غسان الرفاعي: «بربرية» العالم المتحضر

09-05-2011

غسان الرفاعي: «بربرية» العالم المتحضر

-1-
لا أتعاطف مع الفيلسوف الألماني (ليسينغ) على الرغم من أنني أدمنت على قراءته في مطلع حياتي الثقافية، لقد اكتشفت بعد أن تمعنت في كتبه أنه ثقيل الدم، وأفكاره لا تخلو من سوء نية، ولكنني مازلت أحتفظ حتى الآن، في «دفتري الخاص» بخاطرة له يقول فيها: «لو أن الله وضع كل الحقائق في يدي اليمنى والشوق إلى الحصول عليها في يدي اليسرى، وخيرني بين الاثنين، لما قررت أن أختار ما في يدي اليسرى» وما يثير في هذه الخاطرة هو ليس التزاوج بين اليمين واليسار، إذ تدحرج الاثنان –كما يزعم منظّرو الحداثة- في مزبلة التاريخ، بعد سقوط جدار برلين، ولا الكرم الإلهي الذي منحنا حرية الاختيار لأني أعلم أن الله يحب الطاعة والامتثال إلى أوامره، وإنما الإصرار على أن «الشوق إلى الحقيقة أهم من الحقيقة ذاتها». ‏

المأساة أننا نعيش في زمن يشهد تضخم عدد «عارفي الحقائق» الذين تحميهم مخافر الأمن والصواريخ وندرة المتشوقين الذين يختفون تدريجياً كالحيوانات المنقرضة، وهؤلاء «العارفون» الموجودون في خنادق متقابلة، لا يكتفون بفرض حقائقهم بكل وسائل الإكراه والترهيب، ولا بإشاعة مناخ من الذعر والهلع علينا، بل إنهم أقاموا «محاكم تفتيش»، لمحاكمتنا وإدانتنا، قبل الاستماع إلى وجهة نظرنا، إنهم يضعوننا أمام اختيارين لا ثالث لهما: إما أن نقبل منطلقاتهم التي تتبدل بتبدل المواسم والفصول، وإما أن يصدروا صكوكاً رسمية بتعميدنا جهلة أو منحرفين، والحقيقة –كما أفهمها- هي جهد مشترك، تكامل بين الأنا والأنت، ولم تكن مونولوجيا داخلياً، ولا إعلاناً من طرف واحد، وكم نحن بحاجة إلى سالكين لا خاتمين، وإلى مجتهدين لا إلى مبرمجين. ‏

-2- ‏
خبراء الشرق المعتمدون يتحدثون عن «شبح مرعب» يهدد الحضارة الغربية، وإذا كان (ماركس) قد أسهب في وصف «الاشتراكي الذي يحمل السكين بين أسنانه» فإن الخبراء يسهبون اليوم في وصف «الأصولي الإسلامي الذي يحمل العلم الأخضر بين أنيابه». وهؤلاء يزعمون أن كل ما يجري منذ 11 أيلول 2001 إنما هو استمرار للمجابهة بين الشرق والغرب، وتكريس لحرب دينية قديمة ولدت على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ولم تعرف حتى الآن وقف إطلاق النار. يقول (برنارد لويس) في كتابه المعتمد الآن في الغرب: «هذا الحشد من الشيوخ ذوي اللحى وهم يرددون، بلا انقطاع: الله أكبر، هؤلاء المتحدرون من الجبال الذين يلقون بأنفسهم علينا وهم متمنطقون بالقنابل، هؤلاء يذكروننا بالأندلس، و(طارق بن زياد) و14 قرنا من الصراع الدموي بين الشرق والغرب». ويرى (برنارد لويس) أن الخلل الذي يشكو منه العالم العربي الإسلامي لا يقتصر على التخلف، ولكن يتجلى في الشعور بأنه قد تم تجاوز الحضارة الإسلامية، منذ ثلاثة قرون من قبل الحضارة المسيحية، وأن هذه الحضارة في تقاليدها وطروحاتها أضحت عاجزة عن التقدم والتطور، وإنها عوضاً عن استحداث أساليب جديدة تكون في مستوى طموحاتها، تفضل أن تربط مصيرها بعصرها الذهبي القديم، وأن تتهم الغرب بأنه سبب تخلفها وضعفها. وقد يبدو «الانغلاق الحضاري المتغطرس» من سمات العولمة الغربية الحديثة، وليس من إفرازات «الاستنقاع الشرقي» الذي يفضل الحجاب على الانفتاح. ‏

