حول ضرورة العلمانية

10-04-2012

حول ضرورة العلمانية

قضية العلمانية هي قضية الساعة في العالمين العربي والإسلامي وخاصة بعد ثورات الربيع العربي والانتصارات الانتخابية الأخيرة الكاسحة للحركة الإسلامية في تونس ومصر. ورغم الانحسار البادي في حركة العلمانيين وضعف حضورهم الفكري والسياسى في البلاد الإسلامية، إلا أن ضرورة العلمانية وقوة الحجة العلمانية وسلامتها لم تتأكد مثلما تتأكد اليوم على ضوء مجموع تجارب هذه البلاد وواقع الانحطاط والتخلف الذي تعيشه والذي يلعب الإسلام دورا أساسيا في تشكيله وعيا واستجابة.

[1]

نشأت العلمانية، كما هو معروف، في سياق الصراع بين الدولة القومية والكنيسة في أوربا. ولقد كانت الشرارة التي أشعلت هذا الصراع هي التمرد الرافض الذي قاده القس مارتن لوثر في بداية القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية وفسادها، وكانت هذه بداية حركة الإصلاح الديني التي لم تقسم الكنيسة فحسب وإنما قسمت أوربا نفسها إلى أوربا كاثوليكية وأوربا بروتستانتية. ولقد أدّى هذا الانقسام، علاوة على أسباب أخرى، للحرب التي عرفت بحرب الثلاثين عاما والتي استمرّت من عام 1618 إلى عام 1648، وهي حرب ذاق فيها الأوربيون ويلات وفظائع فادحة وعظيمة. وعندما انتهت الحرب بتوقيع اتفاقية صلح ويستفاليا (Westphalia) (منطقة في ألمانيا) كانت أوربا قد تعلمت درسا هاما وهو ضرورة إبعاد الكنيسة عن شئون الدولة والحكم. ودخلت كلمة ”علمنة“ (secularization) لأول مرة في القاموس السياسي عندما استعملها الموقعون على الصلح لتدلّ على عملية نقل المناطق التي كانت خاضعة للسلطات الكنسية لسلطات جديدة غير كنسية. وكانت هذه العملية التي عبّرت عنها كلمة علمنة هي الأساس لبزوغ العلمانية (secularism) كموقف فكري يدعو لفصل الدين عن الدولة.

هذا التاريخ الأوربي ما لبث أن تداخل مع تاريخ المسلمين لأن المسلمين كانوا فعليا جزءا من أوروبا وقوة استعمارية ذات حضور وخطر منذ عام 1453 عندما سقطت القسطنطينية في يد الأتراك العثمانيين. ولقد أعقب سقوطَ القسطنطينية تمددٌ إسلامي بلغ ذروته عندما هيمن العثمانيون على أواسط أوروبا ووقعت البلقان واليونان والمجر تحت سيطرتهم ووصل جيشهم أعتاب فيينا عام 1529. وكان من الطبيعي أن تدفع الدولة العثمانية ثمن نجاحها في أوروبا إذ أصبحت قوة أوروبية تؤثر في أوروبا وتتأثر بما يحدث في أوروبا. وفي هذا السياق الكبير ما لبثت الدولة العثمانية ذات الإيديولوجية الإسلامية المرتكزة على الشريعة أن اصطدمت بالتحولات العلمانية التي عصفت بأوروبا.

