فوّاز حداد يتغلغل في منظومة الفساد ويعريها

25-06-2008

فوّاز حداد يتغلغل في منظومة الفساد ويعريها

يعالج فوّاز حدّاد في روايته موضوع الترجمة، الترجمة الأدبيّة، وترجمة الوقائع الحياتيّة سواء بسواء، عبر شخصيّة بطله المترجم، المبدع، الخائن، أو المخوَّن، حامد سليم، هذا الذي يرفض الانصياع للترجمة الحرفيّة، ولا حتّي المعنويّة، لأنّه يرفض أن يكون في المستوي الثاني، بل نراه يتدخّل في الموضوع، فيغيّر هنا، ويضيف هناك، ..
الترجمة خيانة. مقولة دارجة عن الترجمة، ووفقها، كلّ مترجم بالضرورة خائن، بمعني ما ومن زاوية محدّدة، هذا الوصف يتكرّر بنوع من التوارث، من دون التركيز علي أبعاده، فيلطَّف أحياناً إلي أنّ الترجمة هي كالقبلة من خلف الزجاج، لا طعم لها، ولا تشبه نفسها، أي تكون شكليّة بعيدة عن الجوهر المفترض.. ولا يمرّ يوم إلاّ وتحفل صفحات الصحف أو الجرائد بمقالة أو تنظير عن الترجمة، أو نقد أو تقريظ لترجمة بعينها، وتثمين جهود هذا المترجم أو ذاك، بل وإسباغ المشروعيّة علي أعمال مترجمة، ونزعها عن أخري. فيكون مترجم ما مجرماً، لأنّه غير متمكّن من مادّته، أخطأ في مكان وأصاب في آخر، ويكون نكرة غير مشهَّر به في الحالات العاديّة. أمّا أن يكون معرّفاً، فهذا ما ينبغي البحث عن موجباته وموجداته معاً، وهذا ما يطرحه الروائيّ فوّاز حدّاد في "المترجم الخائن"؛ روايته الجديدة الصادرة عن دار رياض الريّس للنشر وتقع في 488 صفحة من القطع الوسط.
يعالج فوّاز حدّاد في روايته موضوع الترجمة، الترجمة الأدبيّة، وترجمة الوقائع الحياتيّة سواء بسواء، عبر شخصيّة بطله المترجم، المبدع، الخائن، أو المخوَّن، حامد سليم، هذا الذي يرفض الانصياع للترجمة الحرفيّة، ولا حتّي المعنويّة، لأنّه يرفض أن يكون في المستوي الثاني، بل نراه يتدخّل في الموضوع، فيغيّر هنا، ويضيف هناك، تبعاً لما يرتئيه، يختتم بنهايات يراها واجبة، يمسح نهايات يعتقد أنّها جريمة لا تليق بالأبطال الذين يتعاطف معهم، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم. حيث تبدأ مأساته بعد أن يدبّج أحد الصحافيّين الانتهازيّين المتنفّذين مقالة كيديّة يصِمه فيها بـ"المترجم الخائن"،(ص18)، رغم أنّ ذاك الصحفيّ لا يتقن الإنكليزيّة؛ التي هي لغة الرواية الأصليّة، وذلك انتقاماً منه علي إهانة سابقة كان قد ألحقها حامد سليم به، فوجد فرصة ملائمة للانقضاض عليه وتجريده من أسلحته، ووصفه بالصفاقة والانتهازية والخيانة، ودعا إلي معاقبته علي فعلته الشنيعة بحقّ الأدب، وذلك عندما يقول: "لو أنّ لدينا شرطة أدب، لكانت عقوبته تكسير أصابعه". إذ أنّ الدافع لم يكن الأدب أو الدفاع عنه، بل الحقد، وذلك يتوضّح رويداً رويداً في الرواية، بعد