أنسي الحاج: عينا هذا الطفل

05-06-2010

أنسي الحاج: عينا هذا الطفل

■ وداعاً أيّها العرب
ما إن ينطق العرب حتى يخسروا. عندما نشأت المقاومة الفلسطينيّة في ستّينات القرن العشرين كانت تحت الأرض، صامتة ومحجَّبة. وكانت مزلزِلة. بقيت هكذا إلى أن ظهرت على السطح فبدأ كل شيء يعود إلى الحظيرة. حظيرة عنوانها «العربي عدوّ نفسه».
ترتكب إسرائيل جرائمها وتخرج منها معذورة. ليس فقط لأن أميركا تحملها بل لأن العرب يتكلّمون. والآن إيران وتركيا. ما هذا الذي يجعل كلامنا نحن العرب ونحن المسلمين والإسلاميّين تارةً سخيفاً وطوراً منفّراً يستقطب الكراهية مُظهراً جرائم إسرائيل أعمالاً بسيطة أو دفاعيّة؟ هل هي اللغة؟ ليس هناك أبشع من اللغة العبريّة. الحقّ ليس على العربيّة، بل العربيّة على الأرجح ضحيّة مستعمليها. لو أن العدوان على «أسطول الحريّة» حصل على هدف إسرائيلي لكانت إسرائيل شنّت حرباً أفظع من حرب تموز 2006 ولما وجدت إلّا مصفّقين لها. ما هي هذه اللعنة التي تُسَرْبلنا وتُظْهرنا بشعين كذّابين إرهابيين مزيّفين؟
لننظر إلى أقرب الوقائع عهداً بالزمن: فلسطين والعراق. هل هناك أوضح من حقّ الشعب الفلسطيني وأوقح من الاغتصاب الصهيوني؟ هل هناك أفظع من الكذبة الأميركيّة ـــــ البريطانيّة باختلاق ذريعة أسلحة الدمار الشامل في العراق لتبرير احتلاله وتدميره وتفتيته؟ ولنذهب إلى أفغانستان: هل أكثر حَمْلاً على الضحك من اختراع البعبع الإسلامي و«القاعدة» وبن لادن؟ ولنمضِ إلى إيران: طهران النوويّة خطر يهدّد السلم العالمي وتل أبيب النوويّة نعجة مسكينة؟
ركاكة الوقائع عند الفحص تدفعنا إلى التساؤل: ألا تُضخّم أميركا (وإسرائيل) خطر هؤلاء الأعداء لا لإبقاء الآلة التسلحيّة شغّالة ولا لإحياء العصب القومي فحسب، بل لتكريس هؤلاء الأعداء وترسيخ جبَروتهم الإقليمي محلّ العرب؟ ها هي تركيا الآن تتعمّد زعيمة جديدة للعالم الإسلامي الآخر، الأكبر، السنّي، مقابل إيران زعيمة الشيعة. ومَنْ يجلس في وسط العرش الشرق الأوسطي؟ إسرائيل. وإذا سلّمنا بما يقال إن عزلة إسرائيل الدوليّة تزداد لا نجد في هذا عزاءً لأنفسنا، فالعرب أشدّ انعزالاً ومنذ قرون. ثم، أيّ عزلة لإسرائيل ووسائل الإعلام قاطبة تحت السيطرة الصهيونيّة؟
لقد عاد العرب إلى الصفر الذي كانوه في عهود حكم غير العرب لبلادهم، من مماليك ومغول وأتراك وبريطانيّين وفرنسيّين. وبقميص عثمان الفلسطيني، وباسم العذاب الفلسطيني الذي لم يتوقّف توظيفه منذ أربعينات القرن العشرين، حيناً لانتزاع فرص النهوض والتقدّم من أمام المجتمعات العربيّة وحيناً مطيّة لأغراض الدول.
وداعاً أيّها العرب.
■ ■ ■