ولقد واجه العثمانيون أزمة مرجعيتهم الدينية في إطار أزمة كبرى هي التحدي السياسي والعسكري المتمثل في مطامح القوى الاستعمارية الأوربية التي أرادت إضعاف إمبراطوريتهم واقتسامها. وكان من الواضح للعثمانيين منذ بدايات القرن التاسع عشر أن نظام الملل القروسطي الذي وزّع مواطني الإمبراطورية العثمانية حسب أديانهم وطوائفهم لم يعد يفي بطموحات ومطالب الواقع الجديد الذي خلقته تحولات أوروبا. وكان لا بدّ لهم من مواجهة التحدي والاستجابة له. ولقد كانت استجابة العثمانيين استجابة حكيمة ومرنة وواقعية إذ شرعوا بإدخال إصلاحات قانونية وإدارية جذرية، وهي الإصلاحات التي عُرِفت بالتنظيمات وانتظمت الإمبراطورية من عام 1839 إلى عام 1876. وفيما يتصل بالشريعة فإن حركة التنظيمات لم تحجم عن إلغاء الكثير من أحكامها ومظاهرها التي تتعارض مع روح العصر. وهكذا ألغيت في عام 1840 عقوبتا الرجم وقطع اليد، وألغي الرق وتجارته في عام 1847، وفي عام 1858 ألغي حد الرِّدّة. واحتذى العثمانيون حذو أوروبا في أمر آخر هام وذلك عندما تبنوا فكرة المواطنة (وهذه كانت من أكبر ثمرات التحوّل العلماني في أوروبا) فألغوا مظاهر تمييز الشريعة ضد غير المسلمين، والتي كان أبرزها الجزية، وساووا بين المسلمين وغير المسلمين في الشهادة وسمحوا لغير المسلمين بدخول الجيش. ولقد حاولت حركة العثمانيين الجدد، وهي حركة ترجع نشأتها لعام 1865 وشكّلها مثقفون تأثروا بأفكار الثورة الفرنسية والفكر الدستوري، إصلاح بنية النظام السياسي ليصبح نظاما ملكيا دستوريا ذا مجلس برلماني. ونجح العثمانيون الجدد في إقناع النظام بإدخال قانون أساسي عكس قناعاتهم الدستورية. إلا أن هذا النجاح كان قصير الأمد إذ ما لبث أن تحرّك السلطان عبد الحميد الثاني ضد هذه الإصلاحات وعطّل أول برلمان عثماني عام 1878.

[2]

وعلى ضوء هذا الواقع التاريخي يتّضح لنا بطلان الصورة التي يرسمها المفكرون الإسلاميون عندما يتحدّثون عن العلمانية وكأنها تجربة أوربية خالصة ولا علاقة لها بالإسلام وبواقع المسلمين إلا في سياق الهيمنة الاستعمارية. صحيح أن العلمانية كفكرة (مثلها مثل الديمقراطية التي لم يعد أغلب الإسلاميين يرفضونها) كانت بنت الواقع الأوربي وعكست تحولاته التاريخية والسياسية. إلا أن العلمانية كموقف فكري وسياسي يرتّب العلاقة بين الدين والدولة تمثّل إمكانية فكرية كامنة ومستقرّة في أي مجتمع فيه دين ودولة. وبهذا المعنى فإن الاحتمال النظري لطرح مسألة فصل الدين عن الدولة داخل المجتمع الإسلامي لم يكن يقلّ عن الاحتمال النظري لطرح نفس المسألة داخل المجتمع الأوربي المسيحي، وكل ما في الأمر أن عوامل تاريخية معينة هيأت لأوروبا أن تسبق العالم الإسلامي وباقي العالم فتتبنى الخيار العلماني (والديمقراطي) ليصبح جزءا من ثقافتها وممارستها السياسية (وتنطبق نفس الحجة على نمو العلم الحديث مثلا إذ أن الاحتمالات كانت موجودة داخل العالم الإسلامي إلا أن ظروف أوروبا وفّرت الخميرة والظرف المواتي الذي دفع بالعملية لأفقها الأكبر). وكان من الواضح للعثمانيين، وخاصة الصفوة المثقفة، أن العلمانية هي الخيار الصحيح وخيار المستقبل وأن الإسلام خيار تاريخي لا يصلح كنظام للحكم ولمواجهة تحديات العصر.