-3- ‏
أهم مفكر سياسي أميركي طرح فكرة «صراع الحضارات» هو (صموئيل هنتينكيتون) مستشار الرئيس السابق (كارتر) وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد، ومؤسس مجلة «فورين افريز». ‏

صدر له كتاب جديد لن يمر بلا ضجيج، سماه «من نحن؟» يتهم فيه النخبة الأميركية المتعولمة التي تتحكم بالبيت الأبيض حالياً بأنها تنكرت للقيم الأنكلوسكسونية. إنه مازال متعصباً لليبرالية ويجسد منطلقات «الأكثرية البيضاء» المتمركزة في مدينة بوسطن، في وجه «انحطاط الغرب» وتلوثه بالحضارات الأخرى التي تحاصره، وتسعى إلى تخليه عن أصالته وصفائه. لقد أجرت معه أسبوعية «لوبوان» مقابلة مهمة حول كتابه الجديد «من نحن؟» رأينا أن نقتطف منها الفقرات التالية، لما لها من دلالة ولأنها ستكون مثار حوارات ساخنة في الشرق والغرب في مستقبل قريب: ‏

أعلنت، منذ عشر سنوات، في مقال نشر في مجلة «فورين افريز» عن قرب قيام حرب بين الغرب والإسلام، فهل تعتقد بأن هذه الحرب قد قامت بعد 11 أيلول 2001، والرد الأميركي عليها في الشرق الأوسط، في العراق وفلسطين؟.. ‏

أنا لم أتنبأ بقيام هذه الحرب، وإنما تنبأت بصراع بين الحضارات، وما قمت بتحليله هو المخاطر الناجمة عن انتشار صراعات حدودية في كل مكان في العالم، تقوم على أسس التوترات الأثنية والعشائرية والدينية بين الحضارات المختلفة. وأشرت بشكل خاص إلى الصراع الذي سيقوم بين العالم العربي والإسلامي والعالم الغربي في شقيه الأميركي والأوروبي، ووجدت أن الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 هي المنطلق لهذا الصراع بين الحضارات، وما نشاهده اليوم هو تكملة مأساوية لهذه المجابهة بين الإسلام والغرب التي تهدد بإشاعة عدم الاستقرار في العالم. ‏

ولكن ما خصائص هذه المجابهة؟.. ‏

إنها مجابهة على امتداد الكرة الأرضية، هناك مجموعات صغيرة من الإسلاميين المنظمين على شكل خلايا، تضرب بشكل منهجي ومنظم المصالح الغربية في كل مكان. وهي مزروعة في كل البلدان الغربية «كطابور خامس» تعمل على التخريب من الداخل، وفي قناعتي أن عولمة الصراع بين الإسلام والغرب بدأت منذ عام 1990 بعد أن تكاثرت وتنوعت الصراعات الإقليمية، وقامت جماعات إسلامية مختلفة بالسعي إلى أن تتحرر من سيطرة البلدان غير المسلمة. هذا ما رأيناه في كوسوفو، والبوسنة والشيشان، وكشمير، وهذا ما حدث بعد انطلاق الانتفاضة الثانية في الصراع العربي- الإسرائيلي، وبعد احتلال أفغانستان والعراق. لقد خلقت الولايات المتحدة مواطن متقدمة للمجابهة بين الغرب والإسلام، وعليها أن تتحمل النتائج المدمرة لهذه المجابهة. ‏

ولماذا لم يأخذ الغربيون تحليلك على محمل الجد؟ ‏

كان الغرب، في التسعينيات، يعيش في مناخات الحرب الباردة، وقد بدا له صراع الحضارات آنئذ، أنه يقوم على احتمال عودة الأنظمة الشمولية التوتاليتارية، أنا أفهم هذا الموقف وأعلم لماذا غلب التفاؤل معظم القادة السياسيين في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ كان يجمعهم قاسم مشترك هو الاعتقاد بأن قيام عالم موحد متجانس يتبنى الديمقراطية والليبرالية أصبح وشيكاً بعد سقوط جدار برلين، وأن هذا العالم سيكرس الحضارة الغربية الموحدة في كل مكان. وقد ثبت أن هذه الرؤيا خاطئة. ‏

