«الشماتة» السورية بأردوغان خلاصة تجربة مريرة
لا يعلم أحد إلى أين وما يمكن أن تنتهي إليه الاحتجاجات في تركيا. إلا أن «شماتة» بعض السوريين برئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان، أنتجت مستوى جديداً من السخرية من أزمة البلاد الطويلة، كان لمسؤولي الدولة مساهمة رئيسية ومقصودة فيها، ولكنها لم تولد من فراغ، وإنما من خيبات مريرة قاسية.
وأول حماس أثارته الاحتجاجات التركية ربما كان في مقر الحكومة السورية، التي لطالما انتظرت لحظات مشابهة، فخرج وزير الإعلام عمران الزعبي منذ الساعات الأولى ليوجه انتقاداته اللاذعة لأردوغان، واصفاً أسلوبه «بالإرهاب ضد شعبه» مكرراً العبارات ذاتها التي سبق وذكرها الأخير في خطاباته الموجّهة لخصمه اللدود، الرئيس السوري بشار الأسد.
واستغلّت الحكومة السورية، كما هو متوقع كل ثانية تستطيع استغلالها، للشماتة بأردوغان، وإشعال المزيد من حنقه عليها. وزاد على ذلك أن طلبت وزارة الخارجية من السوريين «عدم السفر إلى تركيا» بسبب خطورة ما يجري هناك، في أسلوب لا يخلو من سخرية سوداء، في بلد تعدّى قتلاه الموثّقون التسعين ألفاً، وزاد عن ذلك بكثير كتقديرات غير رسمية.
السخرية الرسمية، والشماتة لدى قطاعات شعبية واسعة، مبرّرة. فتركيا كانت رأس الحربة الفعلي في ما شهدته البلاد من أحداث وتطوّرات، بدءاً بإعداد مخيمات تتسع لمئة ألف لاجئ قبل أن تأخذ الأحداث مجراها الدموي بكثير، متزامنة مع احتضان مؤتمرات المعارضة السورية المبكرة في الخارج، وإيواء المنشقين من الجيش وتسهيل هروبهم وتدريبهم، إضافة لتعويم قادة جماعة الإخوان المسلمين السورية، وصولاً إلى تعقيد مسار أي تسوية مع دمشق، خصوصاً مع الأسد، استناداً لحسابات إقليمية ودولية خاطئة، ومن ثم تأمين الإمداد اللوجستي بشتى أشكاله للمقاتلين، ولا سيما التكفيريين، ومحاولة اجتذاب تدخل عسكري خارجي بأية وسيلة ممكنة، من دون ذكر النشاط الاستخباراتي التركي في ريفي حلب ودير الزور والرقة، وسرقة عشرات المعامل وصوامع الحبوب مروراً بالنفط المهرّب يومياً عبر تركيا.
«سوريا تدعو لاجتماع أصدقاء تركيا» يسجل أحد الساخرين على «فايسبوك»، فيرد عليه آخر «الإعلان عن تشكيل الجيش التركي الحر»، ناشراً صورة للعلم التركي مظللاً بألوان علم الانتداب الذي تستخدمه المعارضة السورية. ويضيف آخر ساخراً من سياسات الدوحة المتضادة «قطر تتهيّأ لتسليح المعارضة التركية»، فيما تنتشر صور بالعشرات لمتظاهرين أتراك أصيبوا في مواجهتهم مع الشرطة، وتحتها شعارات «يالله ما إلنا غيرك».
المفارقة الساخرة المحزنة، تتجسّد في قناعة سوريين كثر أن ما جرى في سوريا، ولو ضمنياً كان يمكن احتواؤه، بطرائق ديبلوماسية يفترض بالسياسي ألا يفتقرها. لكن السياسي بحاجة لأفق واسع، كما هو بحاجة للتواضع والقناعة بأن الجمهور لا يخرج لمواجهة الموت عن عبث. لكن بماذا يجيب أردوغان جمهوره في تكرار للمشهد الدرامي للحاكم في مواجهة المنتفضين ضده. أنتم «راديكاليون» و«رعاع» مستثنياً بعض «مَن خرج بشكل عفوي»، على اعتبار أن المتظاهرين لا يشكلون «أطياف الشعب التركي كافة»، محذراً كما دوماً من أن «هناك مؤامرة داخلية وخارجية في أحداث اسطنبول».