أن يكتب المترجم دفاعاً عن ترجمته، ويرسل مادّته إلي الجريدة التي نشرت مقالة الصحافيّ شريف حسني المسيئة إليه، فتكون تلك القشّة التي ستقصم ظهره فيما بعد، من ناحية عدم نشرها بداية، ثمّ من ناحية أخري تكالب عصبة أو عصابة الصحافيّ عليه، وتخوينه المرّة تلو الأخري، وإقصائه عن الوسط الأدبيّ، وتعميم اسمه علي جميع دور النشر كي لا تتعامل معه، باعتباره فاقداً للأمانة والمصداقيّة. ثمّ تتري عناوين الفصول الفرعيّة،(41 فصلاً)، الطويلة بالمقارنة مع العناوين الاعتياديّة المتعارَف عليها، تتسلسل وتعرّي زيف الممارسات اللاأدبيّة التي تمارَس في الساحة التي يفترض أن تكون أدبيّة، حيث العنوان يحاول تلخيص فكرة الفصل الرئيسة، أو التعريف بها، ومن تلكم العناوين مثلاً: "المترجم: أليس الفنّ في جوهره عملية ترجمة؟- الصحافي: إذا كان للأب نصيب فللأحقاد أنصبة. الناقد: في الأدب لا محل للاستثناءات، الجميع سواسية. المجموعة: الحرص علي رفعة الأدب وتنقيته من الشوائب." إلخ تلك العناوين التي تقترب من إعطاء ملامح عامّة للفصل، بتقديم الرأي أو التمهيد لما سيأتي.

سقوط التمثال
وقد نعثر علي فصل يكون تصويراً لمشهد متلفز سبق لنا أن شاهدناه، كمشهد إسقاط تمثال صدّام بعد دخول قوّات الحلفاء إلي بغداد صبيحة سقوطها.. الأمريكان: بغداد تحت الاحتلال. (ص407).
نجد حامد سليم الذي اشتبكت قصّته الشخصيّة مع قصص عابرة - كما يقول عن نفسه في الرواية - أبطالها كتّاب مرموقون، ومناضلون شرفاء وغير شرفاء مغلوبون علي أمرهم وعواطفهم، وربّما مافيا أيضاً، يشاركونه رغماً عنه، وقبوله بهم، مشروط بدعمهم له داخل رواية باتت أكبر من قصّته، تشكّل الإطار الواسع لتنويعات قصصيّة تتبادل التأثّر والتأثير، وتحقّق باجتماعها معاً، المعني الأشمل لمغامرته في معمعة الحياة والبشر، يعبّر عن آرائه حول الترجمة بجرأة، يسهب في الحديث عن منغّصات الترجمة الكثيرة، ويؤكّد في كلّ مرّة أحقّيّة المترجم في التدخّل، لتدارك خلل ما وقع فيه كاتب النصّ الأصليّ، وكي يكون هنالك مجال لتلاقح الأفكار، فيكون النصّ الواحد نتاج إبداع مؤلّفين اشتركا في كتابته، في زمانين ومكانين مختلفين، في عالمين متباينين، ويكون إذ ذاك القارئ هو المستفيد الأوّل والأخير، لأنّه يطّلع علي الفكرة نفسها مُصاغة بما يلائم واقعه. أي أنّ هنالك محاولة من جانب البطل لشرعنة الخيانة الأدبيّة في الترجمة، أو إيجاد مسوّغات مقنعة، تتقنّع خلف رؤي يشتطّ في تدبيجها، وذلك عندما يصف الترجمة أنّها أداة بناء لا هدم،(ص37)، أو أنّها ليست مجرّد نقل للأفكار، أو أساليب جديدة في التعبير، وطروحات مغايرة في التفكير، وإنّما التحاور معها، ودحضها وتبيان خطلها، إن لم تلائم مجتمعاتنا. (ص38).