■ المنبوذ
أَقرأُ ملفّ مجلة «الدوحة» عن قصيدة النثر العربيّة. ما زال الكلام عند المقدّمات، سواء مقالات أدونيس ومقدمة «لن». قلّما تلطّف أحد ودخل إلى المتن.
هَب أنّنا لم نسمّه شيئاً هذا الذي كتبناه، هل كان حظي بمَن يقرأه ويحاكمه في ذاته لا بالنظر إلى جنسه؟
ليس في هذا الكلام أيّ تراجع عن التسمية، بل هو، على العكس، طعن في مبدأ القراءة الجديّة، قراءة «الموضوع» لا الاكتفاء بالجدل حول هويته. إن هذا تجاهل لجوهر الكتابة ولمعاناة الكاتب الوجدانيّة ولتجربته الإنسانيّة ما بعده تجاهل، وهو أحد العناوين الرئيسيّة لتخلّف النقد العربي. أحد أمرين: إمّا أن يكون الشعر العربي الحديث قد طرق أبواباً جديدة وجديرة بالاهتمام على صعيدَي التجربة الإنسانيّة والتعبير وإمّا لا، وعندئذٍ لا يستحقّ التوقّف عنده مهما ابتدع من أشكال، وأوّلها قصيدة النثر.
دراسات اللبّ في شعرنا الحديث تُعدّ على الأصابع. واللبّ، في هذا الشعر خاصة، هو الأهمّ، وهو الذي يجب أن يكون على المحكّ. لقد وقعنا مع النقد في سوء تفاهم لا يزال يتفاقم منذ خمسين عاماً: ظنّ أننا نخوض مغامرة شكليّة وتجادلنا معاً على هذا الأساس، ولا يزال، بينما كان المنعطف جذريّاً شكلاً ومضموناً.
اللبّ هو المعنى، طبعاً، ولكن بمعنى التجربة الإنسانيّة. اللبّ هو نوع الزمن الذي يتنفّس في هذا الشعر، الزمن الوقتيّ والزمن النفسي والزمن الفنّي والزمن الحضاري. اللبّ هو المسافات التي بلغها الشاعر في هضم لغته وفي مصارعتها وفي إعادة خَلْقها. اللبّ هو المسافات الروحيّة والحسيّة والاجتماعيّة والرؤيويّة التي مشاها الشاعر أو قطعها وتجاوزها أو هو سقط من حافتها إلى القاع. اللبّ هو الأَحشاء. اللبّ هو ما سبق الشكل وأوحاه واستوجبه. اللبّ هو المجهول الأكبر والمنبوذ الأكبر في وطن النقد العربي.
■ ■ ■
كلّ كتابةٍ موعدٌ مع مضيف. مع ضيفٍ وضيف عنيد إن كانت كتابة مغلقة مبتعدة، ومع مضيف، في النهاية، على كل حال. يتعامل النقد العربي مع الآثار كأنها نشاطات بهلوانيّة مبدلاً النقد الإنشائي الصرفي النحوي القديم بنقد الهويّة «الطائفيّة» للنوع، وإنْ تَعَصْرَن فبتحليل أَلسُنيّ أو بنيوي. الروح غائبة. حتى اللحم غائب: الجِلْد هو المحور الذي يتوقّف عنده النظر. ولا أبالغ إن قلت إن الشعر العربي القديم أيضاً هو ضحيّة هذا النوع من النقد، كأن بين الدارس ـــــ الناقد والمنشئ الخلّاق غربة محتومة.
■ ■ ■
وها أنا أضيف شيئاً قد يستهجنه كثيرون: ما أدعوه لبّاً يجب أن لا أخاف إحدى تسمياته الأخرى، وهي الفكر. مع تضمين اللفظة سائر الشروط والأحجام التي لا تنفصل عن أيّ تجربة شعريّة حقيقيّة، من الإحساس إلى الخيال مروراً بالإيقاع على أيّ مقامٍ كان، وطبعاً وأوّلاً وخصوصاً اللغة. وستبقى عبارة الألماني الرائع نوفاليس مضيئة كلّ ليل: الفكر الذي يعالجه الشعر هو الفكر «قبل أن يصبح فكراً».
لا فرق بين الفكر والتوليد الشعري ما داما تلقائيين، ينبثقان في لحظة واحدة، لا الأوّل يتسلّل مستعملاً الآخر ولا الآخر يتسلّح من خارج بالأوّل، وهو ما ارتكبه بعض الشعراء المتفلسفين والفلاسفة النظّامين، جارحين وحدة الحقيقة التي يؤلّفها الشعر ـــــ الفكر. المتنبي هو شعر ـــــ فكر. أبو تمّام، بعفويّة أقلّ وتعَمُّلٍ باهظ أحياناً. أبو نوّاس. أبو العلاء لا، فهو منظّر ومبشّر بقالب منظوم. بودلير شعره فكر بمنتهى الإحساس والحدس. شكسبير في لحظاته المسرحيّة الإشراقيّة. رمبو. بعضٌ من هوغو. أصفى نتاج السورياليّة. جبران في مقطعين أو ثلاثة من «رمل وزَبَد»، وفي بعض شطحات «النبي» و«حديقة النبي». سعيد عقل حيث لم يُرِد ذلك. أحمد شوقي في صور شعريّة خلّابة تستمدّ قوّتها من رقّتها. بروقٌ هائلة في الأساطير والملاحم القديمة تخطف الأنفاس، من جلجامش إلى التوراة صعوداً إلى الهند. أوّل ما قَدَح جبين الإنسان قَدَحَ الشعور الفكري أو الفكر الشاعر أو منطق النفس الغائرة أبعد من جميع الأبعاد. الشعر هو هذا، هو الروح تكتنه العالم، هو الكلمات التي يتمتمها الرائي الجالس على جمر الحوافي.
■ ■ ■
ليس هناك في المعاناة ما يفوق تجربة الشاعر، وأكبر الفلاسفة هم شعراء أحلّوا العقل والمنطق محلّ التعبير الشعري خَفَراً، وحجّبوا ذاتهم بدرع العالم، أو هم انساقوا مع طبيعة أبويّة تعليميّة قَشِفَة غالباً ما نجدها عند المعلّمين. الشاعر موجود في النفوس كلّها، ينفرد من هذه النفوس بالتعبير الأدبي أو الفنّي تلك التي ترَاكم فيها السكون إلى جانب أصداء العالم الخارجي، وتزامَنَ الهمس الداخلي مع حاجة اللجوء هرباً من شوكة العالم الخارجي. النفوس التي يُخيّل إليها أن الكون لا يحاسب غيرها، وأن الأشياء تتحدّث إليها، وأن وترها إن لم يرنّ تخون صداقةً ما، وأن عليها أن تجاوب هذه الأصوات الخَفيّة التي تخاطبها، وأن هذا كلّه لا ضرورة له، وأن هذه اللاضرورة ما زالت حاجة لشيء مجهول، أكثر ما يظهر منه إلى العلن أن الشعر يبقى الشرف الأنقى للإنسان عندما يغوص كلّ شيء في الوحل.
■ ■ ■
لنتخيّل عينَي طفل تلقيان على العالم نظرةً هي أبلغ ممّا تنظران إليه، نظرة إلهٍ لم يَلْعَن أحداً ومع ذلك سوف يموت. الشعر عينا هذا الطفل، تهديدُ العالم له، ووعوده وهداياه لهذا العالم.

أنسي الحاج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...