غسان الرفاعي: الأممية الإنسانية

-1- من المؤلم أن تنهار الايديولوجيات التي كانت تعدنا بالفراديس, ومن المحزن أن نعيش بلا أمل بعدالة مفترضة إن الواقع الفظ يفترسنا ويجرحنا,.

ولكن لا مندوحة من التعامل معه, وإذا كانت الايديولوجيا محرمة علينا, فلا أقل من أن نجعل من الذرائعية أقل بشاعة. ‏

قام جمهور من المؤمنين «بالأممية الإنسانية» بتنظيم تظاهرة صاخبة في شوارع باريس يوم السبت الماضي, انضمت إلى تظاهرة تطالب بإلغاء مشروع «الهوية الوطنية» وسحب الجنسية من الأجانب وتعديل قانون التقاعد, تحولت تدريجياً إلى تظاهرة ضد الأممية العنصرية الجديدة التي أعلن عن تأسيسها في أوروبا والولايات المتحدة جموع من «الكائنات البشرية» من الشرقيين والمسلمين المهددين بالطرد والحرمان من حق الإقامة والعمل والمشاركة حاصرت العنصريين وقد رفعت شعارات خارجة عن المألوف رائحة الإنسان هي الياسمين ورائحة العنصريين هو الغائط والأرض الطيبة أما الدم فهو لزج وكريه إشارة إلى المناداة بمنح الجنسية على أساس أصالة الدم لا على أساس الانتماء إلى الأرض الواسعة وكانت فتاة سوداء تمتطي ظهر رجل أبيض تنشد بصوت لا يخلو من بحة: ‏

في السماء قوس قزح ‏

أبيض, أسود, أصفر, أحمر ‏

ساكن السماء لا لون له ‏

لا شرق ولا غرب ‏

لا شمال ولا جنوب ‏

حرية, عدالة, مساواة, كرامة ‏

وكان الجميع ينشدون «المارسييز» النشيد الوطني الفرنسي بأصوات متوترة دافئة. ‏

-2- ‏

منذ أن أصبحت الغلبة للنظام العالمي الجديد, بما يحمله من ظلم وشراسة وغطرسة والمعاندة الحقيقية هي بين الحلم والجرح: الحلم بالمحافظة على الوطن العربي موحداً حراً كريماً, وبالمواطن العربي رافع الرأس موفور العافية يتمتع بكل حقوقه الإنسانية الديمقراطية المشروعة والجرح المتمثل بتفتيت الوطن العربي, أرضاً وثروات وإنساناً وبإخضاعه للذل والقهر والاستبدال ولئن كان النصر للجرح حتى الآن فإن الحلم ما زال في القلوب وفي أهداب العيون لابد أن يتحقق ذات يوم يطول أو يقصر وقد يكون المبرر الوحيد لجيلنا الذي بدأ بالحلم وانتهى بالجرح أن يرفض رمي السلاح والاعتراف بالهزيمة. ‏

قد يحتاج المواطن المحارب إلى استراحة قصيرة, وهو يواجه قوى الظلام والشماتة لا ليعيد النظر في مواقفه, فهذه محسومة ولا مجال للمساومة عليها ولا لرسم خطة أو خارطة تحدد مواقع الصديق والعدو, فهذه مفروغ منها ولا يفيد في شيء إخضاعها لعملية فرز متأنية, وإنما لتجميع القوى وجرد المخزون بهدف متابعة القتال والاستمرار في المقاومة. ‏

-3- ‏

التحركات الدبلوماسية المكوكية المبرقعة بالدعوة إلى السلام العادل والشامل بين عواصم الاستعلاء العنصري ومناطق التوتر, مثل الشرق الأوسط وأفغانستان وباكستان والسودان, ليست أكثر من «فقاقيع» ستنفجر في العراء, وموفدو هذه التحركات الذين تدق لهم الطبول الإعلامية ويحاطون بالألق والضجيج «سماسرة» لا يعملون إلا لتكريس الهيمنة والاستعلاء, والمؤتمرات واللقاءات «التاريخية» المتنقلة التي تعقد في واشنطن وباريس وشرم الشيخ, والقدس ليست أكثر من سواتر تخفي تواطؤاً على السلام والحرية، والحرية والكرامة وتفسح المجال أمام قضم الأرض وتشريد شعب وهدر الكرامة وتصنيع المقاولين الوطنيين, ألم يقل «روجيس دوبريه» في كتابه الأخير: إن ما يفعله الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بصلف ودهاء هو توفير الحماية الضرورية لاستمرار إسرائيل في عدوانها على شعب كريم باسم صيانة القيم الأوروبية وترسيخها في عالم لا يعرف إلا الاستبداد وقد آن الأوان لفضح هذا الدور الخبيث وتعرية هذا النفاق. ‏

-4- ‏

ستترأس فرنسا الساركوزية قمة الـ 20 في 12 تشرين الثاني, وستحاول أن تحتكر قيادة العالم في مسعى لتقليص الأمم المتحدة, هذه المنظمة العجوز التي تعهدت بترتيب العالم بعد الحرب العالمية الثانية والتي تطرح جمعيتها العمومية التي تضم 192 دولة جدوى وجودها, ويتبارى المشاركون في المداولات في نقد هذه المنظمة وفوائدها الاستراتيجية, ويتقدمون باقتراحات لإصلاحها وتغيير نظامها الداخلي وتقوية نفوذها ومما يؤسف له أن بعض المعضلات المستعصية مثل التوتر في الشرق الأوسط لا تتواجد ضمن هواجسها الرئيسية. ‏

إن التصدي لتركيب الأمم المتحدة ودورها الفعال تتصدر الاهتمامات العالمية هذه الأيام بعد أن برزت إلى الوجود جماعة الـ 20 التي تضم الدول الغنية والصاعدة في بعض القارات والتي تصر على إدارة العالم بعد العواصف الاقتصادية والمالية في محاولة يائسة لتجنيب هذا العالم المزيد من الكوارث ويبدو أن هذا الموضوع مازال في بدايته ولكنه يظل أهم تحد للسياسة الخارجية الدولية في الشهور القادمة, وكما عودنا نيكولا ساركوزي فإن هاجسه الأكبر هو إصلاح النظام النقدي وسوق المواد الأولية العالمي والتحكم بإدارة أزمات المجتمع المعاصر ولكن مشروع ساركوزي مازال جنينياً. ‏

وكان باسكال لامي مدير منظمة التجارة العالمية قد طرح الأقانيم الثلاثة للإصلاح المنشود: الشرعية, الخبرة, القيادة, ولئن كانت المنظمة تملك الشرعية المستمدة من الجمعية العمومية التي تضم كل دول العالم كما تملك الخبرة التي توفرها كل وكالات الأمم المتحدة «التنمية, الثقافة, التربية, التغذية, والطاقة النووية» فإنها تفتقر إلى الإدارة والقدرة على تنفيذ القرارات, وهذا ما يشجع قمة الـ20 على ملء الفراغ إذ من المفروض أن تملك القوة التنفيذية والقدرة على التحرك وقد يعهد إلى قمة الـ8 المصغرة معالجة القضايا الشائكة مثل قضية أفغانستان وقضية الشرق الأوسط. ‏

ولكن الإشراف على هذا التحرك الواسع ليس واضح المعالم حتى الآن, ولا متوافراً لعدة أسباب في مقدمتها: أنه يتوجب على دول الـ20 الكشف عن إرادتها بكل صراحة وشفافية, وهذا ليس من مصلحة هذه الدول على ما يؤكد الاستراتيجيون إذ إن منظمة الأمم المتحدة هي المكان الأنسب للمناورات الخفية ثم إن بعض دول الـ20 ليست متمرسة في الأساليب الدبلوماسية بالإضافة إلى أن التنمية المستدامة التي تهدد استقرار العالم اليوم لا يمكن أن تكون من اختصاص قمة الـ20 ولا حتى قمة الـ8 وكما نقل عن دبلوماسي في الأمم المتحدة من المنتظر أن يزداد التوتر بين الدول المشاركة في قمة الـ 20 اللافت أنه إذا كانت هذه القمة قادرة على التصدي للأزمات المالية والاقتصادية فإنها غير مؤهلة للتحكم في المصير العالمي وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجهها... ‏

-5- ‏

إن القرار برفض المساومة والاستمرار في المقاومة صعب ومحفوف بالمخاطر خصوصاً بعد أن ضاقت فسحة التحرك المستقل والحر واحتكرت أو كادت إهرامات الكلمات المسموعة والمرئية والمكتوبة كل وسائل الاتصال وفرضت على القضاء السياسي والثقافي والاقتصادي العربي والشرق أوسطي وصاية وهيمنة لا مثيل لهما ولكن المواطن العربي في زمن الصمت والقهر بحاجة إلى إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله, ولابد من ترتيب البيت الداخلي في ضوء المستجدات والأصداء وردود الأفعال. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين