحول ومنذركم نقش وعبدلكي. وبمستوى جديد من حجم الاستثمار الفني والمشاركات في المزادات العالمية (بما فيها دورتي مزاد دبي) مما ثبّت اسعارهم بطريقة لائقة تماماً كما هي أرقى الصالات المحترفة في لندن وباريس ونيويورك، ودفعت بالتالي تجربة هذه الباقة الى مضاعفة الانتاج على المستوى الكمي والنوعي، والتفرغ للإنتاج، لعل أبرز معارضها التي تعكس خصوبة هذا التعامل هو معرض عبد الله مراد الذي انتهى منذ يومين ليحل محله معرض لا يقل اهمية عنه «للوحات الصغيرة» ولكامل المجموعة. نكتشف من خلاله أصالة نحت فادي يازجي المفاجئ من خلال تمثالين من البرونز بيعت منها أكثر من نسخة منذ يوم الافتتاح.
أما معرض عبد الله مراد فيستحق التوقف لأنه شكل حدثاً فنياً أصيلاً. خاصة مقارنة ببعض العروض التجريدية التي سبقته، محمولة من مستهلكات النقل عن أسوأ النماذج الغربية في باريس. (وهنا يحضر الدور التواطئي للمراكز الثقافية الغربية مؤخراً).
عُرف عبد الله ضمن «مجموعة حمص» المزدهرة ثم مشاركاته في «جماعة العشرة» الدمشقية ثم ارتباطه «بغاليري ألوان» في لبنان، ويعتبر من أبرز التجريديين بعد المرحوم المعلم محمود حماد.
عانق معرضه المذكور أشد لوحاته أصالة وتمايزاً، توصل فيها الى توليف بالغ الحساسية بين مقاماته اللونية المتوسطية الموسيقية الرهيفة والكتابات الحدسية الموازية لما بعد ألشينسكي. ضم المعرض ملصقاته الورقية الحديثة التي تكشف موهبة استثنائية في التنغيم بين هذه الملامح الكتابية او الكرافيكية من تخطيطات عضوية وإشارات، ترصعت هذه الذاكرة في بعض اللوحات العملاقة الملونة، بطريقة انسجامية عاطفية توحدية نادرة، هو ما يفسر جزئياً بيع كامل المعرض منذ الافتتاح وبأسعار فلكية جديدة لم تعرفها دمشق سابقا.
هو ما يكشف خصوبة شبكة علاقات هذه المؤسسة مع أصحاب المجموعات العالميين. علماً بأنها قدمت أربعة من مجموعة فنانيهم للمشاركة هذه في مزاد دبي وكان لهم نصيب كريم من حظوات التكريم والبيع.
يبدو أن المؤسسة جادة في تقديم وتوثيق الفن السوري، بدليل بداية تأسيسهم مجموعة مقتنياتهم الخاصة منهم، والانفتاح في العروض والمشتريات على الفنانين من خارج المجموعة. سيقام معرض بالغ العناية مثلا لسبهان آدم مرفق بكتاب ملون، يذكرنا بالكتاب الذي خصص لأعمال عبد الله مراد، والذي يتفوق على أي كتاب تشكيلي نظير صدر عن عروض العاصمة.
عرفنا مؤخراً انه أضيف الى المجموعة منير الشعراني والمصور الفوتوغرافي زغلوله، وسيقام معرض ومسابقة للفنانين الشباب.
لعله من الجدير بالذكر ان صالة محترفة افتتحت منذ ايام في مؤسسة مصطفى علي، مستقبلة معرض عالمي للصور الضوئية بعنوان: «تخفي الحدود»، تبدو الصالة والمعرض على قدم الموازاة مع «مؤسسة أيام»، هو ما يشير الى ان نموذجها بدأ يخلق التنافس الحرفي والتقني الجدي، هو ما يفسر كما ذكرت سرعة ذيول بعض صالات العرض المتواضعة المعرفة، هي التي استئثرت بأميتها ومراهقتها وتخبطها لفترة طويلة الساحة التشكيلية والاستثمارية في حركة اللوحة وعروضها. ناهيك عن تعاون غاليري أيام مع مؤسسة مصطفى علي (سيقيم معرضا لتماثيل الخشبية بعد اشهر لديهم).
لا شك بأن الفن التشكيلي السوري بدأ يأخذ ما يستحقه من اهتمام، وسط الخمول الثقافي العام.

اسعد عرابي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...