كلام يكرره وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو «بأن هدف ما يحصل هو الإساءة لسمعة تركيا الدولية» و«التغطية على نجاحاتها»، مستخدماً مصطلحات الأزمة السورية وما سبقها من الأزمات، والتي يدخل استثناء عليها اعتذار المتحدث باسم الحكومة التركية بولنت ارينتش، أمس، في محاولة لكبح جماح التظاهرات وتهدئة النفوس.
ولا يتوقف التشفّي السوري اتجاه تركيا على التصريحات، التي يقصد بها استفزاز مشاعر اردوغان وطاقمه للحد الأقصى، بل تتعدّاها إلى منح مساحات تغطية طويلة من البث التلفزيوني لأحداث «ميدان تقسيم» والتي ذهب البعض إلى تسميته بـ«ميدان تحرير تركيا». العاطفية الممتزجة بالشعور العام بالتشفي ومصحوبة بـ«أمل» أن ثقباً قد فتح في الجدار التركي المعادي لسوريا، هي التي تمنح الحماس لدى قنوات الإعلام السورية للتركيز على الحدث التركي بأقصى الإمكانيات، بحيث يتصدّر نشرة الأخبار الرئيسية ويحتل ثلث الساعة الأولى من بثها، متقدماً على أحداث البلاد الغارقة في المعارك.
لذا يرفع المسؤولون السوريون من مستوى شماتتهم. وقال الزعبي، منذ يومين، «على أردوغان احترام إرادة شعبه وأن يغادر إلى الدوحة التي قد تستضيفه».
يدرك المسؤولون السوريون بمكرٍ لاذع مفهوم أن «أردوغان وطاقمه هم أكثر من يفهم تعليقات السوريين، سواء رسمية جادة كانت أم شعبية ساخرة». الأسباب كثيرة، من بينها قناعة متوفرة لدى دمشق بأن «حزب العدالة والتنمية» يعلم أنه أخطأ في سياسته تجاه سوريا، ولكنه لم يعد قادراً على الالتفاف، على هذه السياسة التي كلفت الجانبين كثيراً.
وأيضاً لأن علاقة عميقة جمعت «حزب البعث» مع «العدالة والتنمية» في شهر العسل التركي، تخللتها مصارحات عميقة، وصلت إلى حد اتفاق الطرفين على تغيير المناهج الدراسية، التي تشير إلى حالة العداء التاريخي بين العثمانيين والعرب، وهو مشروع انهار قبل أن يعلن عن استكمال خطواته. ومشروع إزالة الألغام، لإنشاء مزارع عضوية انهار، لأن الأراضي تحوّلت الآن إلى ممرات لعبور المقاتلين والنازحين في الاتجاهين. تبادل تجاري فاق الملياري دولار، اضمحل إلى «صفر» تقريباً، وأصحاب مهن أعدمها خيار الانفتاح على تركيا، تحوّل أصحابها إلى مقاتلين، بمساهمة تركية. 18 اتفاقية تعاون على الأقل، على المستويات كافة أبرزها الأمني، انقلبت إلى صراع عسكري بين البلدين بأدوات ومستويات متعددة.
هذا كله، يفسر رغبة سوريين كثر برؤية نهاية اردوغان السياسية، وأن يجد الترجمة الحرفية لكلامه، في ربيع العام 2011، «من دَقّ دُق» والتي استخدمها لغاية لم تتعدّ استفزاز الأسد في خياره الأمني والعسكري، بانياً خياراته حينها على ظاهرة «الربيع العربي»، وصعود التيارات الإسلامية في المنطقة، وحرج الغرب من سوء تقديره لأحداث تونس ومصر.
إلا أن جلّ السوريين عموماً يرغبون في رؤية علاقات حسن الجوار والتعاون تعود بين البلدين، وأن تكون سياسة الحدود المفتوحة مبنية على خيارات تنموية واقتصادية لا سياسية عسكرية. وهي أمنية مرهونة بتحوّل، قد لا يتحقق، بوصول احتجاجات تركيا إلى غايتها، بإسقاط عقلية «حزب العدالة والتنمية» ورموزها.
زياد حيدر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد