المهرجانات السينمائية العربية تكبر ولا تعمّر

07-09-2008

المهرجانات السينمائية العربية تكبر ولا تعمّر

الكثير من الحديث تم طرحه في وسائل الإعلام عن المهرجانات العربية من زاوية كثرتها وتنافسها فيما بينها. لكن المشكلة الأساسية ليست في العدد ولا في المنافسة والتنسيق او عدمه، كما يكشف التحقيق التالي.

إذا ما كان الزحام شديداً بين المهرجانات العربية في الفترة القريبة المقبلة فإن الزحام أشد هذه الأيام بين المهرجانات الدولية جميعاً.

عربياً، ستنطلق الدورة الثانية من مهرجان الشرق الأوسط في أبوظبي، حاملة عزم فريقه على تفادي تلك الشوائب التي علقت في بعض الأذهان إثر الدورة الأولى والتي تناولها بعض الصحافيين العرب سواء في بعض المطبوعات التجارية او على الإنترنت. وهي في النتيجة شوائب لابد من بعضها على الأقل، كون كل بداية لها عثراتها ومن المجدي الإنصات الى الأصوات المسؤولة التي تستطيع أن تدلي برأيها في هذا الشأن، أصابت أو لم تصب.

بعده يأتي دور مهرجان دمشق السينمائي الدولي في ثاني مرّة بعد تحوّله الى دولي، وهو الذي كان في دوراته الثلاث عشرة السابقة، مهرجاناً للدول اللاتينية والآسيوية والإفريقية وحدها. يرأس المهرجان محمد الأحمد الذي يعوّض القدرات الماديّة المحددة (ولا أقول المحدودة) التي في متناول يده بذلك السعي الحثيث الناتج عن حب كبير للسينما وعن ثقافته الواسعة فيها.

ثم تتوالى مهرجانات سينمائية أخرى: فهناك مهرجان مرّاكش السينمائي الدولي الذي هو الأكبر في ذلك الجزء من العالم العربي، ويُقام بتمويل مباشر من القصر الملكي ويرأسه فرنسيون طامحون لتحويله الى مقصد أوّل في العالم العربي بين سينمائيي العالم، كما الحال في الجانب الاقتصادي حيث تطمئن هوليوود الى المغرب لتصوير أفلامها كلما كان لديها مشروع يتطلّب صحراء أو قصّة تدور بشكل رئيسي او جانبي في العالم العربي.

بعده، بين الكبيرة وحدها، يأتي دور مهرجان القاهرة الذي يمتد أفقياً حتى الآن فميزانيّته تبقى محدودة في وجه تصاعد التكاليف، ومهامه تبقى خليطاً من النيّات والرغبات غير المدعومة بانجلاء الصورة عما يريد أن يكون لجانب أن يستمر، خصوصاً في مواجهة المهرجانات العربية الكبيرة.

وينتهي الموسم العربي بمهرجان دبي الذي رسّخ وجوده في خمس سنوات متعاقبة ويتطلّع الآن الى سنة سادسة يؤكد فيها حضوره. تحت إدارة مسعود أمر الله برهن المهرجان عن خبرة في إدارة دفّته لتشجيع مختلف العروض السينمائية المحلية والعربية والعالمية. وبإضافة سوق سينمائي هذا العام، سيوسّع إطاره ليشمل المحيط التجاري جاذباً إليه الموزّعين العرب والأجانب على حد سواء. كيف سينتصر هذا السوق على المبدأ الراسخ لدى أصحاب شركات التوزيع العرب الممتنعين حتى الآن عن توفير حق المشاهد في دولة الإمارات مشاهدة أفلام من كل مكان وصوب (وبالتالي ضمان جودة تنعم بها معظم الأفلام الأمريكية والهندية والمصرية المعروضة) هو أمر يبقى مصدر تساؤل.

مشكلة الأماكن

إذ يطوي مهرجان فينيسيا صفحة الدورة الأخيرة ذات الرقم ،62 تتبدّى الدورة المنتهية عن صعوبة إنجاز مهرجان عالمي غربي هذه الأيام يريد من ناحية أن يُعرف بأنه يعرض أفضل ما في فن السينما من أعمال، ويريد أن يجذب كذلك أكثر الأفلام ترصّعاً بالنجوم العالميين.

الموقف، كما شرحناه قبل أسابيع قليلة على هذه الصفحة، تبلور مع نهاية الدورة الى وضع أشبه بالمأزق: لا يستطيع المهرجان العودة الى الوراء أيام كان أفضل مهرجان كبير لعرض الأعمال الفنية من دون حسبان العامل التجاري، ولا يستطيع الكبر أكثر مما فعل الى الآن. السبب في هذه الناحية الأخيرة سهل التحديد.