ولم يؤخذ برأيك حول العراق؟ ‏

فكرة الحرب على العراق فكرة رديئة، وقد قلت بكل صراحة، وقبل بدء هذه الحرب: إذا دخل الأميركيون العراق ستقوم حربان، لا حرب واحدة. ‏

الحرب الأولى ضد (صدام حسين) ونظامه وجيشه وأعوانه وسيكسب الأميركيون هذه الحرب بسهولة في غضون شهر ونصف. أما الحرب الثانية فستكون ضد الشعب العراقي، وقد بدأت فعلاً بعد سقوط نظام (صدام حسين)، وتفجرت بشكل خطير بعد ثورة السنة في مدينة الفالوجا، وثورة الشيعة في النجف، وهذه الحرب لن يكسبها الأميركيون على الإطلاق. ‏

موقفك المعادي لحرب العراق أدهش الكثيرين، لأنك تدافع عن القيم الغربية في وجه الزحف الإسلامي. ألم تكن الحرب على العراق رد الفعل المنتظر بعد حوادث 11أيلول؟ ألم يكن المحافظون الجدد على حق حينما أصروا على ضرورة نشر الديمقراطية والازدهار داخل العالم العربي الإسلامي، ولو بالقوة؟ ‏

أنا مؤمن بالقيم الغربية، وبضرورة الدفاع عنها، ونشرها في كل مكان، وأنا مؤمن بضرورة الالتزام بحقوق الإنسان والديمقراطية، ولكن علينا أن نكون واقعيين. لم يعد الغرب يسيطر سيطرة كاملة على العالم، كما كان يفعل عشية الحرب العالمية الأولى، والحضارة الإسلامية تشكل اليوم كتلة أيديولوجية قادرة على إرغام الغرب على التخلي عن كل مشروع يدعو إلى عولمة حضارته. ‏

علينا أن نعترف أن حضارات عظيمة كالحضارة الصينية، والحضارة العربية الإسلامية تزدهر دون أن تقاسمنا قيمنا، وتتطور وتتفولذ بتسارع خاص بها، لا علاقة له بتوجهنا ولا بمصالحنا. إن محاولة فرض التغيير عليها أمر غير مرغوب ولا مطلوب، ولا هو بالأمر الممكن. ثم إن هامش الحركة عندنا، وحماية مصالحنا تفرضان علينا أن نراهن على تطور النخب في هذه البلدان لا على مدفعيتنا وطائراتنا وصواريخنا. ‏

ولكن الغرب منقسم على نفسه أمام الإسلاميين؟ ‏

يستطيع الغرب أن ينقذ ما هو جوهري في حضارته إذا تجنبت الولايات المتحدة أن تتخذ مواقف متطرفة، وإذا تبنت سياسة متعاونة وتنسيقاً مع أوروبا. ينبغي أن نتجنب الإجماع القسري من جهة، وأن نتجنب الميوعة التعددية من جهة أخرى. لقد كتبت منذ عام 1996 بأن صراع الغرب والإسلام سيولد انقسامات في المعسكر الغربي، وأن الخلافات العميقة بين أوروبا والولايات المتحدة ستساعد على تعميق التوسع الإسلامي. وفي قناعتي أن الولايات المتحدة وأوروبا تمثلان ضمانتين مختلفتين على صعيد القوة السافرة، وعلى صعيد الثقافة الذي يلعب دوراً جوهرياً في أميركا، ولكنه يتقلص في أوروبا، ولكن الاثنين يتصفان بالحيوية الغربية ذاتها، ولهما مصلحة مشتركة. من جهتي، أنا على ثقة أنه، منذ عام 2002 كان من الممكن تسوية الخلافات التي قامت بين الولايات المتحدة وأوروبا فيما يتعلق بحرب العراق، ولمصلحة المعسكر الغربي بكامله. إن التعارض بين فرنسا وألمانيا من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى هو هزيمة للغرب بكامله. ‏

ولكن هل يمكن أن تستقر الأمور في العالم العربي الإسلامي؟ ‏

مشكلة العالم العربي- الإسلامي أنه منقسم، ولا توجد دولة كبيرة تمثله وتوحده كما هو الأمر في الصين، الدولة الكبيرة القادرة على الصهر والتوحيد، طبعاً هناك مصر، الباكستان، العربية السعودية، أندونيسيا، إيران، تركيا، ولكن هذه الدول متنازعة وغير قادرة على توحيد العالم الإسلامي، على أن تركيا مرشحة لأن تلعب دوراً قيادياً مهماً، ولكن من المؤسف أن يزداد العالم الإسلامي شرذمة وتفتيتا، ولا أمل في التوصل إلى وحدته في المستقبل القريب. ‏