هذا الانقلاب الفكري لم يمثّله مثقفون علمانيون فقط مثل مثقفي حركة العثمانيين الجدد وغيرهم وإنما مثّله أيضا مثقفون دينيون، كان أبرزهم علي عبد الرازق (ت 1966)، تلميذ محمد عبده (ت 1905)، الذي أصدر عام 1925 كتابه الشهير الإسلام وأصول الحكم والذي رفع فيه شعار أن الإسلام ”رسالة لا حكم، ودين لا دولة“. وهكذا فرّق عبد الرازق بين الدين والدولة في الإسلام تفريقا صارما وانتقد الخلافة الإسلامية انتقادا عميقا وهاجمها معتبرا إياها سببا أساسيا من أسباب انحطاط المسلمين في أمور دينهم ودنياهم. يقول عبد الرازق بهذه الصدد ”ثم إذا الخلافة قد أصبحت تلصق بالمباحث الدينية، وصارت جزءا من عقائد التوحيد، يدرسه المسلم مع صفات الله تعالى وصفات رسله الكرام … تلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين، أضلوهم عن الهدى وعموا عليهم وجوه الحق … وحرموا عليهم النظر في علوم السياسة … والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارف عليها المسلمون … والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك خطط سياسية صرفة، لا شأن لدين بها … ولا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدّوا ذلك النظام العتيق الذي ذلّوا له واستكانوا إليه. وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وما دلّت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم.“ (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000، ص 181-182). ورغم أن عبد الرازق يتحدث وكأنه يستند على مرجعية دينية إلا أن حجته تنطلق في واقع الأمر من المنطلق العلماني المألوف الذي يفرّق بين الدين والدولة ويصرّ على الفصل بينهما. وأسلوب عبد الرازق هذا للتعبير عن علمانيته لا يختلف عن أسلوب أستاذه محمد عبده وسائر الإصلاحيين المسلمين الذين ينجذبون للمواقف التحولّية الجديدة ثم يلجأون بعد ذلك لتوطينها وترسيخها عبر منطق يعتمد لغة الخطاب الديني. وجذرية الخطاب الذي تبنّاه عبد الرازق، وهو الشيخ الذي أنتجته مؤسسة الأزهر العريقة الحاملة دوما لراية الدفاع عن التراث التقليدي، لا تبرز فقط في إصراره على التفرقة العلمانية بين ”الخطط الدينية“ (أي الدين) و”الخطط السياسية“ (أي الدولة) وإنما أيضا في تبنيه للعقل كأساس لتنظيم شئون الحياة. ولقد دلّ إصدار عبد الرازق لكتابه على شجاعة فكرية وسياسية كبيرة، إذ لم يكن إعلان رفضه للدولة الإسلامية وتبنيه للعلمانية تحديا للمؤسسة الدينية فحسب وإنما كان أيضا تحديا لرغبة الملك فؤاد الذي كان يطمح لوراثة منصب الخلافة بعد إلغاء الجمهورية التركية الوليدة للخلافة العثمانية في مارس 1924. (ولقد دفع عبد الرازق ثمن شجاعته عندما سحب منه الأزهر شهادته وأخرجه من زمرة العلماء وفصلته الدولة من وظيفته كقاض بالمحاكم الشرعية).

[3]

ولكن ما الذي حدث على مدى العقود الماضية، التي كادت تبلغ التسعة، منذ أن أصدر عبد الرازق كتابه؟ هل فقدت الحجة العلمانية قوتها ومعناها، مما جعل التيار الإسلامي يصبح تيارا شعبيا كاسحا ويمثل تيار المعارضة الأساسية في أغلب البلاد الإسلامية؟ إن أسباب صعود التيار الإسلامي وهيمنته الحالية عديدة ومعقّدة وليس هذا مجال الدخول في تفصيلها، إلا أن ما نلاحظه بشكل عام ويصلح مدخلا لحديثنا عن ضرورة العلمانية هو أن الحركات الإسلامية سواء كانت في السلطة أم المعارضة لا تستطيع تجاهل التحولات المرتبطة بعملية العلمنة في البلاد العربية والإسلامية والقفز فوقها.

دعنا نبدأ الحديث عن ضرورة العلمانية بالحديث عما نعنيه بالتحولات المرتبطة بعملية العلمنة (secularization). رغم أن ثمة تداخل وعلاقة بين العلمانية والعلمنة، إذ يرتبط كلاهما بالعلاقة بالدين، إلا أن العلمنة تدلّ على عملية اجتماعية متميزة ومستقلة إلى حد عن العلمانية. فبينما أن العلمانية تعبّر عن موقف فلسفي وسياسي يدعو لفصل الدين عن الدولة، فإن العلمنة تعبّر عن مجموع التحولات الاجتماعية والمعرفية وتحولات القيم التي تضعف هيمنة الدين في حياة الناس وتنزع سلطته تدريجيا، وهي العملية التي لخّصتها العبارة الجامعة للاجتماعي الألماني ماكس فيبر (ت 1920) عندما تحدّث عن ”نزع السحر عن العالم“(“disenchantment of the world”). ولعل أبرز وأهمّ تحوّل اجتماعي في المجتمعات الإسلامية في القرن العشرين هو خروج المرأة من البيت وانخراطها في العملية التعليمية والانتاجية جنبا إلى جنب الرجل، وهو خروج ما لبثت المؤسسة الدينية أن قبلته رغم مقاومتها له في البداية (وهي مقاومة لا نزال نشهد ذيولها ممثلة في موقف حركة طالبان في أفغانستان). وعلى المستوى المعرفي نجد أن الدين في عالمنا المعاصر قد فقد هيمنته المعرفية في تفسير العالم، إذ ظهر نشاط معرفي آخر، وهو العلم الحديث، ينافس الدين في تفسير العالم ويتفوّق عليه، مما جعل الدين بشكل عام يتراجع كمصدر لمعارفنا عن العالم. ويمكننا أن نقول نفس الشيء بشكل عام عن مجال القيم إذ أن أحكامنا الأخلاقية مثلا لم تعد تخضع في كل الأحوال للمرجعية الدينية. وهكذا ورغم الحضور الكثيف والخانق للخطاب الديني في العالم الإسلامي، ورغم القوة السياسية الكاسحة للحركات الإسلامية وأحيانا عنفها التصفوي في مواجهة خصومها، ورغم الانتشار الكثيف للرموز الخارجية للتدين الاجتماعي (وأبرزها الحجاب) إلا أن السياق العام هو سياق علمنة تجرّد الإسلام من سلطته تدريجيا ولا يستطيع منها فكاكا، مثله في ذلك مثل سائر الأديان في عالمنا المعاصر.