يُقام المهرجان فوق جزيرة صغيرة مستطيلة يمكن قطعها مشياً من أوّلها الى آخرها في نحو نصف ساعة من دون توقّف. لكن ليس هناك حاجة لمثل ذلك، لأن المهرجان وعروضه يكمن في وسطها بينما تنتشر الفنادق بين قريب جداً وبعيد بعض الشيء (الا إذا اضطر أحد الى المبيت في فنادق الجزر الأخرى). المساحة المكانية الضيّقة ينتج عنها مساحة المدينة الضيّقة أيضاً التي لا تستوعب سوى المهرجان والفنادق والمطاعم. لكن المهرجانات إذا ما أرادت أن تكبر وتنتعش من الأفضل لها أن تقام في مدن وليس فوق جزر.

المساحة الجغرافية او المكانية المحدودة لم تكن ذات عامل يُذكر من قبل حين كان المهرجان راغباً في البحث عن المخرج قبل النجم. أما وقد رغب في أن يصبح مساوياً لمهرجان “كان” الفرنسي في السعة والجذب الإعلامي فإن هذه المساحة هي جزء من المشكلة.

لكن الحصار المهم الثاني هو وقوعه بين شتّى المهرجانات المنافسة الأخرى. كارلوفي فاري في جمهورية التشيك ولوكارنو في سويسرا ينفذان كونهما يمرّان، كل بمنهج وأسلوب خاص به، قبل الوصول الى عنق الزجاجة. حالما ينتهي لوكارنو في منتصف أغسطس/ آب تصل المهرجانات الى مضيق. ينطلق مونتريال، الذي خسر ريادته لكنه لا يزال يعمل بمواصفات المهرجان الكبير، أولاً وقبل نهايته يبدأ مهرجان فنيسيا، وقبل نهاية هذا الأخير يبدأ تورنتو، وقبل نهاية تورنتو ينطلق دوفيل (الذي قد لا يكون عالمياً لكنه مليء بعروض البرميير الأمريكية) ويتبعه كل من سان سابستيان وروما ولندن. وهذه المهرجانات هي فقط الأساسية.

ما يسبق فينيسيا ليس ما يقلقه، بل مهرجانين فقط باتا يشكّلان عائقاً آخر ضد ضمان أفضل بريق على الصعيد الفني او الإعلامي وهما تورنتو وروما. الأول راسخ في القدم والمكانة بين المهرجانات السينمائية الدولية ويختلف عن معظمها في كونه يضمن للراغبين في البحث عن أفلام فنية سيلاً هائلاً من هذه الأفلام عبر قبوله بأعمال سبق لها أن عرضت في المهرجانات الرئيسية الأخرى، ومن بينها فينيسيا، ويضمن أيضاً للباحثين عن الصفقات التجارية ما تصرف المهرجانات الأخرى عادة ملايين الدولارات لتأسيسه وهو السوق السينمائي. تورنتو بلا سوق، لكن حقيقة أنه يقع عند النافذة الشمالية للسوق الأمريكية، ووقوعه في مطلع الموسم الشتوي يجعله مقصداً حقيقياً لهوليوود وللشركات الأوروبية وكثير منها امتنع هذا العام عن التوجّه الى الجزيرة الإيطالية.

أهمية العروض العالمية الأولى

وسط هذا الوضع العربي من ناحية والعالمي من ناحية أخرى، لابد من السؤال التالي: ما هو المطلوب من مهرجان عربي لكي يصبح قادراً على الدخول في منافسة نافعة مع المهرجانات الدولية الأخرى؟ او أن هناك مهرجاناً عربياً نجح فعلاً في هذه الخطوة؟

الجواب ليس بنعم أو لا فقط، علماً بأنه إذا كان لابد من ذلك فالرد الأقرب هو لا.

حتى اليوم، ومع الباع الطويل لبعض المهرجانات العربية (القاهرة تحديداً) لا يزال من الصعب على هذه المهرجانات مجتمعة الانتقال من دور العارض الى دور الفاعل. السبب غير خاف لكن قليلين هم الذين يكترثون لتحديده اوأساساً للموافقة عليه.

الفارق بين مهرجان يعرض ومهرجان يفعل هو الأرضية التي يُقام فوقها المهرجان السينمائي وما إذا كانت عارضة او فاعلة بدورها. للإيضاح خذ أيّاً من المهرجانات العربية المذكورة في مطلع هذا البحث وانظر الى النخبة من الأفلام التي يعرضها. ستجد أنها موجودة هناك لأنها متوفّرة -سواء أكانت عرضاً عالمياً اوّلاً او لا- لأن المهرجان سعى حثيثاً لاستقطابها، وهذا ليس أمراً سيئاً، بل على كل مهرجان أن يسعى لاستقطاب الأفلام التي يريد ودبي وأبوظبي والقاهرة ومرّاكش نجحت حتى في اختيار عروض عالمية أولى ما يعزز عامل الجذب واللمعان الإعلامي لكل منها.

لكن طالما أن الفيلم يأتي للعرض ثم يعود الى مصدره او ينتقل الى مهرجان آخر فإن المهرجان العارض ليس فاعلاً حقيقياً. المهرجان الفاعل هو ذلك الذي يستطيع أن يقول للسينما العالمية (من منتجين ورؤساء ستديوهات وموزّعي أفلام وميديا عالمية من شتّى الوسائط): أسمعوا. سوق التوزيع والعروض السينمائية لدينا نشطة ولديك إمكانيات متعددة من بينها بيع فيلمك للتوزيع في المنطقة شرق الأوسطية، او لعقد صفقة إنتاجية لمشاريع مستقبلية.

