عشرون عاماً في عشق الكلاب

21-10-2006

عشرون عاماً في عشق الكلاب

 كثيرون, خصوصا في الشرق, يأخذون عليها انها «عنصرية» و«سخيفة», لأنها تعيش هاجس الرفق بالحيوانات, لكن بريجيت باردو التي احتفلت يوم الخميس 28 ايلول €سبتمبر€ الفائت بعيد ميلادها الـ72 وبعشرين سنة من «النضال» من اجل «القضية الحيوانية» لا تزال تستقطب الاضواء. موازنة المؤسسة التي تشرف عليها تبلغ اليوم سبعة ملايين دولار والعاملون فيها اربعماية €بينهم 360 متطوعا€ اما عدد المنتسبين فأكثر من ستين ألفاً.

في موقع FBB €مؤسسة بريجيت باردو€ على الانترنت خبر يقول ان المؤسسة تبرعت بخمسة آلاف يورو €ستة آلاف دولار€ لجمعية «بيروت فور اتيكال ترتيمنت اوف انملز» €اي للعناية الاخلاقية بالحيوانات€ والمبلغ مخصص لاغاثة الحيوانات الناجية من العدوان الاسرائيلي على الجنوب.
الخبر, للوهلة الاولى, يصدم اللبنانيين, وربما كثيرين خارج لبنان, الذين يقلبون شفتيهم ازدراء ويعتبرون ان الانسان اولوية اولى وأخيرة, وأنه كان الاجدر ان توجه المساعدة الى الناس وإلى الاطفال بصورة خاصة. لكن الصدمة تتراجع ربما عندما يتم وضع الامور في سياقها الحقيقي, وعندما يتم فهم اهتمام بريجيت باردو في اطار عمل الجمعية التي انشأتها منذ عشرين سنة للاهتمام بالحيوانات, وهذا الاهتمام لا يتم على حساب الناس ولا يخفف شيئا من اهمية العناية بالبشر, وهي عناية تتعهدها الدول والحكومات والمؤسسات الرسمية والهيئات المدنية.
وفي موقع FBB كلام واضح بهذا المعنى: في زمن الحرب قليلون جداً هم الذين يفكرون بالحيوانات الاليفة التي يطاردها القصف الاعمى وجنون الناس, والسفارات التي نظمت ترحيل رعاياها منعت على المرحّلين ان يصطحبوا معهم قططهم وكلابهم, وليس هناك ما يبرر اهمال الحيوانات التي نحبها, او تركها ضحية للوجع والجوع والتشرد والموت. يضيف الموقع: ان مؤسسة «بيروت فور اتيكال تريتمنت» التي تعنى بالحيوانات تملك ثلاثة ملاجئ خصصتها لـ130 كلبا ومئة قط, وهي تسهر على ايوائها واطعامها, ومساعدة مؤسسة بريجيت باردو مخصصة للحيوانات الجنوبية الاليفة التي تشرد اصحابها وصارت تحت رحمة العنف, وكان لا بد من انقاذها ونقلها الى امكنة آمنة في الجبل.
قبل ايام اطفأت بريجيت باردو شمعتها الثانية والسبعين والشمعة العشرين لولادة مؤسستها, في احتفال حاشد حضره مراسلو الصحافة الاوروبية. والكلام الذي قيل بالمناسبة شكل دلالة اضافية على اهتمام الغربيين €بدءا بالاوروبيين€ بالحيوانات وحرصهم على «اخلاقيات» معينة في التعاطي مع هذه الكائنات. والدليل ان للمؤسسة فروعا في ستين بلدا, والمتطوعون في خدمتها يتزايدون عاما بعد عام, وهي ليست المؤسسة الوليدة بطبيعة الحال التي تحصر اهتمامها بـ«القضية الحيوانية». وبريجيت باردو لا تلوك الكلام عندما تتحدث عن هذه «القضية», ومما قالته «ان تصرفات البشر تصدمني احيانا, خصوصا عندما يصطادون كلاب البحر في كندا او يأكلون الكلاب البرية في آسيا, وهذه التصرفات تجعلني اخاف الناس اكثر مما اخاف الحيوانات البرية, لأن ليس هناك ما يبرر هذا السلوك... وفي النهاية ان حماية البيئة وحماية الحيوانات هي حماية للانسان».