من شخصيّات الرواية إضافة إلي المترجم حامد سليم، الصحافي حسني شريف، المفكّر الدكتور حكيم نافع، الناقد حلّوم، ليلي شكران التي هي نفسها الشاعرة لميس عبّاس، النحّات العراقيّ حسين صبري، الروائيّ سميح حمدي، الروائيّ لصّ الأفكار سمير فاروط، سوسن؛ الظامئة إلي الشهرة بشتّي الوسائل الظاهرة والخفيّة، مع المعارضة والسلطة علي السواء.. وشخصيات أخري كثيرة تظهر وتختفي بحسب الحاجة إليها، أو بحسب إيجاد دور لها، في تصارع القوي، وتنافر الرؤي، واشتباك الكلّ بالكلّ.. وكلّ شخصيّة تتعثّر بتجلٍّ واقعيّ لها أو أكثر، حتّي أن المطّلعين قد يغمزون، أو يشيرون بهمس إلي أنّ الشخصيّة الفلانيّة هو فلان أو فلانة بالضبط، في المجتمع الذي يُحكَم بعقليّة وقبضة رجل الأمن، ويتوجّه كما رسم له الخطّ الاستخباراتيّ، المُتوّهه عن نفسه، المُموِّه وجوه ووجود اللاعبين بالمصائر..

لعبة الاستعارات
عندما تتأزّم الظروف، وتتعقّد المشاكل علي رأس المرء، ما عليه إلاّ أن ينتحل اسماً آخر لنفسه، كي ينعم ببعض الهدوء المفقود، أو بعض الامتيازات التي لن ينالها ما لم يعتمد ذلك. فبعد إقصاء حامد سليم عن كلّ شيء، تتبدّي الحاجة إليه، ويُلجأ إليه لأسباب مختلفة، ويُشترط عليه قبل بدء العمل أن ينسي اسمه الذي بات وبالاً عليه بعد جريمته النكراء بحق رواية الأفريقيّ الذي فاز بجائزة بوكر، وذلك عندما غيّر الخاتمة بما يتلاءم ما يجب أن يكون لا ما اختاره المؤلّف، فيضطرّ مرغماً علي الانصياع للشروط التي تُفرَض عليه، فيتبعّض، يكون نفسه ولا يكونها في الوقت نفسه، ينساق وراء أسمائه المستعارة التي يعيّر نفسه بها مراراً، ينقسم بكلّيته بين حامد سليم المتكتّم علي المترجم عفيف حلفاوي، والراصد الثقافيّ أحمد حلفاني محرّر القسم الثقافيّ في إحدي الصحف، وحسن حفلاوي مزوّد لصّ الروايات فاروط بالأفكار الغريبة، الغربيّة.. يضيع من مترجم خائن، مخوَّن، إلي مترجم متخفٍّ، إلي مشرف ثقافيّ، إلي سارق لالتماعات المؤلّفين المنتسين، في خدمة فاروط المتعظّم بخسّته ولاأدبيّته وارتهانه للاستخبارات التي تدير اللعبة، وتدبّر الخطط، وتمسك بكلّ الخيوط التي يستحيل أن تتجاوز الخطوط الحمر المتعارَف عليها.. نتيجة لذلك يري صورته مشوّهة، ويري نفسه مسخاً، "لا يخفي عليه ما يتعرّض إليه من نهب حثيث، وخضوع لأساليب هو ضدّها. فلا الترجمة الحرفيّة لحلفاوي ترضيه، ولا الراصد الأدبيّ المنساق في النهاية لأوامر رئيس التحرير يسعده، ولا اختلاس الروايات يعدّ عملاً مجيداً، كلّ منهم يستعمله علي هواه، المترجم التافه يستغلّ معارفه في الترجمة، والراصد المتطفّل لا يتورّع عن ممالأة الوسط الثقافيّ، وحفلاوي يستعير ذائقته الروائيّة. يتقاسمه النشطاء الثلاثة، بين رواية تترجم، إلي مقال يُحرّر، مروراً بروايات تفصفص، جادين في عمل دؤوب. لايستريح من متاعبه معهم إلاّ خلال النوم"..(ص445).

