أزمة الغذاء العالمي ومدى تأثر الاقتصاد السوري بها!..

03-06-2008

أزمة الغذاء العالمي ومدى تأثر الاقتصاد السوري بها!..

- من عجائب ما قادتنا اليه العولمة، في شقّها الاقتصادي على وجه الخصوص، ومن مفارقات زمن صارت الناس تموته أكثر ممّا تعيشه، أنّ اللا مألوف صار مألوفا، وأنّ الشواذ تحوّل الى قاعدة والعكس بالعكس.. ومن العجائب والمفارقات أيضا أن لا صلة بعد اليوم بين ما يطفو على سطح المشهد الاقتصادي العالمي من ابتكارات وانجازات علمية مذهلة، وبين ما يربض في أعماقه من كمائن ومخاطر.
أزمة الغذاء العالمي بل محنته الحالية والقادمة هي الآن حديث الخبراء والباحثين والمتخصصّين وصنّاع القرار وجميع الناس في كلّ مكان على سطح كوكبنا!.. حديث تربّع على عرش "صدّق أو لا تصدّق"، فتناثرت من حوله المعطيات والأرقام الرهيبة.
أزمة الغذاء العالمي الأخير المستجد في النظام العالمي الجديد للرأسمالية المتوحشة، لكن ليس آخره بطبيعة الحال.. وصفتها جوزيت شيران مديرة برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة بأنها "تسونامي صامت".. أمّا رئيس البنك الدولي روبرت زوليك فحذّر من أنّ هناك ثلاثا وثلاثين دولة تعيش على شفير فوضى واضطرابات اجتماعية خطيرة بسبب ارتفاع أسعار الغذاء، معتبرا أن ليس ثمة هامش من أجل البقاء بالنسبة للدول التي تشكّل فيها فاتورة استهلاك الغذاء ما بين النصف الى ثلاثة أرباع الاستهلاك الكلّي.
المتهمون في هذه القضية كثر، تأتي في مقدمتهم الدول التي ظهر فيها سعار انتاج الوقود الحيوي Bio-Fuels .. فالأمريكيّون متمسكون بمضاعفة انتاجهم الحالي منه والأوروبيون يزيدون على التمسك هذا بتمسّك آخر هو اصرارهم، عبر المفاوضات التجارية الدولية، على اتباع السياسات الحمائية الضارة بالمزارعين في بلدان العالم الثالث، حيث تبقي على الفقر في هذه البلدان، ان لم توسّع من دوائره!..
المتهمون في المرتبة الثانية هم المضاربون الجدد الذين راحوا في السنوات الأخيرة يحوّلون استثماراتهم من أسواق الأسهم والسندات الى أسواق الحبوب، رغم أن لا صلة لهم بها، فرفعوا بذلك أسعار الذرة والقمح وفول الصويا وغيرها الى أرقام غير مسبوقة.
من الأسباب أيضا ـ وقد يأتي في المرتبة الثالثةـ تزايد الطلب العالمي على الغذاء، من الدول النامية والناشئة على وجه الخصوص، كالصين والهند والبرازيل نظرا لازدياد السكان فيها المترافق مع ازدياد معدّلات النمو الاقتصادي.
من الأسباب أخيرا وليس آخرا نقص المخزون الاحتياطي العالمي من المواد الغذائية الأساسية، وتراجع الزراعة في معظم دول العالم، رغم الحكمة القديمة التي كان جبران خليل جبران يرددّها باستمرار  "ويل لأمّة لا تأكل ممّا تزرع ولا تلبس ممّا تحيك".

