بعد نصف قرن على صدورها: كيف نقرأ مجلة شعر

11-02-2007

بعد نصف قرن على صدورها: كيف نقرأ مجلة شعر

كيف نقرأ مجلة «شعر» في الذكرى الخمسين لصدور عددها الأول شتاء العام 1957؟ هل نقرأها كمجلة ما زالت حاضرة في مناخها الحداثي الذي رسخته وعبر القضايا الرئيسية التي أثارتها بجرأة وعمق؟ أم نقرأها كتجربة فريدة باتت تنتمي الى ماضي الحداثة وكحركة جماعية أضحت جزءاً أساسياً من ذاكرة الشعر الحديث؟ اللافت أن مجلة «شعر» لم تغب حتى عن المعترك الشعري الراهن، وما برح الشعراء والنقاد يعودون اليها والى شعرائها والى بياناتها والنظريات التي تبنتها. فالمجلة التي اعادت النظر في الشعر العربي والثقافة العربية لم تكن مجرد منبر شعري التأم حوله شعراء معاصرون، يختلف واحدهم عن الآخر، بل كانت حركة بذاتها، حركة هدم وبناء، حركة تمرد وتأسيس.

ولم تكن «شعر» مجلة يوسف الخال الشاعر بل كانت مجلة الشعراء الذين انتموا اليها وشاركوا في معاركها. وإن كان يوسف الخال هو الذي أسسها ووجه حركتها وكتب معظم افتتاحياتها فهو لم يستأثر بها ولم يفرض ظله عليها كما يفعل المؤسسون عادة. ولم تصدر ثلاثة أعداد من المجلة حتى حمل العدد الرابع اسم الشاعر ادونيس سكرتيراً للتحرير. ثم توالت أسماء شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج وفؤاد رفقه وسواهم في هيئة التحرير.

عندما باشر يوسف الخال في اصدار العدد الأول من مجلته في شتاء العام 1957 لم يعمد الى كتابة افتتاحية يعلن فيها اهداف مشروعه، لكنه اختار مقالة للشاعر الأميركي المعاصر ارشيبولد ماكليش (توفي العام 1982) وجعلها بمثابة الافتتاحية الأولى. ولم يتضح سبب اختيار اسم هذا الشاعر الأميركي خصوصاً أن المجلة لم تقدم لاحقاً أي ترجمات من شعره ولم تكتب عنه أسوة ببعض الشعراء الأميركيين مثل روبرت فروست وولت ويتمان وسواهما. ربما اختار الخال مقالة ماكليش مقدمة للعدد الأول ليتبنى نظرته الى الشعر كأداة وحيدة للمعرفة، وكذلك موقفه السلبي من «الشعر السياسي».

الافتتاحية الأولى في مجلة «شعر» لم تظهر إلا بدءاً من العدد الرابع الذي كرس انتماء ادونيس الى المجلة. وكانت الافتتاحية هذه هي البيان الشعري «الرسمي» الأول الذي رسخ الخال فيه منطلقات مشروعه قبل أن تصبح المجلة مجلة جماعية بعيد انضمام بقية الشعراء الى اسرة التحرير. وأصر الخال في افتتاحيته الأولى على منطلقاته التي كان أعلنها في محاضرته سابقاً والتي أصبحت «ثوابت» شبه نهائية يرددها الشاعر كلما تطرق الى مشروعه التحديثي، وينطلق منها في معاركه ومواجهاته. فالشعر كما فهمه الخال هو «تجربة شخصية كيانية فريدة» والتعبير عنها ينبغي أن يتحرر من أسر القوالب التقليدية الموروثة. التجربة هي الأصل وليس الشكل الا فرعاً، و «التجربة الجديدة تفرض التعبير الحي الجديد» والتعبير الحي هو التفاعل مع روح العصر والبحث عن لغة متطورة.

