الأدب بلغة الإعلان والترجمة الفورية

24-11-2006

الأدب بلغة الإعلان والترجمة الفورية

تحقيق ـ سعاد جروس: «كل ما لا تبلغه يداك الصغيرتان ملك يديك الصغيرتين، إذا أتقنت التدوين بلا أخطاء. من يكتب شيئاً يملكه. ستشم رائحة الوردة من حرف التاء المربوطة كبرعم يتفتح. وستتذوق طعم التوت من جهتين من التاء المتصلة ومن التاء المفتوحة كراحة اليد». بهذه الكلمات، يضعنا الشاعر محمود درويش في كتابه الأخير «في حضرة الغياب» أمام مكاشفة ما تفتأ تتجدد جيلاً بعد جيل، وهي إلى أين وصلت علاقتنا مع لغتنا العربية، وبالتحديد في مضمار الأدب «أبواللغة» ومسرحها. فإذا صح ما قاله درويش «بأن من يكتب الشيء يملكه»، نسأل أنفسنا عن حصيلة ما نملك، ولماذا يتعثر التعبير؟ وبكلام آخر مع «التأتأة» و«الفأفأة» اللتين ابتلي بهما القلم العربي، والجمل المكسّرة المهشمة التي يدونها الكتّاب باعتبارها أدبا، هل لا يزال العربي يملك أشياءه الحميمة على الأقل؟
نحتاج أحياناً لمفردات كثيرة كي نحيط بما نريد كتابته، وقد لا نفلح بشكل دقيق. لا أنكر أني حين قرأت نص درويش الأخير «في حضرة الغياب» بلغته الشاعرية البسيطة والعالية الحساسية، حضرتني أغنية نجاة «من أين تأتي بالفصاحة كلها، وأنا يعجز على شفتي التعبير؟!» وها أنا استعين بثقافتي الغنائية للتعبير عن دهشتي بما كتبه درويش، واعترف أنني في بعض مقاطع الكتاب، شعرت إزاءها بالعجز عن التعبير.
تقودنا هذه المقدمة إلى التفكير جدياً بلغة الأدب الجديد، وهل تستحق صفتها كلغة أدبية؟ سؤال نطرحة ونحن نتابع نتاج الأدباء الشبان، الذين يتنكبون في أعمالهم وزر قضايا كبيرة لا تفتقد للجرأة في الإطاحة بكثير من المحظورات، واستحقت شهرة قلَّ نظيرها كرواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع، أو رواية «المطاوعة» لمبارك علي الدعليج، وغيرهما من روايات راحت تتوالد على النسق ذاته، تحت يافطة الأدب. فرغم أهمية ما يطرحه هؤلاء الشباب في كتاباتهم، إلا أن اللغة كانت المقتل ونقطة الضعف التي هوجمت من خلالها تلك الروايات الرائجة. هناك من يرى في لغتها المتداولة تعبيراً صارخاً عن وهن العلاقة مع اللغة نفسها، وتزايده جيلاً بعد جيل. مصحح في إحدى دور النشر في دمشق، رفض ذكر اسمه لأسباب تتعلق بطبيعة عمله، قال إنه من خلال قراءته لعشرات المخطوطات الواردة إلى الدار، من دول عربية مختلفة، وجد بأن 90% من الكتاب الشباب لغتهم سيئة، تحفل بالكثير من الأخطاء الإملائية والنحوية التي يفترض انها بسيطة، بالإضافة إلى الضعف الظاهر في تركيب الجملة، مشيراً أيضاً الى مسألة في غاية الأهمية وهي اعتمادهم على المحفوظات والجمل والتعابير الجاهزة، حتى أنها أحياناً تعكس المعنى وضده في وقت واحد. هذا عدا ان الكتاب الشباب، يحملون نصوصهم أكثر مما تطيق من الألفاظ التعميمية الكبيرة، ومنهم من يعتبر أن اللغة الأدبية العالية المستوى هي اللغة الشعرية المثقلة بالبلاغة، فيهيمن على نصوصهم الترهل والإطناب، مما ينم ليس عن عدم امتلاك اللغة وإنما افتقاد القدرة على التعبير الصحيح الملائم للجنس الأدبي قصة أو رواية. وكان ذلك سبباً أساسياً في رفض المصحح لكثير جدا من المخطوطات، كما يقول، إذ افتقرت لدقة التعبير، وكأن الكاتب يكتب شيئاً، بينما هو يقصد شيئاً آخر، وهي ظاهرة تتفاقم بشكل غزير.