وبالمناسبة كان من الطبيعي ان يستعيد الحاضرون عبر «الفيديو» انجازات المؤسسة التي انشئت في العام 1986 في «سان تروبيز» وسجلت كمؤسسة تعنى بالشأن العام. بعدها في العام 1988 نقل مقر هذه المؤسسة الى باريس, وطوال عشرين عاما كانت في «قلب الحدث» في كل مرة يتعلق الامر بحسن التعامل مع الحيوان, وخاضت بريجيت باردو على طريقتها اكثر من معركة في هذا السياق على مستوى العالم كله.
وأهداف المؤسسة يمكن حصرها في مجموعة عناوين اساسية:
­ الغاء التجارب المخبرية على الحيوانات.
­ المحافظة على القطط والكلاب من الابادة.
­ العمل على منع الصيد البري والاتجار بالحيوانات البرية.
­ منع استعمال الحيوان من اجل المتعة في المسرح والسينما والاعمال الفنية.
­ منع الاتجار بالفرو الحيواني.
­ تحسين شروط تربية الحيوانات في المزارع, وشروط نقلها الى المسالخ.
­ منع التهريب غير المشروع للحيوانات الآسيوية الى الغرب.
­ اقامة مراكز لتجميع الحيوانات والعناية بها, بشروط اخلاقية, في اوروبا كما في مختلف انحاء العالم.
هذه «المبادئ» استعادتها بريجيت باردو في الاحتفال الاخير, وقالت انها راضية عن المعركة التي تخوضها, بعدما تخلت عن العمل في السينما €في العام 1973€ وقد ظلت لسنوات تعتبر رمز الاثارة الجنسية على الشاشة الفرنسية. والممثلة التي تعاني اليوم من وجع في الوركين, وتستعين بعكازين عندما تمشي, معروفة بأنها تعشق كلاب البحر €المنك€ والقطط والكلاب, وقد استبدلت ازواجها جميعا بهذه الهواية. وعندما تستعيد المعارك التي خاضتها من اجل «اصدقائها الجدد» تقول انها لم تنجح دائما في محاولاتها التخفيف من عذابات «هؤلاء» وأنها تشعر بالقرف عندما تسمع ان صيادا قتل ذئبا €عن طريق الخطأ€, لأن الذئاب من حيواناتها المفضلة.
ومعروف ان باردو كانت قد هددت في 18 آب €اغسطس€ الفائت بترك بلادها والرحيل الى السويد بسبب ما وصفته بـ«انعدام حساسية فرنسا ازاء مأزق حيوانات المنك». وقد كتبت يومذاك رسالة الى رئيس الوزراء السويدي جوران بيرسون, واصفة بلاده بأنها احدى الدول القليلة التي «تأخذ في الاعتبار سلامة الحيوانات». واتصلت كذلك بوزارة المالية الفرنسية, لتنتقد بلادها لمهاجمتها اقتراح السويد لقوانين البعثة الاوروبية الجديدة حول وضع شروط لتربية حيوانات المنك في السويد. وكتبت باردو: «تدخل حكومتي يجعلني اشعر بالخجل كوني فرنسية».
وبينما اقرت باردو بأن صورتها وشهرتها العالمية, كانتا دائما مرتبطتين بفرنسا, إلا انها قالت: «بعكس اسطورة الافلام غريتا غاربو التي تركت السويد لتنهي ايامها في الولايات المتحدة, ربما سأترك فرنسا لأنهي ايامي في السويد, بما انني اليوم, اشعر بأنني اكثر قربا الى الحساسية السويدية من انعدام الحساسية الفرنسية». كما شجعت باردو, السويد على المضي قدماً في اقتراحها لتحسين اوضاع وظروف «ملايين حيوانات المنك المسكينة التي تربى من اجل فروها».