الانتقام من المآسي
كما أنّ هناك الفتاة التي أحبّها حامد أيّام طفولته، ليلي شكران التي تهرب مع حبيبها الفلسطينيّ إلي لبنان، ثم تتشرشح معه في المدن والدول والمنافي التي تنال منهم، بعد أن أُخرِج جميعهم من لبنان، وبعد تخلّي الجميع عنهم وخيانة قضيّتهم العادلة، فتعاني معه الويلات، ثمّ تُعاد إلي بلدها بعد أن يقتل زوجها برصاصة أخطأت طريقها في شجار أخويّ، لتعيش تحت اسم أرملة الشهيد، ثمّ لتنتقم من مآسيها بالشعر، فتختار الكتابة في الجريء جدّاً، بحسب الموضة الدارجة، وتنشر تحت اسم لميعة عباس، فتلاقَي في الأوساط بترحيب كبير، ثمّ يعود التواصل وتصبح صداقة بينها وبين عاشقها الصغير الذي كبر وأصبح مشرفاً ثقافيّاً بالاستعارة أو النيابة عن آخره، وتصبح عشيقة للنحات العراقيّ حسين صبري، المنفيّ إلي دمشق هرباً من ظلم النظام السابق، هذا الذي يحيا في بغداد روحاً في حين هو في دمشق شكلاً، وتتناهبه الشكوك التي تكاد تقضي عليه مع عشيقته الشاعرة التي روّج لها في أوساط الأدباء كثيراً، ونحت لها تمثالاً كي يخلّدها.. ولا تجدي المحاولات المتعدّدة التي تقوم بها الشاعرة لنفي شكوكه، فتقرّر في لحظة ضعفٍ، أو انتقام، أن تكون حقّاً تلك التي يُخوّنها، فتختار شاعراً غزليّاً شابّاً لتمارس معه الخيانة، لكنّ ذلك لم يكتمل، وخانها تصميمها علي الخيانة، مثلما خانت الشاعر ذكورته، ولم تفلح في إتقان الدور الذي لم يرسم لها، ولم يسعفها تصميمها الخيانيّ المستعار.. من ناحية أخري، تكبر مأساة النحّات عندما يعود إلي وطنه بعد سقوط النظام، ليجد الاحتلال يمارس كلّ شنائع الكون، يقتل، ينهب، يسلب، وليجد الطاغية الأوحد قد تناثر وأنبت طغاةً متعادين متحاصصين علي حساب وطنٍ مستباح، كذلك ليجد الناس كلّهم متعادين، كلّ منهم ينعت الآخرين بالإرهابيّين.. يعود إلي دمشق بعد سيل الإهانات التي يتعرّض لها في قريته علي أيدي قوّات الاحتلال، ليبقي مستعيراً صورة وطنه الذي يتمنّاه، لا الذي كانه قبل السقوط، ولا ما أصبح عليه بعده.. ينسي شكوكه حول الخيانات المزعومة لعشيقته، بعدما يجد أنّ وطنه قد استُبيح، وهُتك كل ما فيه، يفقد رغبة الحياة، فينهزم ويستسلم، عندما يختار الانتحار حلاًّ، ويرمي بنفسه من سيّارة أجرة علي الطريق، ليرتطم رأسه بالأرض ويتحطّم، ولتدوسه أكثر من سيّارة، فيقضي علي الغربة التي تعشّشت في داخله بالموت الذي هرب إليه، ووجده مخلّصاً له من مصائبه المتتالية، المتعاظمة.. وهناك أيضاً، الروائيّ سميح قاسم، المُقصي عن المشهد الثقافيّ برمّته لأنّه غير مرضيّ عنه، هذا الذي لم يستطع أن ينفطم عن القلم والحبر والورق والقلق، فبقي مواظباً علي الكتابة، حتّي آخر لحظة في حياته، وعندما لاح له بارق أمل بالنجاة، تمكّنت منه وساوسه التي تأبّدت في داخله بعد أن انزرعت بالقوّة فيه، فاختار بدوره الهرب مرّة أخري، معتبراً من المرّات السابقة التي خرج منها خاسراً وإلي الأبد، من العالم الذي يخيّل لنفسه المستقبل العامر فيه..