* «البصائر والذخائر» أي مفاجأة!
هناك من يعيد أسباب ضعف التعبير الى إهمال اللغة العربية، ومنهم من يرى أن 70% من مفردات اللغة لا تستخدم. رانية مدرسة رياضيات ولها محاولات خجولة في كتابة القصة لا تفكر في نشرها، اطلعت متأخرة على كتاب «البصائر والذخائر» لأبي حيان التوحيدي، تقول إنها شعرت بصدمة كبيرة، وكذلك كان حالها مع كتاب «الأغاني».
في البداية لم تفهم رانية كثيراً من المفردات المنقرضة، لكنها مع المثابرة على قراءة التراث، باتت تستمتع بها، خاصة أن فيها من الجرأة والتحرر ما يفوق كثيراً ما يكتب الآن. ولعل أكثر ما شكل إثارة لرانية في كتاب التوحيدي هو اللغة، فتقول عنها: «كنت أصفها بالمقعرة أو المنقرضة، كي أجنب نفسي عناء قراءتها وفهمها، وقد اكتشفت لاحقاً كم فوت على نفسي من المتعة والفائدة. هذا لا يعني أني مع إعادة تداول المفردات البائدة، فهذا حتماً لن يجدي نفعاً، لكن مع إعادة التعرف إليها، واكتشاف مخزونها الهائل، واستعمالاتها المتنوعة، والتعامل معها بدراية كي لا يؤدي تطوير اللغة إلى قتلها، فتحديث اللغة شيء وإفقارها شيء آخر».
سلمان عز الدين صحافي يكتب في الشأن الثقافي، لا يرى في تغير لغة الأدب وميلها الى البساطة أمراً سلبياً، فهذا أمر غير محسوم وخاضع لاختلاف الآراء، كما أن اللغة البسيطة الرشيقة، فرضتها تأثيرات العصر وهذا شيء طبيعي. والحكم على اللغة الأدبية بحسب عز الدين، يكمن في الإجابة على: «هل اللغة خالية من أية شحنة جمالية، وهل هي عاجزة عن نقل أفكار عميقة؟» يعتبر سلمان أن تدني مستوى اللغة جزء من الرداءة، وليس جزءاً من تدهور العلاقة معها. فهناك روايات في الستينات تحفل بلغة إنشائية تافهة. إن مشكلة الأدب تكمن في الموهبة، فإما هناك أديب موهوب أو غير موهوب، وكثير من الروائيين كتبوا باللغة المحكية روايات رائعة كإبراهيم أصلان، إلا أن سلمان الذي لم يحضره أي اسم لروائي شاب للبرهنة على صحة رأيه، أكد أنه قرأ لروائيين شباب يكتبون بلغة ممتازة. لكن هل يعني هذا أن لا مشكلة في علاقة الشباب مع اللغة؟
* موت مقولة «الكاتب هو الأسلوب»
ناظم مهنا قاص وناقد، أخذ علينا عدم الدقة في طرح موضوع اللغة، ولعل هذا دليل على الجهل بالمفردات والمصطلحات الصالحة للتعبير عن الفكرة والتي لا أنكر أني وجدت صعوبة بالغة في إيصالها إلى الآخرين الذين تحاورت معهم في هذا الخصوص. فقد ارتأى ناظم مهنا بداية التمييز بين البلاغة واللغة التقريرية. وقال هناك توجه نقدي نحو السرد والابتعاد عن الشاعرية لتخليص اللغة من الشعرية، وهو ما رفضه الكلاسيكيون في الرواية والقصة وحتى في الشعر. ولقد روج التنظير الأدبي لهذا ضمن النقد ما بعد الحداثوي. والمشكلة التي برزت بحسب توصيف مهنا، في استسهال الكتابة والتكرار، ما أدى إلى تشابه الأساليب. في هذا اتفق المصحح في دار النشر الذي أشار إلى غياب الأسلوبية أيضاً، وقرب زوال ما يتعارف عليه بأن «الكاتب هو الأسلوب»، إذ لم يعد هناك تمايز في الكتابة الأدبية، وكأن القلم هو الذي يكتب لا العكس. فهم يكتبون من مخزون لغوي وتعبيري متماثل، وليس من التجربة والتأمل والحياة، فتخرج نصوصهم «مسطحة»؛ لغة ثقيلة ومضمون هزيل. إلا أن ناظم مهنا الذي امتلك حساً ليبرالياً في القراءة، يُقيّم ما يقرأ حسب الظاهرة والحالة المنتجة هذه للقصة أو القصيدة أو الرواية. فالسردية الحكائية والعناية بالتفاصيل اليومية هي موجة سائدة، تفرض اليوم لغتها المتشابهة، وتتمايز نوعاً ما حسب حساسية الشخص أو ذكائه أو بيئته. كما يلاحظ مهنا أن المسافة الفاصلة بين لغة الأدب ولغة الإعلان تتضاءل، كما تزيد المسافة بين اللغة العربية وأصولها، وهذا أمر طبيعي، إلا أن التعبير الفقير والضحل لا علاقة له باللغة الفصحى أو اللغة المحكية. فقد كُتب على العرب الازدواجية، فالكاتب يصيغ حواراته بالعامية بينما السرد بالفصحى. ومشكلة التعبير ليست في المفردة وإنما في الصياغة، حين لا يجيد الكاتب التعبير، فيكون بذهنه شيء، لا تسعفه ثقافته اللغوية على تحويله الى كلمات، ما يحدث ارتباكاً في الكتابة.
