مرسيـل خليفـة: القضيـة لا تحمـل المشروع الفني

11-03-2009

مرسيـل خليفـة: القضيـة لا تحمـل المشروع الفني

لمرسيل خليفة جمهورية فنية على المسرح. يطوع الجمهور بعوده، يحرك مشاعره بإيقاع ثوري قبل أن يعيده الى سكون الموسيقى، يحرّض على الحب في كل مواقعه، وفي باله هذه الأيام الكونشيرتو العربي وأسطوانة جديدة تحية لمحمود درويش وتأملات عن ترحاله الغجري في مدن الموسيقى.
هذا العمشيتي مسكون بالأندلس. فيه صفاء لا يرحل وبساطة لا تتعقد وثورة لا تنطفئ. يمازح جمـــيع من حوله وراء الكواليس وعلى المســرح، يخفي حزناً طفــولياً في أهدابه، يمــسك بيد شاب مكفوف ليساعــــده على توضيب اسطوانات وقعها له، لا ينظر الى الكاميرا حين يطوقه محبوه من أجل صورة رقمية عابرة، النجــومية تربكه ولا يحب الضوضاء، هـو يكتب الموسيقى لنفسـه.
يتحدث مرسيل خليفة عن الموسيقى كأنها خليلته. يقول: إن تأليفها «مثل ممارسة الحب»، ويتابع «جميعنا يمارس الموسيقى يوميا في إيقاع الحياة... الموسيقى تتحرك حولنا، الموسيقى عين الأذن». هي هويته الفنية ومنطق حياته «هيك بعبر عن حالي... بكتب موسيقى لحالي، الجمهور بيجي بعدين، أوقات بدك تعمل معركة مع الجمهور».
مرسيل في تفاوض مستمر مع جمهور متعطش لأغانيه الثورية. يلتمس صبره للاستماع الى موسيقى تعبت من كلام لا ينفع الحروب ولا يفتح السجون. غرق مرسيل في موسيقاه المتعرية من قيود الكلمات، ساعدته باريس ربما على هذا الابتعاد، لكنه يصر على أنه الفتى ذاته الذي حمل قضية النــاس في سبعينيات بيروت المضطربة. يقول «كل ما كتبته من موسيقى وأغنـــيات من أجل الوطن والناس والحب والأشياء والأمكنة... كان تمرينا على إقامة التوازن بين الحياة ومــــعانيها»، ويـــرى ان «القضية لا تحمل المـــشروع الفني، القضية أنت تحملها».
يصعب على مرسيل إقناع جمهوره بأن الموسيقى المجدة من الكلمات هي أيضا ملتزمة. المشروع الأقرب على قلبه هذه الأيام هو الاوركسترا الفيلهارمونية القطرية، مع 100 عازف وعازفة بقيادة المايسترو لورين مازل. يصف الكونشيرتو العربي بأنه «قصيدة حب»، بأنه حوار بين الشرق والغرب «يتطرق الى المشاعر التي توحد الانسان»، يستعمل فيه ربع الصوت في مقامات مثل البيات والرصد، حيث يستدرج الناي والبزق الاوركسترا اليهما بتفاعل موسيقي غير مسبوق. تنتقل الاوركسترا بعد عرضها في واشنطن الى ميلانو في 25 آذار المقبل ومسرح الشانزيليزيه في باريس في أواخر أيار. يرى مرسيل خليفة ان الكونشيرتو العــربي «مسألة سياسية» ايضا، لأنه يتناول فيه العلاقة بين ثقافتين قائلا «بالطبع هذا الكونشيرتو بعيد كل البعد عن مطولات الالتزام البليدة بل هو أقرب إلى وجع الناس».
- هنا يرفض بالمطلق القول إنه تعب من الكلمات. يؤكد انه لم يتغير، يحب الموسيقى المتجردة كما يحب الاغنية الملتزمة، لا تناقض بينهما. يحضر حينها محمود درويش في غيابه، يقول عن الشاعر الفلسطيني الراحل «كان كوناً بالنسبة إليّ، فقدانه ليس سهلا». ويتابع «الذي فعلته مع محمود درويش هو موسقة شعره، ليس الشعر مجرد نص، الإيقاع الموسيقي أساس الشعر»، معتبرا ان اكثر القصائد التي لحنها اكتشف مجددا «اصولها السمعية».