هكذا يمضي الكاتب في لعبة الاستعارات، أسماء مستعارة، أوطان مستعارة، شخصيّات مستعارة، يبحث عن الجوهر الذي يتضبّب في سراب الاستعارات، ولا يكشف سرّها كلّها إلاّ ما يختاره لها من خواتيم، يسردها موجعة، ينتقيها مؤلمة، ليبقي الإحساس بالمرارة في الحلوق، عسي ذلك يكون محفّزاً علي التغيير المأمول، في فضّ تشابكات منعقدة علي بعضها، سادّة كلّ السبل المحتملة، مبقية علي كلّ الأعطال التي نجمت عنها، والأعطاب والشروخ التي أنتجتها، واليباب الذي عمّمته..

وصايا الكاتب
يمرّر الكاتب وصاياه عبر أبطاله، ولا شكّ أنّه لا يريد لها أن تكون مغدورة فقط، بل يريدها كوصايا كونديرا الذي أسبغ عليها الغدر لتحيا، وذلك يتردّد علي ألسنة أبطاله الذين نوّع في اختياره لهم، من المترجم، إلي الشاعر، إلي الروائيّ، الصحفيّ، المجرم، البريء، الضحيّة، الجلاّد.. وذلك في بحر الصراع المزمن بين الخير والشرّ.. وهو في روايته يغوص في عالم الأدب، شعراً، رواية، قصّة، نقداً، ترجمة، تأليفاً وتوليفاً، يطلع قرّاءه علي خفايا الكتّاب كلّها، لا يسكت علي نقطة أو يتوقّف عند حدّ، فيشرح كيف أنّ هناك مافيا ثقافيّة علي منوال المافيات الأخري، ولكنّها دون تلك المافيات قوّة، لأنّ سلاحها القتل بالقلم، فهذا كاتب ينتضي قلمه ليجهز به علي مَن حوله، وذاك آخر يشهر قلمه ليشهّر بآخر قد يشكّل له منافساً، وآخر يستعدي شلّته علي خصمه.. أي أنّ الشلليّة والافتئاتيّة تينع في سوق الأدب، فلكلّ شلّة زعيمها، ولكلّ زعيم جوقته، وما زعيم الشلّة إلاّ إمّعة عميل تابع لتابع بدوره.. وما الزوابع المثارة إلاّ غطاء غير شرعيّ للقبح الذي يمارَس في مناحٍ أخري، ويتّخذ هؤلاء المتأدّبون علي عاتقهم تغطية الحقيقة والتعمية عليها، لأنّ جلاءها سيكشف عريهم..