في الوقت نفسه وجهت باردو رسالة الى مسلمي فرنسا اثناء كارثة تسونامي التي ضربت منطقة جنوب آسيا, نداء فحواه «فليتبرع المسلمون بثمن خروف عيد الاضحى للمتضررين من تسونامي». كما وجهت باردو رسالة الى رئيس المجلس الاسلامي الفرنسي دليل بوبكر, وزعتها على وكالات الانباء.
معروف عنها ايضا انها هاجمت الحكومة الرومانية بعنف لأنها سمحت بإبادة الكلاب من قبل البلديات, وأبدت في الوقت نفسه اسفها لأنها لم تستطع انقاذ اميركي اسود اسمه فارلي ماتشرت حكمت عليه احدى محاكم تكساس بالاعدام €لأنها تقول بإلغاء احكام الاعدام€ وفي هذه المحاولة كتبت تقول: «كان فارلي قد كتب الي فاتصلت بالرئيس شيراك ­ وهو صديق ­ من أجله, لكنه لم يفعل شيئا, وأعدم فارلي في 12 ايلول €سبتمبر€ الفائت وهذا يؤلمني».
ومحاولة انقاذ فارلي لا تشكل جزءا من عمل المؤسسة التي تكرّس جهدها للحيوانات, كل ما في الامر انها «محاولة بين قوسين» استجابة لرسالة شخصية. ورسالة فارلي رسالة يتيمة تتعلق بحياة انسان, لكن المؤسسة تتدخل في المجال الحيواني وتستجيب لأكثر من 36 الف رسالة في السنة, و150 اتصالا هاتفيا في اليوم من اجل انقاذ حيوانات, وهي تصدر مجلة فصلية في 32 صفحة تتضمن معلومات مفصلة عن نشاطاتها وتحرّض على حماية «المخلوقات الضعيفة».
واليوم, بعد عشرين سنة على انشاء المؤسسة, لا يزال الانقسام قائما. الممثلة التي عرفها الجمهور في اشهر افلامها «وخلق الله المرأة» و«الحقيقة» و«الحياة الخاصة», والتي انصرفت منذ العام 1963 الى عمل الخير, ومنذ العام 1986 رسميا الى الرفق بالحيوانات, والتي تمثل فرنسا في «الجمعية الدولية لحماية الحيوان» التي تضم 140 جمعية في العالم موزعة على 55 دولة, لا تزال في نظر الكثيرين من الفرنسيين امرأة رائدة, وهي في نظر آخرين امرأة مهووسة بالحيوانات لا يهمها الناس. والفرنسيون كما العرب يحتفظون لها بمشهدين: الاول دخولها قصر الاليزيه في الستينيات بلباس عسكري حيث كان الجنرال شارل ديغول في استقبالها, وقد قلدها يومذاك وساما مدنيا رفيعا وقال لها «انت اجمل جندي في فرنسا».
والمشهد الثاني تصريحات ادلت بها حول المذابح التي ارتكبها الفرنسيون ضد المدنيين في حرب الجزائر, اعتبرت عنصرية عندما شبهت هذه المجازر بالاضاحي التي يقدمها المسلمون «عندما ينحرون الخراف في العيد», وقد دفعت ثمن هذا التشبيه ان غرمتها المحكمة 3250 دولارا بسبب تحريضها على «الكراهية العنصرية».
في كتابها «صرخة في الصمت» تهاجم بريجيت باردو المثليين والمهاجرين والعاطلين من العمل, لما تسببه هذه الشرائح من مشاكل لفرنسا, لأنها تولّد مرض «الايدز» والجريمة وافرازات الهجرة السلبية. هذا الهجوم قد يشكل تعبيرا عن حرية الرأي, لكن عندما يسألها احد الصحفيين «لماذا تكرسين كل هذا الجهد للحيوانات ولا تهتمين بالمؤسسات الخيرية او رعاية المعوقين مثلا», تجيب «السبب هو حبي لكلبي الوفي الذي يشاركني السرير».