أمسية مرسيل الغنائية في مهرجان «ارابيسك» في مركز كينيدي كانت تحية لمحمود درويش، بحيث اختار بعناية الأغاني الأقرب الى قلب الشاعر مثل «يطير الحمام» و»في البال أغنية». كما كان لمرسيل في هذه الامسية رسائل في اتجاهات متنوعة. «عصفور طل من الشباك» كانت مهداة الى الأسرى العرب في السجون الاسرائيلية والى المعتقلين العرب في السجون العربية والى سجناء الرأي «من هنا... الى كل مكان». وخصص مقطوعة موسيقية مستوحاة من تانغو أرجنتيني لتشي غيفارا، و»جواز سفر» إلى شرطي الهجرة في مطار «دالس»، قرب واشنطن الذي جعله ينتظر كالعادة ساعات قبل دخول الولايات المتحدة، وقال عن هذه التجربة الحدودية «ما بحب البوليس وأنا صغير».
يتودد مرسيل خليفة الى جمهوره ويعطيه صوتا في جمهوريته الفنية: «هيدي مش حفلة رسمية... زقفوا بس لازم... خدو حريتكن». غنى «أعدّي لي الارض كي أستريح فإني أحبك حتى التعب»، ممهدا بالقول: «الحب حلو بكل اللغات». كما استذكر حورية درويش في آخر قصيدة كتبها محمود لها «تعاليم حورية»، جاء فيها «لم أكبر على يدها كما شئنا أنا وهي... أمي تضيء نجوم كنعان الأخيرة». هي التي قالت عنه عندما دفنته بعيونها «يا شمع مكة وقمر ضاوي ع الدرب»، قبل أن تستريح هي نفسها الشهر الماضي. مرسيل خليفة يحضّر عملا خاصا لمحمود درويش من شعره وأيضا من نثره، وقد أصبح الجزء الرئيسي منه جاهزا لكنه فضل عدم تحديد أي وقت لإصدار الاسطوانة.
- يحرص مرسيل خليفة على تجديد أعماله القديمة. أغانٍ مثل «يا بحرية» أو «جواز السفر» أصبحت فولكلورا شعبيا أو ملحمة على مسرح كينيدي... أوركسترا من الكيمياء ترقص على الموسيقى لتصبح كلمات الأغنية مشهدا صغيرا في صورة أجمل، تختلط فيها مع الموسيقى الكلاسيكية أو الجاز. رامي خليفة يعبث جمالا موسيقيا على البيانو في «كل قلوب الناس جنسيتي فلتسقطوا عني جواز السفر»، والعود لا تستريح قبضته سوى لأميمة الخليل بثياب الفلامنكو، وصوتها الجميل الذي يملأ الفضاء، وخجلها الذي لا يفارق ابتسامتها. يحاول مرسيل خليفة في مكان ما تحديث الطرب وتنويعه، هذا الرجل لا يحب بكل بساطة الوحدة على المسرح ويستهوي كوريغرافيا حوله، لا ارتجال في هذه الجمهورية الفنية، كل شيء يسير بتوقيت طبيعي حدد مساره مسبقا.
يقول مرسيل عن ترحاله الغجري من مدينة الى اخرى: «الفن لا وطن له... هو فضاء مفتوح، لا ابواب ولا اسيجة ولا سواتر». ويتابع: «الانسان الحر هو الذي يستطيع أن يفارق ذاته الضيقة ذاهبا الى المطلق كمسافر جوال، والحياة تكتسب معناها مع تحقق هذا السفر المستمر». لكنه يستدرك قائلا «بتعب من السفر أوقات»، يشتاق إلى عمشيت «بحب ضيعتي كتير»، ويضيف «بس بكل مكان رحت خلقت مدينتي وضيعتي، بخلقها بالورقة بصورة على الحيط، بذكرى معينة أحيانا». ويقول عن بيروت إنه يحبها «بس بنبّش عليها لبيروت... بدك تلاقي بيروت تبعولك». وعن ماذا تغير فيه من السبعينيات حتى اليوم، يبتسم مرسيل قائلا: «لحيتي كانت سودا وصارت بيضا». ويتابع «ما في شي ثابت بالحياة، بس الولد بعدو موجود... ما بحب من جوا الا يضل هالطفل عم يركض وعم يحكي، بحب ضل العب وهاللعب بترجمو بشغلي بالموسيقى وحتى بعلاقاتي الانسانية، ما بحب الاشياء تتغير جواتي».

جون معكرون

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...