التحولات الدينية والثقافية في الزمن العربي الحاضر

02-08-2008

التحولات الدينية والثقافية في الزمن العربي الحاضر

على مدى العقود الخمسة الماضية ساد في الإسلام السُنّي اتجاهان رئيسيان: الاتجاه السلفي، والاتجاه الأصولي. وفي حين تعامل الاتجاه الأول مع الجانب الديني لأهل «السنّة» والجماعة، فإنّ الاتجاه الأُصولي (من جانب الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية بشبه القارة الهندية) انصرف للعناية والاهتمام بقضايا الجماعة)، أي الأمور المتعلقة بالشأن العامّ. وقد استطاع السلفيون على اختلاف درجات تشدُّدهم انجاز مفهومٍ تجريدي للدين، صار شبه رسميٍ أو سائد، باستثناء الأوساط الصوفية. أما الإخوان ومفكرو الجماعة الإسلامية، فقد استطاعوا تحويل المفهوم التاريخي للجماعة (وهو مفهومٌ كان الشيخ محمد عبده قد رأى انه يقول بمدنية السلطة والدولة) الى دينٍ من الدين، عبر القول بالنظام الشامل، وبالحاكمية، أي بالدولة الدينية والتي مرجعيتها الشريعةُ وليست الجماعة.
وقد مرَّ الشيعةُ مثل السُنّة في مرحلتي تطورٍ وتغيير: المرحلة الإصلاحية، والمرحلة الأُصولية. وعندما كان الإخوانُ يشرفون على إنجاز تحويل مفهوم الجماعة الى شرعٍ ودين، كانت الثورة الإسلامية في ايران، تقوم بالشيء نفسه، أي تُقيم دولةً دينيةً بالبلاء من ضمن مقولة ولاية الفقيه.
وما اصطدمت الأُصوليتان، لتشابُه الأهداف، واختلاف المدى الاستراتيجي، وعناية كلٍ منهما بمجالها الخاصّ. بيد أن وصولَ الولي الفقيه الى رأس السلطة في الدولة القومية الإيرانية، فتح المجال لإمكانيات التصادم. ذلك أن «ولاية الفقيه» أرادت تصدير رؤيتها الدينية الى الشيعة في العالم، وبخاصةٍ في الجوار العربي. وركبت في هذا المجال على المدى الجيوسياسي للدولة القومية الإيرانية، فتزاوج العاملان الديني والوطني، مما زاد من الحساسيات، ورفع من احتمالات التصادُم بعد التوتُّر والتوتير. فقد حقّقت ولايةُ الفقيه/ الدولة الوطنية والقومية، اختراقاتٍ في الجوار لدى الطوائف الشيعية، والتي حدثت بداخلها وفي توجهاتها وطرائق عيشها وتفكيرها، تحولاتٌ وتغيراتٌ كبرى، في رؤيتها لنفسها ودورها في مجتمعاتها العربية (والإسلامية)، وفي علائقها بإيران مصدر الإلهام. وهكذا فالتوتر الشيعي/ السني، ناجمٌ عن ثلاثة عوامل: وجود الأصوليات المتنابذة لدى الطرفين، والطموحات المذهبية والقومية للقيادة الإيرانية، والسياسات الدولية. فولايةُ الفقيه تجد أن من حقها الاستئثار بولاء الطوائف الشيعية خارجها، ليس من أجل نُصرة تلك الرؤية داخل المذهب الشيعي فقط، بل وللحصول على نفوذٍ يخدم المصالح الاستراتيجية للدولة القومية الإيرانية.
وهكذا ينطرحُ ملفٌّ ثالثٌ شديد الأهمية، يعلّل أيضاً ولو جزئياً التوتر السائد، فالأُصوليتان تملكان رؤيةً تقول بالدولة الدينية (دولة الفقيه لدى الزعامة السياسية/ الدينية بإيران، ودولة الشريعة، لدى الإخوان والجماعة الإسلامية، ومتفرعاتهما). لكن في حين وصلت النخبة الدينية الشيعية الى السلطة في بلدٍ رئيسي في العالم الإسلامي، هو ايران - ما استطاعت الأُصولية السنية الوصول الى ذلك، ولذا فهناك صراعٌ مستميتُ على السلطة بين الأنظمة العربية ومعارضاتها الإسلامية، في حين يجري تبادلُ الخدمات بين ولاية الفقيه والدولة القومية بإيران. ومن هنا ذلك الدعم الخفي أحياناً، والظاهر أحياناً أُخرى من جانب ايران للأصوليات المعارضة في الوطن العربي، ليس لأنّ رجال الدين الإيرانيين يريدون الدولة الدينية السنية، بل لأنّ عندهم مشكلات مع الأنظمة العربية الكبيرة، وهي مشكلاتٌ ذاتُ أبعادٍ جيوسياسية وجيواستراتيجية.
