الارتباط بالمشاريع الثقافية العالمية كان سبباً في النكسات

12-12-2006

الارتباط بالمشاريع الثقافية العالمية كان سبباً في النكسات

حملت فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى جملة من التحولات السياسية والتاريخية الكبرى ألقت بتأثيراتها على حركة انتاج الافكار في المنطقة العربية: ايقاعا واتجاها، وكيفت وجهة التعبير عن تلك الافكار لدى النخب الثقافية العربية على نحو اضعف مواقع ثقافية وعرضها للانكشاف وعزز اخرى صبت نتائج تلك التحولات في رصيدها. لسنا  هنا  بصدد التأريخ للأحداث السياسية الكبرى في ذلك الابان، ولكن يهمنا ان نطالع منها ما كان له صلة بما حصل من نكسة ثقافية لفكرة الحداثة والتقدم في عقد العشرينات من القرن العشرين.

أتت نتائج الحرب العالمية الاولى تحدث انقلابين سياسيين كبيرين في مجرى التطور العربي المعاصر: انهت حلم الاستقلال العربي في المشرق بدولة قومية حديثة بشرت بها التيارات القومية منذ عام ،1913 وأوحت بها “الثورة العربية” في عام ،1916 ثم اطلقت ميلاد تركيا الحديثة على انقاض الخلافة العثمانية، وفي الحالين كانت الولايات العربية للدولة العثمانية تسقط تحت سنابك خيول الغزاة الاستعماريين الذين تواطأوا على “استقلالها” في عقد مكتوب كشفت عنه الثورة البلشفية في روسيا بعد نجاحها، هو “معاهدة سايكس  بيكو”. ومثلما بدت أوروبا الغازية، عند قسم من النخب العربية، تخون رسالتها الحضارية التنويرية: رسالة الأنوار والعقل والحرية والتقدم، لتتحول الى استعمار بغيض، بدا ميلاد تركيا الحديثة، لدى قسم آخر من النخب العربية، وكأنه يهود بنقل جرثومة العلمانية الى سائر بلاد العرب والمسلمين.

يتصل هذان التحولان شديد اتصال بما سيطرأ من تغييرات ثقافية انتجت تلك التي ادعوها بالنكسة الاولى لفكرة الحداثة. إذ ولدت فكرة الحداثة الثقافية عند العرب من صراع الحديث مع القديم ومن استلهام المثال العقلاني والتنويري الأوروبي. وكان الصراع مع الدولة العثمانية وجهاً من وجوه ذلك الصراع مع القديم  ومع القرون الوسطى  من اجل بناء الدولة الوطنية الحديثة: دولة العقل والعدل والحرية، المستلهم مثالها من النموذج الأوروبي. ومن البديهي ان يأتي اجهاض حلم الاستقلال وسقوط المثال الأوروبي اجهاضا لفكرة الحداثة. ولقد وجدت النخب المتمسكة بفكرة الاصالة في إلغاء الخلافة وقيام تركيا الحديثة مبررا جديدا للهجوم على فكرة الحداثة وشرعيتها. وفي الحالين، وقع اضعاف النخب الحاملة لفكرة التقدم وللمشروع التحديثي.

اطلقت تلك النتائج اربع ظواهر ثقافية  متعاقبة ومتزامنة  صبت معطياتها جميعا في لجم اندفاعة خطاب المعاصرة، والتقدم: وريث الخطاب النهضوي للقرن التاسع عشر، وفي التمكين لخطاب الاصالة والهوية: صعودا واستواء وذيوعا وسلطاناً، بعد عقود من الهامشية فرضها عليها فُشُو خطاب النهضة والتقدم في المجال الثقافي العربي.

تمثلت الظاهرة الاولى في التراجع الدراماتيكي لفكرة النهضة لدى مثقفين نهضويين كانوا في جملة ممثليها الكبار في العقدين الأولين من القرن العشرين، والانسحاب المثير الى فكرة الاصالة في أشد صورها انكفاء تلك  مثلا  حال السيد محمد رشيد رضا (تلميذ محمد عبده) الذي تراجع، في مطالع القرن العشرين، وعن فكرة الدولة الوطنية الحديثة التي صاغها اسلافه ومجايلوه النهضويون (الطهطاوي، التونسي، محمد عبده، الكواكبي، أحمد لطفي السيد)، وانكفأ الى فكرة الخلافة مستعيدا أدبيات السياسة الشرعية لدى الماوردي وابن تيمية والقرافي... إلخ. وتمثلت الظاهرة الثانية في انطلاق حملة من القمع الفكري اشبه ما تكون بمحاكم التفتيش في القرون الوسطى في منتصف عشرينات القرن الماضي بمناسبة صدور كتاب: في الشعر الجاهلي لطه حسين وكتاب: الاسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق. أما الظاهرة الثالثة، فتمثلت في العودة الكثيفة الى الماضي واستعادة خطاب الأصول، وكانت صورتها الاكثر جلاء ميلاد فكرة الهوية الاسلامية في نصوص الشيخ حسن البنا والأزهريين التقليديين.

