محافظون جدد على الطريقة الإسرائيلية

26-10-2006

محافظون جدد على الطريقة الإسرائيلية

لن يتحول النظام في إسرائيل كما يبدو إلى نظام رئاسي نتيجة لضم حزب أفيغدور ليبرمان للائتلاف الحكومي رغم أن أحد شرطيه للانضمام كان قبول قانونه لتحويل النظام إلى رئاسي. ويعود تصويت الحكومة بالأغلبية لمصلحة اقتراح القانون إلى معرفة غالبية الوزراء أن القانون لن يمر في الكنيست، فهم يعارضونه في الواقع. لقد صوتت غالبية الحكومة ضد رأيها تكتيكيا، أي أنها كذبت عندما ادعت أنها تدعم النظام الرئاسي وصوتت معه، أو صوتت معه وقالت إنها لا تدعمه، أما ليبرمان فكذب عندما اعتبر هذه العملية قبولا لشروطه. هذا التكاذب الفاضح بات يثقل العمل السياسي والكتابة السياسية إلى درجة الضجر.

لم تجرب إسرائيل النظام الرئاسي ولكنها جربت الانتخابات المباشرة لرئاسة الحكومة وألغتها بعد ثلاث دورات. وما زالت تعاني من آثارها. ونذكر بشكل خاص أن التصويت ببطاقتين، واحدة لرئاسة الحكومة وأخرى للبرلمان، فتت الأحزاب الكبيرة إلى أحزاب متوسطة وصغيرة تعبر عن هوية وانتماء بعد أن عُبِّر عن الموقف السياسي في التصويت لرئاسة الحكومة.

حتى عندما ندرِّس نظريات وتطبيق الديمقراطية يجري الحديث عادة عن نظامين ديمقراطيين ممكنين، رئاسي وبرلماني، وعلى هذا يدور النقاش أيضا في العالم العربي، عند الحديث عن النماذج التي يرغب بالانتقال إليها. ولكننا نود هنا أن نخرج عن المألوف بالقوة اللازمة لتوضيح نقطة في مقال قصير، إذ في عالمنا المعاصر32 دولة ديموقراطية يمكن تعريف النظام الديموقراطي فيها كمستقر نسبيا من ضمن 80 دولة تعتبر ديموقراطية، منها فقط دولتان رئاسيتان، والبقية دول رئاسية ديموقراطية حديثة العهد في أميركا اللاتينية وأفريقيا. الديموقراطيات الأوروبية هي ديموقراطيات برلمانية. علينا أن نذكر هنا أن فرنسا دولة تجمع بين النظامين، كذلك الديموقراطية الوحيدة التي استمرت في العالم الثالث بعد أن قامت بعد الاستعمار مباشرة رغم مشاكلها، وهي الهند. وفي كل الامتحانات والمعايير والأبحاث الموضوعة لتقويم عمل الديموقراطيات بدءا من world values survey ، وحتى «فريدوم هاوس» تحتل الديموقراطيات البرلمانية مكانة متقدمة مقارنة بالرئاسية، وهي تحتل الأماكن العشرين الأولى بين ثمانين تصنف بموجب معايير سيادة القانون والاستقرار السياسي ومحاربة الفساد والشفافية والمساءلة واحترام حقوق الإنسان. وأيضا في ما يتعلق بمعالجة الفجوة الاجتماعية الاقتصادية. الديموقراطية البرلمانية هي الديموقراطية الأولى التي نتخيلها عندما نبدأ التفكير بالديموقراطية كعملية اختيار لممثلي الشعب، وهي التي تمنح المواطنين المنظمين درجة اكبر من التأثير.