ومثلما عنت العلمانية في حدّها الأدنى في أوروبا فصل الدين عن الدولة وعنت في حدّها الأعلى إبعاد الدين عن المجال العام ليصبح نشاطا مقتصرا على المجال الخاص والشخصي لا يخرج عنه (وبذا يصبح علاقة بين الإنسان وموضوع عبادته)، فإنها تعنى فى سياق الإسلام نفس الشيء. وهكذا فإن العلمانية في العالم الإسلامي هي نقيض الدولة الإسلامية، سواء كانت هذه الدولة مظهرا متحققا (كما هو الحال في السعودية وإيران مثلا) أم مشروعا قيد التحقق (كما هو الحال في مصر أو تونس مثلا). وكفاح العلمانيين في العالم الإسلامي اليوم هو بشكل عام كفاح في مستوى الحد الأدنى، والاستثناء الوحيد هو تركيا حيث نجد أن الإسلاميين قد قبلوا بالعلمانية في مستوى الحد الأدنى (أو على الأقل قد أعلنوا قبولهم لها) وأن العلمانيين يكافحون لرفع الالتزام العلماني للحد الأعلى باعتبار أن ذلك هو ما يشكّل الضمانة الحقيقية لحماية الإنجاز العلماني على المدى البعيد.

وربما يتراجع الإسلاميون في بلاد إسلامية أخرى مثلما تراجع اسلاميو تركيا، وربما يكون هذا التراجع في حالة الحركة التركية أو أية حركة أخرى تراجعا حقيقيا مستندا على مراجعة مخلصة لموقفهم الفكري وربما يكون تراجعا تكتيكيا القصد منه انتظار ظرف أفضل للانقضاض على العلمانية. إلا أن كل ذلك يجب ألا يعني شيئا للعلمانيين إذ أن طبيعة معركتهم الفكرية والسياسية ضد الدولة الإسلامية لن تتغير، فهي معركة من أجل الديمقراطية والحريات الأساسية وأشكال التحقق والتفتّح الإنساني التي لا يمكن أن تتحقق في ظل دولة دينية.

[4]

سنركز في حديثنا على ضرورة العلمانية على مستوى ما وصفناه بالحد الأدنى لتحقّقها وهو فصل الدين عن الدولة. وبهذا الصدد سنقتصر على حجتين أساسيتين وهما حجة الحرية الفكرية وحجة المواطنة.