ولعل ارتباك الكتابة لا يتعلق فقط بالثقافة اللغوية، وإنما بمحظورات اللغة، وهذا يتمثل بوضوح في الموضوعات المتعلقة بالجنس.
* سلوى نعيمي تشكو من لغة مخصية
الشاعرة سلوى نعيمي، واجهت قضية كبيرة في اللغة أثناء كتابتها لنص إيروتيكي سيصدر قريباً عن دار «قدمس» ضمن مشروع «ولاّدة»، وهي مسألة تعقيم اللغة، فهي لا تستطيع استخدام ألفاظ كانت مباحة في عصور ماضية، مما جعلها تصف اللغة الراهنة بأنها «لغة مخصية». وقد أرادت نعيمي في تجربتها الجديدة نفض الغبار عن تلك الألفاظ في مغامرة على الأرجح لن تحمد عقباها. وكذلك تعرض الروائي رشيد الضعيف الى هذه القضية في كتابه «عودة الألماني الى رشده» الصادر عن «دار رياض الريس» في بيروت، فقد روى كيف أخبر المفكر المصري نصر حامد أبوزيد، وكانت أول مرة يلتقي به إثر دعوته من قبل برنامج «ديوان شرق ـ غرب» يقول الضعيف: «كان على علم بهذا البرنامج، وحين سألني عن الكاتب الذي سأعمل معه أجبته بأنه كاتبHOMO أي مثليّ، قلت الكلمة الأجنبية ورادفتها بالعربية. والنكتة هنا أنني لم أشأ أن أقول «لوطي» لأنها تحمل دلالات سلبية، فاستعملت كلمة «مثليّ» الحيادية المستحدثة في العربية، والتي هي ترجمة لكلمة (HOMOSEXUAL) الأجنبية. لكن نصر حامد أبوزيد سمعني ألفظ «مثلي» لا «مثليّ» أي بدون الشدة على الياء. فسألني مستفسراً: مثلك؟! فسارعت إلى النفي والتوضيح، مسارعة من يداهمه الرجس والدنس، أردت فوراً ألا يبقى في ذهنه بقية من شك».