- يلاحظ أنّ ثمّة علاقة طردية بين ارتفاع أسعار المشتقات النفطية وبين جنوح بعض الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، الى انتاج النفط الحيوي الـ بيوفيول أو الايثانول تحت يافطة أنه أقلّ ايذاءا للبيئة، وهو يصنع من مواد زراعية غذائية للانسان والحيوان كالقمح والشعير والذرة وقصب السكر وفول الصويا.
هنا يقول المهندس عطية الهندي مدير مركز السياسات الزراعية بوزارة الزراعة السورية: الخطة التي تنتهجها الولايات المتحدة الآن أنها تستخدم كيلو غراما واحدا من كلّ أربعة كيلو غرامات، أي أنّ ربع انتاجها من السلع الزراعية آنفة الذكر سيتحوّل الى ايثانول.
أما كيف يوثر ارتفاع سعر برميل النفط على ارتفاع أسعار المواد الغذائية؛ فيقول المهندس الهندي: "النفط يدخل في تكاليف جميع العمليات الانتاجية الزراعية منها والصناعية بنسبة تتراوح ما بين 15 الى 25% منها هذا بالاضافة الى ارتفاع فواتير النقل كلما ارتفعت أسعار المشتقات النفطية".
الدكتور عابد فضلية الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق اعتبر أنّ ارتفاع أسعار النفط هو السبب الرئيس، الظاهر والخفي في أزمة الغذاء العالمي، لأنّ الارتفاع لم يكن طبيعيا وليس له ما يبررّه.. بل انّ هناك أياد خفيّة تتحكم وتلعب لعبتها منذ بدأت الولايات المتحدة ادارة الحرب في البلقان وصولا الى غزوها المباشر لكل من أفغانستان والعراق.. ويضيف د. فضلية قائلا: هناك من يعتبر أنّ سبب الحرب على العراق هو سرقة نفطه، وفي اعتقادي أنّ السبب الحقيقي هو الوصول الى التحكم بالنفط وبأسعاره في العالم.. سرقة نفط العراق مسألة صغيرة أمام التحكم بأسعار النفط ورفعها باستمرار.
     أمّا الباحث الاداري والاقتصادي هاني شحادة خوري، فيذهب الى أبعد من ذلك ويقول: أمريكا تريد أن تسيطر على الغذاء والماء والنفط كما كانت تفعل في السابق، ومنذ انهيار اتفاقية "بريتون وودز" في بداية سبعينيّات القرن الماضي.. اليوم حتى تكتمل حلقة التضخم وتسيطر أكثر على مصادر التمويل لكي تفي بديونها؛ عليها أن تفجّر أزمات من خلال السيطرة على منابع النفط، ومن خلال استمرار تربعها على عرش الدولة الزراعية الأولى في العالم، انها تقود حملة جديدة ومتكاملة غايتها أبعد من ممارسة الضغط على الاقتصاد الصيني والهندي الناشئين، وانما افقار العالم وتجويعه!.. الأمريكيون يريدون أن يضغطوا اقتصاديا اي أن يستثمروا الاقتصاد لكي تصبح البلدان النامية والناشئة والعالم بأسره أكثر طواعية وتدجينا!..كيف لهذه البلدان الفقيرة أن تفكر بالنمو والتنمية حين تكون مهددة بأساسات معيشتها؟..

- من الباحثين والخبراء من يضع الاحتباس الحراري في مقدمة الأسباب التي أدّت الى نشوء أزمة الغذاء العالمي، أو الى تفاقمها على أقل تقدير.. والواقع أنّ هذا الموضوع قد خلق خللا في الظروف الجوية، حيث شهدت بعض البلدان في السنوات الأخيرة أعاصير وعواصف مدمّرة، في وقت خيّم فيه الجفاف على بلدان أخرى وعديدة، فأدّى الخلل المزدوج هذا الى تخريب الزراعة، اضافة الى تفاقم الخلاف مع بعض الدول الصناعية، الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، كونها لم توقّع حتى الآن على اعلان "كيوتو" الذي يدعو الى الحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري على المستوى العالمي.
وبالعودة الى موضوع ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي في بلدان الاقتصادات الناشئة، الذي ذكرناه في المقدمة، والذي أدّى عمليا الى زيادة الدخل، وبالتالي زيادة الطلب على الغذاء النباتي بطبيعة الحال، وعلى الغذاء الحيواني الذي يحتاج الى كميّات كبيرة من المحاصيل.. فعلى سبيل المثال: لكي ننتج كيلو غراما واحدا من اللحم نحتاج الى سبعة كيلو غرامات من الأعلاف.
وبالنسبة الى نقص المخازين العالمية من السلع الأساسية Global Stocks، والحبوب في مقدّمتها، فهو ناتج عن نقص الانتاج.. لو أخذنا القمح على سبيل المثال فقد كان الانتاج العالمي منه عام 2000 (585) مليار طن، ثم استمر الانتاج بالتزايد حتى العام 2006 فبلغ 661 مليار طن، ثم انخفض بمقدار 30 مليار طن في عام 2007 ويقدر له الاستمرار بالانخفاض خلال العام الحالي 2008.
أما أسعار المواد والسلع الغذائية الرئيسة فقد بقيت خلال الفترة ذاتها (2000 الى 2006) خفيفة ومعقولة.. فكان سعر طن القمح الارجنتيني في عام 2000 (119,6) دولارا، ثمّ ارتفع سعره في الشهر الأول من عام 2007 الى    180دولارا، لكنه وصل الى 317 دولارا في الشهر الأخير من العام نفسه 2007، أي أنه زاد بنسبة 175 % خلال اثني عشر شهرا.
وليس لدى منظمة الأغذية والزراعة الدولية " الفاو " أية مؤشرات أفضل لأسعار القمح في العام  الحالي 2008، بل على العكس: ان استمرت الظروف على ماهي عليه فسيصل سعر طن القمح الى 450 دولارا قبل نهاية العام.