تقف مسألة حرية الفكر والضمير والدين في قلب المواجهة الفكرية بين العلمانية والمشروع الإسلامي. وهذه الحرية تمثّل في واقع الأمر حجر الزاوية الذي يستند إليه الموقف العلماني في نقده للدولة الدينية ورفضه لها. فالدولة الدينية، في تجلياتها المسيحية التاريخية وفي تجلياتها الإسلامية التاريخية والمعاصرة، تتسم على الدوام بمعاداتها لحرية الفكر والعقيدة. ويظهر هذا العداء في أغلظ تجلياته في عصرنا الحالي في البلاد التي تحتكم للشريعة الإسلامية مثل السعودية وإيران والسودان والتي تحرّم قوانينها الجنائية الخروج عن الإسلام وتعاقب من يبدّل دينه بالقتل. ولقد امتدّ هذا الحَجْر والعنف الديني ليطال أفرادا علمانيين استباح الإسلاميون دماءهم وقتلوهم مثل ما حدث للعلماني المصري فرج فودة عام 1992. ويجب ألا نستغرب مثل هذه المقاومة لحرية الفكر ومثل هذا العنف في السياق الإسلامي المعاصر إذ أن ذاكرة الحركات الإسلامية تستلهم دولة محمد وخلفائه في المدينة وهي دولة تلازمت نشأتها، تاريخيا، مع قهر المشركين وإجبارهم على قبول الإسلام ولم تقبل بحرية من أصبحوا مسلمين من المشركين أن يعودوا لشركهم.

إن الحرية الفكرية هي الشرط الأولي الذي تستند عليه الديمقراطية، إذ لا ديمقراطية بدون حرية سياسية وفكرية ودينية. وانطلاقا من هذا فإن الموقف العلماني يساوي بين الأديان والمعتقدات ويصرّ على ضرورة خلق أرضية مستوية لا يتميز فيها أصحاب أي دين أو معتقد على أصحاب الأديان أو المعتقدات الأخرى. وبالمقابل فإن الدولة الدينية تصرّ على ضرورة التمييز لصالح دينها. وهكذا نجد مثلا أن الدولة القائمة على الشريعة الإسلامية تشجّع المواطنين على ترك أديانهم واعتناق الإسلام (وربما تجبرهم على ذلك إن كانوا ”مشركين“ أو ”وثنيين“) وتعاقب من يترك الإسلام. ولقد أدّى السياق العلماني لنتيجة تبدو وكأنها مفارَقة إذ توفّرت للأديان، كل الأديان، حريات وضمانات في هذا السياق ربما تكون غير مسبوقة في تاريخ المجتمعات الإنسانية. والمسألة الهامة التي لابد من التأكيد عليها في هذا المقام أن الوضع الأمثل الذي تتاح فيه لأصحاب الأديان والمعتقدات حريتهم الكاملة في الممارسة والتعبير من غير أن يتغولوا على حريات الآخرين يرتبط بشرط الديمقراطية، إذ أن غياب الديمقراطية من الممكن أن ينتج عنه نظام علماني استبدادي. وعندما نتمعّن العلاقة بين العلمانية والديمقراطية فإننا نجد أن النظام الديمقراطي هو نظام علماني بالضرورة، إلا أن هذا لا يعني أن النظام العلماني نظام ديمقراطي بالضرورة. ومثلما قدّمت أوروبا نموذج الدولة العلمانية الديمقراطية فإنها قد قدّمت أيضا نموذج الدولة العلمانية الاستبدادية. وهكذا رأينا في حالة أنظمة أوروبا الشرقية الشيوعية مثلا نماذج الدولة التي أعلنت إلحادها، وهو وضع حوّل الإلحاد لمعتقد رسمي تحميه الدولة وميّزت الدولة بالتالي ضد الأديان وباقي المعتقدات. وهكذا فالوضع الأمثل للدولة العلمانية هو وضع الدولة العلمانية الديمقراطية، وهي دولة ليست بمؤمنة وليست بملحدة وإنما تلتزم الحياد التام بإزاء الدين.

نأتي الآن إلى مسألة المواطنة. إن المواطنة بمفهومها المعاصر تعني المساواة بين المواطنين في حقوقهم المدنية والسياسية والاجتماعية، وهي حقوق قد أصبحت في العالم الديمقراطي حقوقا دستورية بمعنى أن قانون الدولة الأساسي أو دستورها يضمنها ويحميها. وهذا المفهوم المعاصر للمواطنة مفهوم علماني نشأ تاريخيا في أوروبا في معارضة مفهوم الدولة المسيحية للمواطنة. إلا أن المنشأ الأوربي لفكرة المواطنة القائمة على المساواة لا يعني بأن المفهوم غريب على الواقع الإسلامي. فالإسلام مثله مثل المسيحية يفهم المواطنة فهما يقوم على التمييز بين المواطنين. ولقد ميّز الإسلام تاريخيا بين المسلمين وغير المسلمين وبين الرجال والنساء وبين الأحرار والعبيد. وعند تحليل مراتب المواطنة حسب رؤية الشريعة الإسلامية يتبيّن لنا أن المواطنين ينقسمون لأربع درجات: فالرجل المسلم الحرّ مواطن من الدرجة الأولى، والمرأة المسلمة الحرّة مواطنة من الدرجة الثانية، والكتابي (أي اليهودي أو المسيحي) مواطن من الدرجة الثالثة، والعبد مواطن من الدرجة الرابعة. أما المشرك فيسقط عنه حق المواطنة تماما ويصبح طريدا مطاردا يُخيّر بين الإسلام والسيف.