آخر معاركها الاخيرة حملة اعلامية ضد قانون سويسري جديد يلزم اصحاب الكلاب بتكميمها في المنتزهات العامة, بعدما هاجم كلب سويسري رضيعا في احدى الحدائق العامة. اثر صدور هذا القانون قالت لصحيفة «تريبون دو جنيف» «لا اعتقد ان كلبا من نوع يوركشير او كلبا صغيرا يمكن ان يشكل تهديدا للناس», وأضافت «للاسف ان الكلاب تدفع ثمن جهل وعدم مسؤولية وسوء سلوك اصحابها», والدليل ان 30 الف كلب في جنيف هي اليوم ضحية مثل هذا السلوك, على الرغم من انها ليست مذنبة وكان يمكن ان ينحصر القانون السويسري بتكميم الكلاب الضخمة فقط».
كدنا ننسى ان بريجيت باردو طالبت خلال العدوان الاسرائيلي الاخير على لبنان عمير بيريتس وزير الدفاع الاسرائيلي بوقف القصف على المدنيين اللبنانيين فورا. ونقلت عنها «يديعوت احرونوت» في عدد 2€8€2006 انها وجهت رسالة خطية عبر السفارة الاسرائيلية في باريس, ألحت فيها على وقف المجازر التي ترتكب ضد المدنيين. والرسالة التي جاءت عقب مجزرة قانا الاخيرة, شددت على ضرورة «وقف قتل الابرياء» وتوقفت عند الاضرار البيئية التي لحقت بشواطئ المتوسط بسبب الهجوم الاسرائيلي, وقد ختمتها باردو بالقول «انني اضع ثقتي بك واحتفظ بصلواتي للضحايا اللبنانيين».
هل نحيي التفاتة بريجيت باردو ام نصر على ادانتها؟
الاجابة صعبة بالمفهوم الشرقي وقد تكون سهلة بالمفاهيم الثقافية الغربية. ومن الواضح ان فقراء آسيا وإفريقيا لا يستطيعون ان يفهموا اندفاعة بعض الغربيين لحماية القطط والكلاب, في الوقت الذي يموت الاطفال بالآلاف كل يوم على امتداد القارة السوداء وفي امكنة اخرى في آسيا البعيدة. هؤلاء الفقراء ايضا لا يستوعبون حملة بريجيت باردو وجمعيات الرفق بالحيوان على الطريقة التي تستهلك فيها لحوم الكلاب في الصين وكوريا وفيتنام والفيليبين, وفي المقابل الصمت المطبق على آلاف الاطفال الذين يموتون جوعا وعطشا في الصحراء الافريقية وبعض الدول الآسيوية.
في قاعة «مسرح مارينيي» حيث اقامت مؤسسة بريجيت باردو الاحتفال بمرور عشرين سنة على انشائها, تجمع مئات المناصرين والمؤيدين, رجالا ونساء, الرجال باللباس الرسمي, والنساء بلباس السهرة. التبرج كان كاملا بكل مقاييس الاناقة الفرنسية, والاستعراض كان مضحكا. شعار التجمع كان «كل الحيوانات يجب ان تُحب» على طريقة بريجيت باردو في التعامل مع القطط والكلاب.
وفي جنوب لبنان, الذي احبت باردو كلابه وقططه, كان هناك اطفال وعجائز يمشون فوق القنابل العنقودية التي «اهداها» الاسرائيليون للعائدين بعد عدوان الـ33 يوما, فتتفجر رؤوسهم او اقدامهم بلمحة بصر.
اما في الصومال واثيوبيا والسودان وفي الشريط الطويل جنوب الصحراء الكبرى فإن عدد الذين يعانون الجوع كانوا في تزايد, علماً ان عدد ضحايا النقص في الغذاء على مستوى العالم كله يصل الى 852 مليوناً.
من اين نبدأ: من كلاب البحر او كلاب البر, او من هذه الكمية البشرية المرمية على رصيف الحضارة الغربية, التي تحلم بمصير يرتقي الى مصير الكلاب؟
 


المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...