أما في المجال العربي والإسلامي السني، فإنّ الصراع تزايد وتصاعد بين الإسلام السياسي والدولة بسبب التنافُس على السلطة طبعاً، لكن أيضاً لشعور الإسلاميين بعد تطور نظريتهم بشأن الحاكمية والدولة الدينية، بأنهم مُكلفون باستعادة الهوية والانتماء، وبضرورة تطبيق شريعة الله في الأرض. وقد كان ممكناً التخفيف من حِدَّة الصراع بالعودة الى الزمن التاريخي حيث كان هناك فرقٌ وتواصل بين الشريعة والسياسة، وحيث كان هناك مجالان ديني شعائري، ومدني مصلحي (وهو أمرٌ تُقرُّه السلفيةُ التقليدية عندما تقول بالطاعة والنُصرة لوليّ الأمر، خارج المجال العُقَّدي)، لولا أن الإصلاحيين القائلين بمدنية السلطة في الإسلام وتجربته التاريخية، قد تضاءل نفوذُهُم ودُمغت مقولاتُهُم بالعلمانية والتغريب. ثم لولا التحويلُ الكبيرُ الذي أنجزه الأصوليون (الإخوان والجماعة الإسلامية) في مفهوم «الجماعة» حين جعلوا المرجعية العليا في الشأن العامّ، ليس للشورى والإجماع، بل للشريعة، فصار الأمرُ كلُّه عقدياً بحتاً.
وقد حاول إسلاميون معتدلون إدخالَ بعض الهواء والنسائم الى تلك القاعات المُوصدة، من طريق مراجعة أفكار ومقولات ورؤى الاختلاف والتعدد في القرآن والفقه. وقد أفادوا في ذلك من الأجواء العالمية، ومن نقاشات التعددية في أوساط العلمانيين، والأقليات المسيحية وغير المسيحية في الوطن العربي. بيد أن الأجواء كانت وما تزال ملبدةً بالمخاوف على الهوية، وهي مخاوفُ من أن يكونَ الاختلاف والتعدد مدعاة تفرقة، واستغلال ضد الأمة من جانب الأجانب والأقليات!
ويبقى ملفٌ خامسٌ يرتبط بما سبق ذكره، هو ملف مصائر المسيحيات العربية. فلا ننسى أن أولَ نقاشٍ عن مدنية السلطة ومدى انفصالها عن الدين، في المجال العربي، كان بين فرح انطون الذي استند الى ابن رشد، ومفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده، الذي لم يُجارِ فرح انطوان في الفصل بين الدين والدولة، كما في فرنسا، لكنه نادى بالفعل بمدنية الدولة في الإسلام. وما زاد عدد المسيحيين العرب (أو الناطقين بالعربية) على الـ10 الى 15 في المئة من مجموع سكان الوطن العربي في الثلث الأول من القرن العشرين. بيد أنّ دورهم الثقافي والسياسي والتعليمي، كان دائماً أكبر بكثير من عددهم. لكن هذا الدور تضاءل في العقود الأربعة الأخيرة، ولثلاثة أسباب: التجربة المخيِّبة للدولة العربية، والتي لا تُشعر بالاطمئنان - وصعود الأصوليات لدى الطرفين، وبخاصةٍ لدى المسلمين - والهجرة الكثيفة من جانب الشباب المسيحي المتعلِّم الى المهاجر البعيدة في الغالب! المسيحية العربية في خطر الآن في فلسطين والعراق، وإذا لم تقلّ أعدادها كثيراً في بلدان مثل مصر ولبنان وسورية، فإن الذي قلَّ هو الثقة بالنفس والمستقبل. وهذا مظهرٌ من مظاهر التحولات المفزعة في العقود الخمسة الأخيرة.

رضوان السيد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...