عندما يتخيل الإسرائيليون وغيرهم نظاما رئاسيا فإنهم يتخيلون الولايات المتحدة. وهي استثناء بين الديموقراطيات المستقرة. وقد أسفرت عملية تقليد نظامها عن كوارث في أميركا اللاتينية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وفي الواقع فإن رئيس الولايات المتحدة في شؤون السياسة الداخلية أقل صلاحية وقوة من معظم رؤساء الحكومات في النظام البرلماني، لأن غالبية الصلاحيات الداخلية هي في يد الولايات، وصلاحياتها توازن وتفرمل صلاحيات الرئيس، مما يجعله رئيسا غير قوي في الأزمنة العادية خلافا لما يدعي، هذا عدا كونه معرضا للفساد بشكل حاد من دون آليات محاسبة جدية، كما هو حال الرئاسات الفرنسية المتعاقبة.

لا يقود التوق إلى رجل قوي، إذا بثته أحزاب ونخب كحل سياسي لعدم الاستقرار، إلى ديموقراطية، لا رئاسية ولا برلمانية، بل إلى ديكتاتورية. وهو خطر تتعرض له الأنظمة الرئاسية أكثر من البرلمانية، فأكثر من 65 في المئة من الديموقراطيات الرئاسية انهارت وحلت محلها ديكتاتورية في مرحلة وأخرى من تاريخها، وفقط 36 في المئة من الديموقراطيات البرلمانية انهارت في الماضي. 75 في المئة من الديموقراطيات البرلمانية تعتبر ثابتة وفقط 25 في المئة من الديموقراطيات الرئاسية تعتبر أنظمة مستقرة.

دوليا، يصنف النظام القائم في إسرائيل كديموقراطية برلمانية، هكذا على الأقل تصنفه مراكز الأبحاث التي عينت نفسها فاحصة مدققة في عمل الديموقراطيات، والتي تعتبر نفسها ديموقراطية يهودية، وهي توضع في السنوات الأخيرة في أدنى الرتب بين الديموقراطيات البرلمانية وتقترب في تحصيلها للنقاط من الأنظمة الديموقراطية الرئاسية في العالم الثالث.

هنا يمر نظام برلماني في أزمة حقيقية، فعمر حكوماته يقصر باستمرار وأحزابه تقوم وتنقرض كالفطريات، وعقلية النخبة الطلائعية الأوروبية التي اقامته ذهبت إلى غير عودة. وضم ليبرمان هو أحد مظاهر الأزمة وليس أحد حلولها. فمجرد الحديث عن تغيير طريقة الانتخابات وبنية النظام في سوق تفاوض ائتلافي وفي سياق جهد حزبي يرمي إلى إطالة عمر حكومة ونوابها لا إلى تنفيذ برنامجها، هو دليل على هشاشة النقاش، وعلى فساد السياسة الإسرائيلية التي باتت تعترف أنها سياسة الحفاظ على المنصب والكرسي البرلماني التي تستبدل الإيديولوجيا بالكرسيولوجيا ولا تنجح حتى بذلك.

هذه حكومة فقدت الغالبية في الاستطلاعات. لكن لا يفترض أن تشكل هذه مشكلة لحكومة ديموقراطية فعلا. فالحكومة تنتخب مرة كل أربع سنوات وليس في استطلاع يومي. ولكنها حكومة تخلت عن برنامجها السياسي الذي انتخبت على أساسه، وأقصد فك الارتباط، وأعلنت عمليا بعد الحرب على لبنان أنها لا ترغب بطريق السلام كبديل لفك الارتباط. ومن يصغي جيدا يدرك أن أولمرت يقول عمليا انه يريد سلاما مع سورية ولكنه لا يريد أن يفاوض الرئيس الأسد ولا يريد إعادة الجولان، وانه يريد أن يفاوض الرئيس الفلسطيني لكن ليس لديه برنامج للتوصل معه إلى تسوية، فاختر ما شئت وما أكثر الخيارات!!

واختيار أولمرت توسيع الائتلاف باتجاه ليبرمان لإجهاض النقد من اليمين للحكومة الضعيفة بعد سوء أدائها في لبنان يعني أيضا اختيار المواجهة، أو على الأقل التصعيد. لا انتخابات رئاسية ولا من يحزنون.