كانت مجلة «شعر» بمثابة الصدمة الأولى في تاريخ الشعر العربي. ولم تكن مواجهة شعرائها الحاسمة للشعر التقليدي والثقافة التقليدية الا انفصالاً عن التاريخ بغية قراءته قراءة نقدية. وأدركت المجلة أهمية المرحلة التي انطلقت خلالها وهي مرحلة الستينات التي سميت مرحلة «التحرر» الشامل. فأعلنت ثورتها ضد كل ما ورثته كحركة من ثوابت ومسلمات جامدة ومتحجرة. وبدت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاسئلة والقضايا التي شغلت العصر وخضت العالم العربي، ووجدت في تلك الاسئلة والقضايا حافزاً على التخطي والتجاوز وعلى الانطلاق نحو أفق كياني أعمق وأشمل.

لكن مجلة «شعر» لم تسلم من الحملات العدائية التي شنها عليها المثقفون «العروبيون» و «الملتزمون» و «دعاة الوحدة العربية والواقعية الاشتراكية تؤازرهم مجلة «الآداب» التي كانت تمثل التيار العروبي الناصري ومجلة «الثقافة الوطنية» التابعة للحزب الشيوعي اللبناني. وكان لا بد من أن تثير المواقف الثورية التي تبناها يوسف الخال ورفاقه حفيظة هؤلاء المثقفين العروبيين الذين وجدوا في مشروع المجلة حركة مناقضة للمشروع العربي والديموقراطي والوطني الذي نادوا به.

تبنت مجلة «شعر» اذاً بعض الثوابت النظرية وانطلقت منها ودأب يوسف ال خال على التذكير بها من حين الى آخر في افتتاحياته التي كانت أشبه بالبيانات الشعرية في أحيان. ولئن تبنى بعض شعراء المجلة هذه الثوابت وبخاصة ادونيس وفؤاد رفقه وسواهما من الذين التزموا النظام التفعيلي الجديد فإن شاعراً كأنسي الحاج لم يلتزمها بل بدا غير معني بها بعدما مضى في خوض تجربته الخاصة في حقل قصيدة النثر. وبدا محمد الماغوط كذلك بعيداً كل البعد عن بعض ثوابت المجلة إذ راح يكتب قصيدته من غير أن يلجأ الى أي نظرية شعرية أو نقدية. وخرج شوقي أبي شقرا بدوره عن نظام التفاعيل ليباشر في كتابة قصائده المشبعة بالرواء اللبناني والشميم القروي والفكاهة والطرافة. ولن يتأخر ادونيس كثيراً عن اعتماد النثر وقصيدته من غير ان يتخلى عن قصيدة التفعيلة التي ما برح يواظب عليها. وهو كان واحداً من أبرز الذين نظروا للحداثة بحسب ما فهمها ورأى اليها، اضافة الى عمله على التراث الشعري وانتخاب مختارات منه نشرها تباعاً في «شعر».