وفي السياق المعاصر الذي زال فيه الرق فإن المواجهة مع المشروع الإسلامي تتركّز على حقوق المرأة وحقوق غير المسلمين. فكل أشكال التمييز ضد المرأة (وأبرزها قوانين الأحوال الشخصية والميراث والشهادة) وكل أشكال التمييز ضد غير المسلمين هي أشكال تمييز يجب أن تزول حسب منطق المواطنة القائمة على المساواة. وتظل مواجهة أشكال التفرقة والتمييز هذه من كبرى واجبات العلمانيين في العالم الإسلامي اليوم.

[5]

كان من المأمول أن تدخل البلاد العربية والإسلامية القرن الواحد والعشرين وقد حسمت مسألة الدولة الدينية واحتضنت أنظمة ديمقراطية علمانية. إلا أن ذلك لم يحدث. فالبلاد الإسلامية بشكل عام هي من أكثر البلاد التي تعاني من عجز ديمقراطي وعجز في مجال احترام حقوق الإنسان. ونجد اليوم أن الإسلام كإيديلوجية سياسية هو أكثر الأديان مقاومة للعلمانية وأن الدول الدينية لا توجد إلا في العالم الإسلامي (باستثناء الفاتيكان). ولقد أدّى صعود الخطاب الإسلامي والحركات الإسلامية لانتشار التعصب وصعود العنف الذي ما يزال يدفع ثمنه الباهظ المواطنون في العديد من البلاد المسلمة. إن الدولة الإسلامية بتجلياتها المعاصرة والحركات الإسلامية قد أدخلت العالم الإسلامي اليوم في أزمة عميقة. ولكن هذه الأزمة لا تعني أن شعوب العالم الإسلامي لا تملك من مصادر القوة الداخلية ما يجعلها تتجاوزها. وإن كانت شعوب العالم الإسلامي قد أدركت إدراكا مباشرا أن الخروج من الأزمة يقتضي الديمقراطية فإنها ستدرك أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون ديمقراطية حقيقية تضمن حرية المواطنين ومساواتهم التامة من غير العلمانية.
 
هامش:
- العلمانية هنا بفتح العين وليس بكسرها كما ينطقها البعض. وعلمانية تقابل في الإنجليزية كلمة (secular)، والأصل اللاتيني لهذه الكلمة يأتي من كلمة (saeculum) بمعنى العالَم. وبذا فإن الاشتقاق في كلمة عَلماني من كلمة العالم وليس من كلمة العِلم. ولقد ذهب البعض إلى أن الاشتقاق من كلمة العالم اشتقاق غير صحيح. إلا أن هذه الحجة تهمل الجانب المفهومي للكلمة، وهو الجانب الأساسي، لتركّز تركيزا شكليا على منطق القواعد الصرفية للغة العربية. والخلط الآخر الذي يقع، وغالبا ما يقع بشكل متعمّد لاعتبارات السياسة، هو استبدال كلمة علماني بكلمة ”مدني“، إلى حد أن البعض يتحدث عن ”دولة مدنية“. بالطبع لا يوجد شيء اسمه ”دولة مدنية“، وكلمتا ”علماني“ و ”مدني“ تعبران عن مفهومين مختلفين. فإن كان المعنى الأساسي لكلمة علماني هو فصل الدين عن الدولة فإن كلمة مدني تشير للنشاطات والتكوينات الاجتماعية التي ينضم لها المواطنوان بشكل طوعي. ومجموع هذه التكوينات يطلق عليها اسم ”المجتمع المدني“ وهي تكوينات توجد في فضاء متوسط يقع بين الدولة (ذات السلطة القهرية في علاقتها بالمواطنين إذ أن التعاقد معها قائم على الخضوع لقوانينها) والأسرة (الوحدة الاجتماعية الأساسية التي نولد فيها ويبدأ تطبيعنا الاجتماعي في سياقها).

محمد محمود

المصدر: الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...