يمثل ليبرمان اليمين المتطرف، ولديه مشروع يشبه مشروع المحافظين الجدد في صراحته. فهو من ناحية علماني إلى درجة الإلحاد، ويسعى بما يتلاءم مع حاجات جمهوره لتغيير العلاقة بين الدين والدولة ليس باتجاه أكثر ليبرالية أو ديموقراطية، بل باتجاه أكثر قومية من دون الفصل بين البعدين. وبالنسبة اليه يكفي أن يخدم روسي في الجيش لكي يعامل كأنه تهوّد. هذا الشكل القومي من التهويد في مقابل الديني يقارب موقف اليسار الصهيوني مثل مواقف يوسي بيلين وغيره ليشكل أساسا لحوار بينهما، ولكنه ليس نقطة اللقاء الوحيدة. فهو يلتقي مع اليسار في «المسألة الديموغرافية» وعلى ضرورة التخلص من الفلسطينيين في إطار اتفاق يتخلون فيه عن مطالبهم التاريخية كافة اللهم إلا الكيان السياسي. وهو في هذه الحال مطلب إسرائيلي. ويريده ليبرمان بشكل واضح كيانا عميلا لإسرائيل، وهو لا يخشى وجوده، بل بالعكس، فهو يتميز عن اليسار الصهيوني في أنه يطالب بضم شريط من قرى الداخل الفلسطينية تشكل 200 ألف مواطن عربي يعيشون كمواطنين داخل الخط الأخضر، ويشترط «منح» الحقوق لمن تبقى في الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي. ويتميز عن اليمين التقليدي في أنه صريح في حديثه عن التسوية في قضية الأرض. وهو مثل المحافظين الجدد يدعو إسرائيل إلى التصالح مع قوتها وان تكون صريحة مع محيطها وجاهزة لاستخدام هذه القوة. لدينا هنا يمين علماني أوروبي متطرف غير منشغل بالاقتباسات من التوراة، يريد في إسرائيل نظاما رأسماليا قويا يقلد الولايات المتحدة، ولا يخشى استخدام القوة السافرة بشكل صريح، ولا يعترف بأي حقوق للعرب، ولكنه يقبل من منطلقات أمنية وديموغرافية بتجنيد كيان فلسطيني لاستيعاب الفلسطينيين.

لغة ليبرمان بسيطة الى درجة الفظاظة، فيها تظاهر مستمر بالتجرد من الأوهام والذهاب مباشرة إلى الموضوع، مما يثير إعجاب اليمين العلماني الأوروبي. ولا يرغب ليبرمان، كما يدعي هو، بإثارة إعجاب العالم ولا العرب. فالعربي الذي يريد أن يكون مواطنا يجب أن يخدم في الجيش. وكل من يرفض الخدمة في الجيش عليه أن يقبل بمنزلة «قاطن» أو «مقيم» من دون حقوق مواطن ومن دون حق اقتراع. الحديث هنا عن ترانسفير حقوقي لمن تبقى ولم يتم التبادل به. أما مستمعوه من المهاجرين الروس فيأتون من بلاد شكل فيها نقل ملايين الناس من مكان لآخر وإزالة شعوب و «إنشاء أخرى» تفاصيل في عهد ستالين، وهم يتصرفون أصلا كمتفاجئين بوجود عرب في البلاد... لم يخبرهم احد بذلك!

من الصعب أن تستمع إلى مهاجر روسي لا يتميز بذكاء أو ثقافة، ولا يتقن العبرية بشكل معقول بعد رغم انه هاجر إلى هذه البلاد قبل ما يقارب ثلاثين عاما، وهو يقول لك عبر وسائل الإعلام ما هي شروط مواطنتك في هذه البلاد، ومن الصعب أن تستمع بجدية إلى من رأيته بأم عينيك طالبا جبانا في الجامعة في تلك الفترة ينضم حال وصوله من روسيا إلى عصابة اليمين المتطرف العنيف بقيادة تساحي هانغبي ويهدد ويشارك اليمين في العنف ضدنا، عندما كنا طلابا نبني الحركة الطلابية العربية في الجامعات الإسرائيلية، رغم معرفتنا في حينه بجبنه عن تجربة. المشكلة أنه يعرف أننا نعرف، ولذلك لديه عقدة من بعضنا.