نقرأ بين طيّات الرواية تنبيهات كثيرة تحذّر من الإقدام علي النقد من دون التسلّح بأسلحة علميّة، ومنها ما يوصي به المتبعّض، حامد سليم لجزئه حلفاني، وهو في ذلك يذكّر بوصايا أو تحذيرات أو نصائح الكثيرين من الكتّاب أو الأساتذة لتلامذتهم أو مستنصحيهم، ويتلاقي معهم في ذلك: "ياقريني حلفاني، ليست هناك فكرة أدبيّة أو فلسفيّة أو علميّة مهما يكن حظّها من التعقيد والعمق والدقّة، إلاّ وتستطيع ملامستها ومجاذبتها والتعبير عنها بلغة مفهومة، وإيصالها إلي عقل القارئ، وهذا لا يتمّ إلاّ بشروط، منها: أوّلاً، إجادة فهم الفكرة وتمثّلها جيّداً... ثانياً، الأمانة، توخَّ ما تمليه عليك، فلا تستخدم فذلكات تنظيريّة أو فلسفيّة أو لغويّة لإسباغ قيمة علي ما تكتبه. ثالثاً، النزاهة، لا تسبغ ضغينتك علي الكتاب لأنّك تكره الكاتب. رابعاً، وهو الأهمّ، ألاّ تنصاع لوهم يقيس عمق الفكر بغموض التعبير".(ص287-288). وهذه رغم أنّها علي لسان بطله، ولنفسه، فإنّها ممّا يودّ الروائيّ أن يحذّر منه نقّاده، أو ينبّههم إليه، لا سيّما عندما نتعرّف علي الكاتب السارد الكلّي العارف بما جري وسيجري، الذي يؤجّل الحديث عن شخصيّة ليعود إليها فيما بعد، متوجّهاً إلي القارئ مباشرة، وهذه طريقة تتكرّر مع فوّاز حدّاد في أكثر من رواية له.. (مرسال الغرام، مشهد عابر..).
الروائيّ يتدخّل هنا وهناك، هو نفسه راويه، يقحم صوته في عوالم شخصيّاته، لا يكون محايداً معها، ينبّه قارئه إلي أمرين متعاكسين معاً، أوّلهما أنّه يقرأ رواية لا علاقة لها بالواقع، وثانيهما أنّه يقرأ الواقع مكتوباً وممثّلاً علي الورق، وهو الذي يتكفّل بتدوينه..(80). وقد يستشفّ من صراع الشخصيّات المحبوك، والكثير من التحليلات عن الأدب والنقد، أنّ الكاتب نرجسيّ يحذّر نقّاده من التمادي، وأنّه قد ردّ علي الجميع سلفاً، بردّ كيدهم في نحرهم، وأنّهم مهما تنوّعوا فلن يتجاوزوا التصنيف الذي صنّفهم وفقه في روايته..

فلاشات:
عنوان الرواية استفزازيّ تحريضيّ، يثوّر لدي الناظر أو السامع، قبل أن يصبح القارئ، الرغبة في قراءة المضامين التي يشير إليها، ويستبطنها..
لغة الرواية متأرجحة بين أقصي اليمين وأقصي اليسار، من جهة التنويع، هذا إذا جاز لنا تصنيف اللغة مثل هذا التصنيف السياسيّ، حيث نقرأ كلماتٍ يُشتمّ منها أجواء الشعر الجاهليّ، وبالمقابل، قد نقرأ في الصفحة نفسها كلمات عامّيّة مُفصَّحة، مستخدمة بمهارة، محدِّثة لغة الرواية، بإدخال مفردات واقعيّة وجعلها من نسيج الفقرات، والإيحاء بأنّ الفكرة ما كانت لتكتمل لولا هذه الكلمة أو تلك. ومن تلك الكلمات التي سيجرّمه - لا شكّ - سدنة اللغة الأفذاذ علي استخدامه لها، وقد يطالبونه بالاستتابة، لكنّه انقاد وراء مشروعه الروائيّ، ليكون الأقرب إلي القارئ، غير متعالٍ عليه، هذا الذي يستطيب تطعيم اللغة بالجديد المُتغاضَي عنه الطرف: انجعاص، عجقة، شرشحة، جحشنة، تسلبط، مفرشخ، فذلكات، فشورات، الخرندعيّة، الأندبوري، ضحكات شْلكاتيّة، فصعون.. إلخ..