تتحدث عن تركيا، فهل من الخطأ أن تقبل في الاتحاد الأوروبي؟. ‏

كثيرون في أوروبا مقتنعون بأن الاتحاد الأوروبي لن يتحمل دخول 70 مليون مسلم فيه، والزعامات الأوروبية محقّة في رفض إدخال تركيا إلى الوحدة الأوروبية، وقد أعلن الرئيس (جيسكار ديستان) أنه ضد قبول تركيا بكل صراحة، وأنا مقتنع بأنه من الأفضل لتركيا أن تختار الانضمام إلى العالم العربي الإسلامي، وأن تلتزم بتراثها الإسلامي الذي حاول (أتاتورك) أن يطمسه ويزيله دون طائل، تركيا بلد إسلامي مستقر ونظامها الديمقراطي قد ثبت أمام التحديات، ويمكنها أن تلعب دوراً ريادياً في العالم العربي الإسلامي. ‏

-4- ‏
على أن (برونو ايتين) خبير غربي في شؤون الشرق- يؤكد أن المجابهة الحالية بين الإرهاب المتطرف والعولمة المتغطرسة لا علاقة لها بعالم (صلاح الدين) و(ريتشارد) قلب الأسد، وأن الإسلام الحديث يستهدف الأنظمة الفاسدة في العالمين العربي والإسلامي أكثر من استهدافه العولمة الغربية وأن عدد ضحايا «الإرهاب» من المسلمين يفوق عدد ضحاياه في الغرب، وأن 90% من الفرنسيين المهاجرين هم اندماجيون ومتأوربون، وهذا ينطبق على أتراك ألمانيا وباكستاني بريطانيا، وها هو (جاك غودي) في كتابه الحديث «الإسلام في أوروبا» وهو استاذ مشهود له بالكفاءة في جامعة كامبردج، يؤكد أن الإسلام هو دين «أوروبي» تغلغل في اسبانيا والبلقان (15 مليون مسلم في أوروبا) وهذا يعني أن الإسلام لا يمثل «الآخر» و«الفكر المعادي» وإنما هو جزء لا يتجزأ من الثقافة الغربية. ثم ها هو (فدرين) وزير خارجية فرنسا الأسبق الذي يرى أن هناك ثلاث زمر من الناس تؤجج الصراع المزعوم بين الحضارتين: دعاة العولمة الشمولية الذين يعتقدون أن هناك أنموذجاً موحداً للحضارات لابد من أن يسود العالم، والمتعصبون للإسلام من مستشرقي الغرب الذين لا يرون في الإسلام إلا التحجر المذهبي، وأخيراً الإسلاميون الحداثيون الذين يرفضون التراث الإسلامي لأنه يضعهم بين المطرقة والسندان. ‏

-5- ‏
أذكر أنني أجريت لقاء مع (هنري كيسنجر) -نشر حينه في صحيفة تشرين- وكان قد ترك وزارة الخارجية، وأصبح أستاذاً في جامعة جورج تاون. ‏

سألته سؤالاً مهنياً كان من الممكن أن يطرحه أي صحفي مبتدئ: ‏

- السلام هل هو آت إلى الشرق الأوسط؟ ‏

قال بصوته النحاسي الأجش: ‏

نعم، إنه آت. ‏

فقلت مستوضحاً: ‏

السلام العادل والشامل؟ ‏

فقال بغطرسته: ‏

«أي سلام عادل؟ إنه سلام الأمر الواقع، ألا ترى أن الشرق الأوسط هو برميل بارود؟ هل استسلمت اليابان إلا بعد هيروشيما، ويبدو أنكم، في الشرق الأوسط، لن تتأقلموا إلا بعد هيروشيما مماثلة». ‏

وشعرت بالذعر، وفي مثل الحدس الخفي أدركت أن النظام العالمي الجديد آت بكل بربريته وعنجهيته، يستقضي على التماعة المقاومة ووقفة الكرامة، وها قد تحققت نبوءة (كيسنجر) «اللعين». ‏

-6- ‏
ويزعمون في عواصم الغطرسة المعولمة أن الخطر الحقيقي آت من المتحدرين الذين يلقون بأنفسهم وهم متمنطقون بالقنابل؟.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...