لا يراودني هذا الشعور دائما، فكل السياسيين المتعجرفين لديهم من يعرفهم شبابا، ولا شك أن لجورج بوش أترابا يعرفونه سكيرا غير فالح بشيء. هذا لا يساعد كثيرا، ولكن الملاحظة تأبى إلا أن تقال عند بعض المفترقات. فكيف اكتب وأحلل ظاهرة ليبرمان بجدية من دون أن أقول شيئا عن متوسطية هذا الشخص وتفاهته وجبنه الشخصي وهو الذي يحض على الحرب من دون توقف؟ ولكن الم يكن هذا حالنا مع غالبية الحركات الفاشية في التاريخ؟ ليس هنالك ما يعزي في هذه المعرفة إلا لغرض التحرر الشخصي من تفاهات وأكاذيب المشاهير بشكل عام.

يدخل اليمين المتطرف إلى وكر انتهازيين فيبدو مبدئيا، يدخل إلى سادوم وعامورة السياسة والصفقات، فيبدو تقيا ورعا. ولقد أصاب ليبرمان بمجرد دخوله هذا عصفورين بضربة واحدة. أولا ربح الشرعية بأنه طرف شرعي وليس مجرد مهاجر أحمق يريد نظام رجل قوي، نصب نفسه نذيرا وطنيا يستنفر الناس ضد الخطر الإيراني، دون أن يتميز بعقل استراتيجي، فمن كل الأهداف في الدنيا هدد في الماضي بقصف سد أسوان. وثانيا، لم يطالب بمناصب وزارية لغرض التوظيف وغيره، بل طالب بتفصيل وزارة واحدة له تشكل تجسيداً للمبدأ الذي يطرحه، فهو يبدو كأنه الوحيد الذي جاء لتطبيق برنامجه السياسي. لقد فصلت له وزارة تحمل عنوان «وزارة التهديدات الاستراتيجية».

فقط في إسرائيل يمكن تفصيل كائن من هذا النوع. دولة لم تعين بعد وزيرا للرفاه الاجتماعي لكنها انشأت بعد مفاوضات ائتلافية وزارة للتهديدات الاستراتيجية. ويمكن في المستقبل أن تقوم «وزارة المخاوف الامنية» أو «وزارة الخطر الديموغرافي» أو «وزارة عدم الاعتراف بإسرائيل» أو «وزارة العالم كله ضدنا» أو «وزارة شعب الله المختار» أو «وزارة التاريخ وأرض إسرائيل الكاملة». إنها وزارة تجسد موقفا ايديولوجيا يقول إن أهم ما يواجه إسرائيل حاليا هو التهديد الإيراني والتحالف السوري الإيراني مع «حزب الله» و «حماس». حسنا! ولكن التصدي لهذا التحالف كان دائما مهمة الخارجية والدفاع والمخابرات وغيرها. ما الحاجة لوزارة جديدة يشغلها رجل لا ماضي امنيا له، اللهم إلا إذا جمعته علاقات مع المافيا الروسية، ولا يتميز بفكر استراتيجي خارق؟ هذه وزارة للتحريض والتعبئة والتآمر. وهي وزارة لكسب شعبية في الشارع الاسرائيلي من التطبيل والتزمير ضد «العدو».

ومجرد دخول ليبرمان الى الحكومة سوف يضعف حزب «العمل» الذي سيبدو بمجرد قبوله الجلوس معه أكثر انتهازية ورغبة في الحفاظ على المنصب. وسوف يكون هنالك عنوان لأي خلاف مستقبلي داخله: الموقف من انضمام ليبرمان. وبعد أن يضعف حزب العمل ومع الائتلاف القديم قد يختار ليبرمان أن يغادر الحكومة متى شاء إذا كان قادرا بمغادرته على التسبب في حلها. في مثل هذه الحالة يصبح هو نجم اليمين.

عزمي بشارة

المصدر: وكالات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...