يأخذ حدّاد علي عاتقه تصوير مشاهد متكرّرة، ثابتة، ويصفها بالعابرة من دون أن تكون كذلك، عملاً بمقولة، الضدّ يظهر حسنه الضدّ، لكن، في عالم الرواية، الضدّ يظهر الجرم والقبح المضادّ، ولا يقف مكتوف اليدين، ويطلق دعوته إلي تبادل مراسيل الغرام الأكفاء، غير الخائنين الأمانة، أو المخوّنين لغايات لئيمة.. وفي هذه الرواية كما في روايته "مشهد عابر"، يكون محموله الأمرّ هو القهر والهدر اللذان يوديان بالبشر في واقع تحكمه الأنانيّة والاستبداد والاستخبارات المتعادية المتّفقة علي إذلال المغلوبين علي أمرهم وإهانتهم، وتوزيع المغانم فيما بينهم، بجعل الوطن كعكة، وكلّ فرع يقتطع نصيبه من هذه الكعكة التي لم يبقَ منها شيء للأجيال اللاحقة التي لن ترث إلا النكبات والويلات..
زمن الرواية المعالَج والمقدَّم، يكون محدّداً قبل سقوط بغداد ببضع سنوات وأثناءها وبعدها، بينما المكان الرئيسيّ دمشق بحاراتها وضواحيها، وأمكنة أخري رديفة مكمّلة لدمشق، منها: لبنان، تونس، بغداد..
يصعب الإلمام بما ألمّت به الرواية وقدّمته، لأنّها صبّت الكثير من المعارف والأحداث في قالب روائيّ، وعبر شخصيّات مدروسة بدقّة، ومُعتني بها، مغلّفة بجمال الأحابيل الكتابيّة، وتتالي التحبيك الأدبيّ الدقيق، عبر نمور من ورق في عالم لا يعترف إلاّ بالقوّة معياراً ومقياساً، وعبر عالمين متوازيين، الواقع والرواية، أجبرهما الكاتب علي الالتقاء في كتابٍ يمكن أن يتحوّل إلي مداليل للضغينة والهوي، ينبذهما معاً، لصالح الأمل والرغبة في واقع لا يحاكي ما حاكاه في روايته.. حيث الجريمة في الرواية لا تتوافق والعقابَ، والمجرمون يفرّون بجلودهم، يلوذون إلي دهاليز محكومة بعتمة لا تُزايَل..
لا يخفي، ما يسجّل لفوّاز حدّاد من براعة وتمكّن امتاز بهما في روايته "المترجم الخائن" عبر ترجمة واقع الحال، وتوقّع المآل الذي ستفضي إليه في ظلّ الظروف التي لم تستثنِ أحداً إلاّ ونقلت إليه عدوي الانحلال، وذلك بجرأة الروائيّ الحابك، والمراقب المدرك، كما لا يخفي أنّه لم يقدّم في روايته العالم المنشود، بل قدّم العالم غير المنشود، العالم الواقعيّ بمثالبه ومقابحه كلّها، دون محاولة منه لتجميل المشوَّه، أو ترقيع المختلّ، لأنّه بقي أميناً مع قارئه، من منظوره المعتمد، في رواية الفضح والتعرية، التي اخترق فيها منظومة الفساد المُمنهَج فاضحاً، وتغلغل في مستنقعات الإفساد مُعرّياً، أزاح ستار السرّيّة عن الممارسات السلبيّة المشينة التي تمارَس في حقل الأدب والواقع كليهما بحقّ الأمناء الصادقين، هؤلاء القلّة الذين بقوا محافظين علي ثوابتهم التي أفقرتهم وجوّعتهم في عالم لفظهم وقضي عليهم، وأذهبهم فرقَ عملة، كما يقال، لأنّهم لم يتذيّلوا لأحدهم، أو يصفّقوا أو يطبّلوا لآخر، لم يدخلوا في جوقة الهتّيفة، لم يرضوا أن يكونوا بيادق ملعوباً بها، لم يعلوا من شأن الأقزام.. ولم يخونوا ترجمة حياتهم، فكان جزاؤهم إنهاء حياتهم نفسها..

 

هيثم حسين
المصدر: جريدة الزمان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...