محمد محسن: أضاف وطور في الظل والصمت

31-03-2007

محمد محسن: أضاف وطور في الظل والصمت

لم يكن عادلاً، بل معيباً، إغفال خبر رحيل المغني والملحن محمد محسن كنيته «الناشف» الدمشقي المولود عام ,1933 وتوفي نهار الاثنين الماضي وحيداً في «بناية الفنانين» إثر مرض مزمن في القلب. عمل محسن في إذاعة «القدس» مغنياً وملحناً، قبل ان تغلق هذه اثر نكبة فلسطين، وبدأ مسيرته الفنية كملحن مع المطربة سعاد محمد في اغنية شكلت بصمتها المؤثرة «مظلومة يا ناس». لحّن ايضا لكبيرات في مجال الغناء مثل ماري جبران ووردة الجزائرية ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وصباح، وكان من المختارين من الرحابنة الذين أتاحوا له التلحين للسيدة فيروز من خارج المدرسة الرحبانية حين قدم لها رائعتها «سيّد الهوى قمري». عام 1971 اعتزل محمد محسن التلحين وكان قد كفَّ عن الغناء منذ وقت طويل، سوى انه عاد وقدم لفيروز اربع اغنيات اطلقتها في «مش كاين هيك تكون» الاسطوانة المشتركة مع ألحان زياد الرحباني، وكانت من آخر ألحانه.
قدم محسن للموسيقى العربية والاصوات الشجية اكثر من ألف لحن، ولا يزال بعضها في مكتبته الموسيقية مسجلاً بصوته، مجهولا ومهملا ومحجوبا عن المغنين. عدا المطربات التي والفت بين اصواتهن وألحان محسن، كيمياء عجيبة، غنى له كبار المطربين ايضا، امثال وديع الصافي ونصري شمس الدين ومحمد عبد المطلب ومحمد عبده ومحمد قنديل، وكانت ألحانه بإلحاح من مزاجه الشخصي، فلا يقدم ألحاناً بحسب الطلب، بل يستدعيها الشغف بالكلمة وبصوت المطرب او المطربة اولا وأخيراً.
أقام محسن سبع سنوات في القاهرة، خلال الستينيات، وعرفه الجمهور البيروتي في منزله في بيروت، ثم عاش متنقلا بين دمشق واميركا التي يقطنها ولداه، غادة ورياض.
محمد محسن، تسجل له مساهمته ايضا في تأسيس الاذاعة السورية عام .1947 تنوعت رحلته في بحثه عن المصادر الحقيقية لينهل منها موسيقاه، كما ليؤكد استقلاليته في ألحانه التي تنوعت من الطقطوقة الى القصيدة الكلاسيكية وفن الموشحات، وقد تتلمذ على يدي صبحي سعيد في دمشق، وحنا خالد في القدس، ولم يخف ميلا الى التعامل مع الكلمات التي تصنف حالياً ضمن قائمة الفصيح المبسط، رغم انه لحن من شعر الزمخشري ـ في كلمة عنه للزميل أنور بدر ـ لكنه لم يغرق في أتون العامية الرثة، لايمانه ان الفن رسالة تطوير وتحديث للذائقة وللإنسان، بينما حافظ في ألحانه على الايقاعات الشرقية انطلاقا من الموروث الفولكلوري والشعبي، مبتعداً عن الايقاعات الغربية او الهجينة.
في موسيقى وألحان محمد محسن، نسمع تطور الموسيقى العربية الذي يسير في خطين متكاملين: واحد يتابع ويطور الخط القديم الموجود والمتراكم من عبده الحامولي الى محمد عثمان الى سلامة حجازي الى كامل الخلعي الى سيد درويش الى عبد الوهاب والسنباطي (وخصوصا في اغنيات وردة وفايزة أحمد وسعاد محمد واللحن الذي اعطاه لزكية حمدان والآخر لماري جبران) والثاني يحاول فتح خط جديد وآفاق جديدة للموسيقى العربية، بتذليل العقبات الموجودة امام ادخال مقامات ربع الصوت العربية في مجال التوزيع الموسيقي (كونتربوان وبوليفوني) كما حدث مع الألحان التي اعطاها لمحمد رشدي ومحرم فؤاد وأصالة نصري ومها الجابري، حتى ناهزت ألحانه (29) اغنية. إتجاهه الحداثي تجلى اكثر في «لو تعلمين» و«جاءت معذبتي» و«لي فؤاد» و«أحب من الاسماء ما شابه اسمها» وكلها للسيدة فيروز، وخالية مع ذلك من الايقاعات الغربية.
رحل محسن عن 88 عاماً، وكان كرّم في مهرجان الاغنية السورية العاشر في مدينة حلب. وهو عاش تقريباً في الظل ومات بصمت تاركاً ألحاناً مهمة عرفت كيف تستفيد من تجارب سابقة من دون الوقوع في فخ التكرار، وذلك من صنعة الفن عند محسن وليس فقط من موهبته الفطرية التي تلمست الطريق الرئيسي الذي سلكه سابقوه في الفطرة والصنعة، من دون ان تبقى الاخيرة سراً مغلقاً عليه.
فنان كبير، عمله ناضج ومتجاوز، ومضيف كل جديد الى تراث الإنجاز الفني العربي. رحل محسن، ونحن نشهد او هي الحال الفني عبر مئات المدعين اللاهثين الى ممارسة الفن وهم يجهلون حتى تاريخه القريب.
في تلحينه «سيد الهوى قمري» اثبت محسن قدرة رسوخ صوت فيروز في المقامات العربية، فقد عرف كيف يحدد ملامح حنجرة فيروز في «السيكا» و«الراست» و«البياتي» وفي التركيز على تعميق الاتجاه العربي في هذه الحنجرة الفائقة الفتنة. ولعل ذكاء محسن في هذا الاتجاه ساعد في تعاونه مع زياد الرحباني على وضع ألحان «مش كاين هيك تكون» لما لوضوح ألحان زياد الرحباني في جذر شرقيتها، مع تلك الروح الفنية المرحة الساخرة التي يتمتع بها، ومع التدفق الطبيعي المرتبط بالينابيع الاصلية (الرحابنة) وعدم وجود الصنعة والتكلف والزخرفة المتعمدة.
برحيل محسن، تتسع الهوة الفنية التي نتردى بها جميعا ويبرز اكثر الانهيار الكامل الذي تعيشه الاغنية العربية اليوم، كما تتقطع الصلات بالتراث الغنائي العربي (التراث الجميل وليس بوصفه تراثاً فحسب، بدليل ان شباب «سوبر ستار» او الهواة بشكل عام، ما زالوا يرددون ذلك التراث الجميل سواء منه الفولكلوري او التقليدي او حتى المعاصر.

عناية جابر

المصدر: السفير

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...