* رشيد ضعيف والخجل من التفوه بالكلمات
مثال رشيد ضعيف يشير الى علاقتنا الخجولة مع جزء كبير من اللغة العربية الجنسية، اصطلح على تسميتها بـ«الأيروسية العربية»، دخلت ضمن المحظورات مع التغيرات الاجتماعية المتتالية في المجتمعات الشرقية. وشكل إعادة اكتشاف كتب التراث صدمة للقارئ كما حدث مع رانية التي عثرت في كتاب التوحيدي على كم هائل من النوادر والطرائف والأشعار المكتوبة بلغة جنسية تخجل من نقلها شفاه، بل تخضعها لإعادة صياغة لتتناسب مع حيائها شخصياً والحياء العام أيضاً. تقول رانية، ثمة حكايات ونوادر فيها من الحكمة والطرافة ما ينعش العقل والتفكير الحر، لكنني أخجل من روايتها، وإذا أخضعتها للتهذيب فقدت نكهتها وربما معناها أيضاً. وتسوق مثالاً على مضض عن جارية عرضت على رجل ليشتريها، فقال لها: ماذا تجيدين؟ أجابت: عشرين لوناً من الرهز. وهنا تتوقف رانية عند اللغة لتقول إن هذه الحالة التفصيلية البسيطة في العلاقة الجنسية يعبر عنها بعشرين لفظاً بالعربية، لأن لكل لفظ نوعاً يصفه، هل بات هذا من المنسيات أم من المقموعات؟
* ما معنى «نجوم بدأت تدور حول رأسي»؟
ليست فقط التغييرات الاجتماعية وتنامي سلطة التابو على المجتمع، وبالتالي على اللغة، ما أثر على وسائل التعبير، بل ثمة عوامل أخرى كثيرة أفرزها العصر الحديث واكبته تيارات معبرة عنه، إلا أن بعض العوامل، كان لها تأثير سلبي ومدمر على اللغة، إذ شكلت نظريات البساطة والاقتراب من الواقع، مبرراً للاستسهال والتبسيط، كذلك توافد المتطفلين وأشباه الأدباء إلى الأدب. ومن تلك العوامل أيضاً ثورة الاتصالات البصرية، التي تكاد تكون اليوم مصدراً أساسياً لثقافة الشباب، فنراهم يكتبون من مخزونهم البصري التلفزيوني، وثمة صور تعبيرية تستخدم مستمدة من أفلام «والت ديزني»، كالتعبير عن الصدمة بالقول: «إن نجوماً بدأت بالدوران فوق رأسه» أو «إن درجة الإحساس بالخطر بلغت اللون البرتقالي». واللون البرتقالي هو لون التأهب في أميركا بحسب نشرات الأخبار. والمصحح الذي قابلناه في دار النشر، ذكر أن كثيراً من النصوص التي رفض نشرها لكتاب شباب، نصح بتحويلها الى نص تلفزيوني، أنها مكتوبة بروح المسلسل التلفزيوني، إذ من شأن المخرج والمصور تعويض الفقر المدقع باللغة من خلال الصورة. كما يعيد سر إقبال الشباب ونجاحهم في الكتابة للتلفزيون أكثر منه في الأدب، كونهم يحتاجون للأفكار من دون شرط السوية اللغوية.
الناقد والقاص مهنا يقول «إننا نعيش عصر سيطرة لغة وسائل الإعلام على الأدب، وذلك ليس سلبياً في المطلق كونه يقرب الأدب من الواقع، لكن يجب التنبه الى عدم السقوط في لغة الإعلان لأنها على تضاد كبير مع الأدب. يجب التمسك بأدبية الأدب وهذا يتم عبر اللغة بشكل أساسي والحرص على رفع سويتها، ليبقى الأدب أدباً من دون المضي كثيراً نحو استعراض العضلات، مما يخلق حاجزاً بين القارئ والنص؛ إن المبالغة بالإيحاء بقوة اللغة يزيد من غربة النص».
ولقد جرب الكاتب الإماراتي ناصر الظاهري في حكايته «الطائر بجناح أبعد منه» استخدام ألفاظ فصيحة غير مستعملة كثيراً، ما استلزم شرحاً للمفردات الصعبة في أسفل الصفحة، كالقول: «هذا القلب الذي ينعته البعض بالرعض ينفطر كلما رأى ظلماً أو عجزاً» وعلى الهامش كان الرعض هو «الخائف، ومن في قلبه ضعف ولين، وهي فصيحة من انتفض وارتعد». كما حفلت الحكاية بألفاظ أخرى مثل «غرمول» الموز القصير و«المنزّ» المهد و«العتلة» قطعة حديد مسننة تشبه الرمح.
ثمة اغتراب تسير إليه لغتنا، فهي إذا اقتربت من الواقع ضمن موجة «التشيوء» كما وصفها مهنا، تَسْتَغرِبُ عن أصولها وهذا قدر التطور، وإذا أعادت نفض الغبار عن منسياتها لتستعيد فحولتها وصراحة بيانها، اغتربت عن أجيال القراء الطالعة. ولعل هذا احدى نتائج تراجع القراءة كمصدر للثقافة والمعلومات، والتهافت على وجبات الإعلام السريعة التي تلبي الحاجة للمعرفة بأسرع وقت ممكن وأبسط تعبير، حتى لو أدى ذلك الى التبسيط الفادح والمخل، وتحول الكتاب جميعاً الى كاتب واحد ـ تنحته الثقافة المعولمة شئنا أم أبينا ـ يكتب نصاً قابلاً للترجمة الفورية الى كل لغات العالم. 


الجمل + الشرق الأوسط

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...