- اكتوت سورية مثل باقي الدول العربية والنامية بأزمة الغذاء العالمي.. وفي دراسة أجراها مركز السياسات الزراعية بوزارة الزراعة عن آثار الأزمة على أسعار معظم المواد والسلع الغذائية بين نهاية شباط 2007 ونهاية شباط 2008 ، تبين أن الزيادة هي الصفة الشاملة لها، وقد تساوت أسعار بعضها مع الأسعار العالمية، وتجاوز بعضها الآخر هذه الأسعار وأحيانا الى درجة غير مبررّة.. فمادة القمح على سبيل المثال ازدادت بحسب النسب العالمية، أما وسطي الزيادة عن الفترة الواقعة بين شباط 2007 وشباط 2008 فقد وصل الى 51 %. وقد منعت سورية تصدير القمح ومشتقاته كالمعكرونة والشعيرية والفريكة، ومنعت أيضا تصدير البقوليات الحبيّة مثل الفاصولياء والبازلاء والفول والحمص (كيلو الحمص وصل الى 85 ل.س خلال الفترة المذكورة، كما وصل كيلو العدس الى 70 ل.س).. بالنسبة لمادة البرغل فقد ازداد سعرها من 27 ليرة الى 40 ليرة خلال السنة الموصوفة أي بنسبة 48 %.. وزاد الرز الحر بمقدار 20 %، علما بأن سورية تستورد 300 ألف طن سنويا من مادة الأرز. وتستورد من 400 الى 600 ألف طن من السكر نظرا لأن انتاجنا الوطني من السكر لا يزيد عن100 ألف طن..كذلك تستورد سورية الزيوت النباتية ومشتقات الحليب والحليب المجفف والأجبان، وهذه جميعها ازدادت أسعارها وبعضها ازداد بأكثر من 100 %.

- للأزمة أسبابها الخارجية المستوردة وهذه لاحول لنا فيها ولا قوة.. أما الأسباب الداخلية فتنقسم الى موضوعية مبررة وغير موضوعية (غير مبررة).. فحين نتحدث عن ظروف جوية صعبة، عن عام سيء من حيث معدلات هطول الأمطار فيه وعام أسوأ مرّت به محافظة الحسكة مثلا، وحين نقول لدينا زيادات سكانية ولدينا أعداد كبيرة من الوافدين، في وقت تصل فيه تكلفة فاتورة الغذاء لدى الأسرة السورية الى 45 % من فاتورة الاستهلاك الكلي (بحسب مسح أجراه المكتب المركزي للاحصاء عن عامي 2006-2007).. في جميع هذه الحالات نبقى داخل تخوم الأسباب الموضوعية!..
أمّا حين نتأخر  في رسم السياسات واتخاذ الاجراءات الكفيلة بتنشيط دور الدولة وتدخّل مؤسسّاتها الاستهلاكية والاقتصادية للتاثير في حركة التجارة الداخلية وفي ضبط الأسعار ومنع الاحتكار.. وحين تصدر قراراتنا من دون أية دراسة موضوعية ودقيقة لأثر الزيادة على الانتاج والاستهلاك وعلى شرائح المجتمع كافة.. وحين لا نمنح السلع والمحاصيل الاستراتيجية أسعارا مجزية وحوافز تحسّن دخل منتجيها وتضمن بقاءها في سورية فلا تخرج منها بطرق معظمها غير شرعي.. وحين يرفع بعض المسؤولين الراية البيضاء أمام المهربين والشطار وأثرياء الحروب والأزمات، المتفتقين جدا في ثقافة النصب والاحتكار .. 
 في جميع هذه الحالات؛ نكون قد دخلنا دائرة الأسباب غير الموضوعية أو غير المبررة، وذهبنا بعيدا داخل خانة الفعل العطال،(كما يقول أساتذة الرياضيّات)، الذي لا يقدّم ولا يؤخّر شيئا في مواجهة أزمة رهيبة كأزمة الغذاء العالمي!.. لكن، هل لدينا ادارة تعرف كيف تدير الأزمة الحالية؟.. هل لدينا ما يعرف بادارة الأزمة؟..

اذا كان الجواب بالايجاب، فانّ السؤال الذي يستتبع هو : كيف يمكن لهذه الادارة، بلغة الأرقام والمعطيات الواقعية، أن تدير الأزمة في المقبل من الأيام من دون رؤية متكاملة تعمل على وقف التضخم والحدّ من آثاره، وخطة واضحة تعمل على ربط الأسعار بالأجور؟!..

د. عيد أبوسكة

المصدر: مجلة المال

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...