الناحية الرئيسية في هذا الوضع هو ماذا يريد المهرجان أن يفعل؟ أي هوية يريد أن يحمل؟ ما هي الثياب التي يريد ارتداءها؟

أيريد هوية فنيّة- ثقافية كتلك التي كان مهرجان فينيسيا يوفّرها أكثر مما بات يفعل الآن، او هوية جامعة كتلك التي لمهرجان “كان”؟ هل يريد التخصص في سينما تفيد المشاهدين او سينما تجلب المدعوّين والضيوف؟

الى الآن، معظم المهرجانات الأولى في عالمنا العربي هي من الفريق الثاني. أي أن الاستثناء الوحيد بينها هو مهرجان دمشق (وعلى مستوى المهرجانات الصغيرة معظمها) هذا لا يعني أن المهرجانات الأخرى تضيع الجهد والمال هباء. على العكس، تجلب أفلاماً مهمّة وتنشد أيضاً جذب الجمهور الذي لا يستطيع مشاهدتها الا إذا سافر وراء تلك الأفلام ليشاهدها في باريس او طوكيو او (حتى) أثينا.

وهي إذ تفعل ذلك تضع المدينة وبالتالي البلد وثقافته على الخريطة العالمية على نحو او آخر.

لكن كل هذا لا يعني الكثير للوسط السينمائي العالمي ما يفسّر لماذا “كان” هو “كان” وأي مهرجان عربي او هندي او روسي او سكندنافي هو أمر مختلف.

ما يهم المنتج ورئيس الاستوديو وصاحب الشركة الإنتاجية والموزّع النشط من كل المهرجانات هو المصلحة الصناعية- التجارية. إذا كان سيحقق ذلك عبر استلامه جائزة متّفقاً عليها (مثل جائزة خاصّة عن أعماله وإنجازاته) هذا حسن. إذا كان سيبيع إنتاجه لموزع محلّي، هذا رائع. إذا كان سيحظى بعرض فيلمه في هذا المهرجان على تغطية إعلامية واسعة تساعده على بيع الفيلم او الترويج له في أسواق أخرى حتى ولو كانت غير عربية، فهذا رائع أيضاً.

حين لا يستطيع المهرجان العربي فعل أي شيء من هذه الأمور وتوفير أي دعم على هذا النحو، فإنه بالتالي مهرجان يمضي ويكبر ويعمّر على صعيد المنطقة، لكنه لن يستطيع الانضمام عملياً الى تلك المهرجانات الكبيرة الأخرى التي يتوافد عليها المنتجون من كل أنحاء العالم.

- لقد انتبه مهرجان القاهرة قبل سنوات عدّة الى أهمية تفعيل السوق المحلّية فأقام سوقاً للأفلام. كذلك فعل، وقبله في الواقع، مهرجان قرطاج. لكن كلاهما لم يمض طويلاً في هذا الدرب لأن السوق المشادة لم تنجح في تحقيق غاياتها. هذا هو وضع خطير آخر، فحتى ينجح سوق ما في عملية جذب البائعين عليه أن يجذب المشترين ولكي يجذب المشترين عليه أن يقنع هؤلاء أن السوق المحلية لديها قاعدة تجارية والا لا وجود لتصريف ما يشتريه.

بالتالي، مفتاح المسألة كلّها هو في السوق الوطنية بداية من وجود جمهور يريد مشاهدة الفيلم الفرنسي او الياباني او التونسي او السويدي كما يوجد جمهور يريد مشاهدة الفيلم الأمريكي والمصري. عند هذا الحد تُغلق الدائرة على نفسها. هل هناك منفذ ما؟

هناك مسارات يمكن للمهرجانات العربية اتخاذها رغم المشكلة المثارة. أحدها هو أن تبقى ماضية في طريقها الحالي متقدّمة فيما خططته او بانية على ما وصلت إليه صرحاً لا يتقدّم كثيراً بعد وصوله الى سقف معيّن، لكنه ليس مرشّحاً للتأخر المفاجئ او السقوط من دون مبررات مسبقة. مسار آخر هو أن يبحث عن صفقات يعقدها مع مهرجانات أخرى يزاملها ويعتمد عليها وبذلك ينشّط جزءاً من آليّته. مسار ثالث هو أن يستغل الفرصة المتاحة ويسبر غور هذه المشكلة ليرى كيف يمكن له أن يحلها. في هذا المسار الثالث سيجد نفسه أمام معضلة خاصّة: هل عليه أن يؤسس جمهوره حتى ولو اشترى تلك الأفلام؟ إنها ذات المعضلة التي رفض البحث فيها حينما طولب، من قبل مثقّفين، القيام بإنتاج الأفلام العربية. في كلا الحالتين لا يستطيع أن يفعل ذلك الا بقرار يتطلّب الكثير من العزم والجرأة والاختلاف.

محمد رضا

المصدر: الخليج

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...