وقد مهد لها محمد رشيد رضا بأطروحاته الجديدة، واتساع نطاق نفوذ “فكر” جماعة “الاخوان المسلمين” منذ قيامها في عام ،1928 خاصة منذ توسعها السياسي والتنظيمي في ثلاثينات القرن الماضي. ثم أتت الظاهرة الرابعة في شكل “توبة” ثقافية عن خطاب الحداثة من قبل مثقفين كانوا  على تفاوت بينهم  في عداد اقلامها. وذلك ما حصل لطه حسين وعباس محمود العقاد وخالد محمد خالد وآخرين غيرهم في سنوات الثلاثينات وما تلاها.

حصلت هذه النكسة الثقافية لفكرة الحداثة على نحو خاص في مصر، أما في سوريا ولبنان و الى حد ما  تونس والمغرب، فاستمرت تطل بدرجات من الجرأة مختلفة كانت في المشرق أعلى مما هي عليه في المغرب. والأدعى الى الانتباه ان هذه النكسة الثقافية للحداثة ولدت من رحم حقبة الحداثة السياسية في مصر وسوريا: حيث الحياة الدستورية والنيابية والحريات العامة في عنفوانها. ولم تستعد الفكرة الحداثية عافيتها إلا في سنوات الخمسينات والستينات، أي في حقبة الثورة، فبدت لفترة وكأنها حشرت فكرة الاصالة في الوعي العربي في الزاوية الضيقة.

منذ مطالع عقد الخمسينات من القرن العشرين، انتقل الوعي العربي من إشكالية النهضة إلى إشكالية الثورة. في السياسة شهدنا ثورة جديدة بصعود النخب القومية إلى السلطة. وفي الاقتصاد شهدنا ثورة بالانتقال إلى سياسة التخطيط المركزي والتأميمات والقرارات “الاشتراكية”. وفي الفكر السياسي شهدنا سلطان الفكر القومي والفكر الاشتراكي، وفي الأدب شهدنا ثورة “الشعر الحر” منذ نازك الملائكة إلى أدونيس ومحمود درويش مروراً ببدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي. وفي الرواية شهدنا ثورة التعبير الروائي منذ ثلاثية نجيب محفوظ و”اولاد حارتنا” إلى شعرية جبرا ابراهيم جبرا وسردية حنا مينه وعبدالرحمن منيف الحادة. وفي السينما شهدنا ثورة الواقعية التعبيرية في أعمال يوسف شاهين وصلاح أبوسيف. وفي الموسيقا تفجرت ثورة الحداثة في الكتابة والتوزيع الاوركسترالي وفي التعبير الغنائي مع الاخوين رحباني والسيدة فيروز، واستعيد تراث المسرح الغنائي عند سيد درويش في المسرح الغنائي الرحباني. وفي النقد الأدبي ازدهرت الواقعية النقدية في كتابات عبدالقادر القط وغالي شكري ورجاء النقاش ومحيي الدين صبحي وعلي الراعي وازدهرت مدرسة تحقيق النص الأدبي التراثي مع احسان عباس.

 وفي الفلسفة شهدنا عنفوان الوضعية المنطقية مع زكي نجيب محمود والوجودية مع عبدالرحمن بدوي والشخصانية مع محمد عزيز الحبابي والتاريخانية مع عبدالله العروي، وفي الفكر التاريخي شهدنا ميلاد المدارس الكبرى.

- من النافل القول ان صعود المشروع الثقافي العربي الحداثي في صيغته الجديدة التحررية في سنوات الخمسينات والستينات انما أتى مترافقاً مع صعود المشروع الوطني والقومي التحرري بعناوينه الاربعة الكبرى البارزة: الثورة المصرية، الحركة الوطنية الاستقلالية في الوطن العربي، الثورة الجزائرية، والثورة الفلسطينية المعاصرة. يمكن للمرء أن يضيف الى المشهد سياقاً دولياً مثله صعود النزعة الاستقلالية في بلدان العالم الثالث اتت تعبر عنها حركات التحرر الوطني في افريقيا وآسيا وحركة عدم الانحياز ثم قيام الثورة الثقافية الصينية واندلاع انتفاضة مايو 1968 في فرنسا وأوروبا وحركة المرأة والشبيبة والثورة الجنسية في الغرب، والثورة الكوبية والفيتنامية والجيفارية والماوية والتروتسكية ثم الثورة الفكرية والأدبية والفنية في الغرب الستيني.

عبد الإله بلقزيز

المصدر: الخليج

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...