احدثت مجلة «شعر» صدمة في الحياة الشعرية بعدما اختارت طريق الثورة والتمرد والشك والرفض وراحت تبحث عن قصيدة مختلفة في رؤيتها ورؤياها وفي موضوعاتها وأساليبها، وأعادت قراءة التراث على ضوء المعاصرة، وكرست الحياة جوهراً للعمل الشعري. غير أن مبادئها سرعان ما أصبحت ثوابت شبه جامدة وشبه مطلقة، بل أصبحت أقرب الى المقاييس النظرية القائمة بذاتها، خصوصاً بعدما راح شعراؤها خلال السنوات اللاحقة يتباعدون بعضهم عن بعض، وراحت تجاربهم تختلف بعضها عن بعض. وفيما أمعن ادونيس في التنظير للحداثة قبل أن ينسحب من المجلة في العام 1963 كان شعراء وكتاب ونقاد يمهدون الطريق نقدياً ونظرياً للثورة الشعرية الحديثة، فاذا ماجد فخري يتحدث عن «الشعر الانساني الوجودي» ورينيه حبشي عن «الميتافيزياء كحالة من حالات الشعر الأصفى» وأدونيس عن «الكائن الميتافيزيقي الذي يغوص الى عمق الاعماق» وفؤاد رفقه عن «الفكرة الغيبية الكبرى» للقصيدة الحديثة ونديم نعيمة عن «الحياة» التي هي بحسبه «ألف الشعر وياؤه، قالبه ووزنه وقافيته». أما بدر شاكر السياب فتمثل الشاعر الحديث في صورة القديس يوحنا وقد افترست عينيه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم. إلا أن انسحاب ادونيس من المجلة في عامها السابع لم يؤثر في حركتها ونشاطها، فهي استمرت بعده مثلما انطلقت. ولم يكن لانسحاب ادونيس خلفية سياسية أو ابداعية، كان بدأ يحس ان ظاهرته ما عادت قابلة للخضوع للغطاء الجماعي، ولم يلبث أن اصدر بعد سنوات قليلة مجلة «مواقف» لتكون منبراً أدونيسياً بامتياز ولكن مفتوحاً أمام التجارب الجديدة والشابة. وقبيل انسحاب ادونيس كان بدأ جو من التململ يهيمن على المجلة. فالشعراء الذين خاضوا المعركة وانتصروا فيها شعروا بأن مهمتهم شارفت نهايتها لا كأفراد وإنما كجماعة. وها هو أنسي الحاج يعرب في افتتاحية العدد 27 (صيف 1963) عن «الحماسة التي خفتت» بعدما «ازداد الوعي». فالحركة الشعرية انتقلت برأيه بعد شحنتها الاولى الى مهمة التعميق وباتت انضج واشد مسؤولية. ويسأل الحاج في الافتتاحية اللافتة: «أصحيح أن ما ظنناه الكثير هو أقل من القليل وأن بيننا من فسدوا وفي وقت قصير وفي عز المعركة وصاروا اصناماً؟. وينفي الحاج التهمة الذاتية تهمة الأمان والطمأنينة» مصراً على أن شعراء المجلة ما برحوا يسكنون في «احشاء الفاجع». وكان جريئاً في نقض مقولة العمل الجماعي وكسر هالة الجماعة التي وصمت المجلة ومما قال: نحن لسنا حركة، في معنى اننا لسنا حزباً. وما ندعوه «شعراء» مجلة «شعر» هو من باب التبسيط ولا معنى شعرياً جدياً له». وكان على هذا الموقف الجريء والصريح أن يؤذن ببدء افتراق الجماعة التي اصبحت مجموعة شعراء، وهي ربما هكذا كانت منذ انطلاقتها.

ولم تمض أشهر حتى راحت تلوح في أفق المجلة ملامح أزمة ما. وبعد افتتاحية انسي الحاج (صيف 1963) العاصفة كتب عصام محفوظ افتتاحية أخرى عن «الأزمة الشعرية العابرة» مستبقاً توقف المجلة عن الصدور بعد اشهر. وأدرك محفوظ جوهر الأزمة بدوره قائلاً: «لم نكن مدرسة ولا هيئة تبشير ولا مجموعة نزوات ولا عصبة أدب. كنا ضرورة وحقيقة». وصدر العدد الأخير من مجلة «شعر» (صيف وخريف 1964 – السنة الثامنة) حاملاً «البيان الختامي» وقصيدة وداعية كتبها يوسف الخال في عنوان «الرفاق». وفي البيان الختامي الشهير أعلن الخال اصطدام الحركة والمجلة بما سماه «جدار اللغة». وكان على المجلة اما ان تخترق الجدار وإما أن تقع صريعة أمامه. اما جدار اللغة فتمثل في نظر الخال في كونها لغة «تكتب ولا تحكى». وهذا ما جعل الأدب اكاديمياً ضعيف الصلة بالحياة. وفي بيانه اعرب الخال عن خيبته من اللغة الفصحى وعن عجزها عن مواصلة الثورة التي كان بدأ بها. وانطلاقاً من البيان باشر الخال تجربته اللغوية الجديدة أو «الولادة الثانية» كما أفاد عنوان كتابه الذي كان فاتحة عهده الجديد، عهد اللغة العربية الحديثة. الا ان شعراء المجلة لم يسلكوا مسلك الخال اللغوي بل أصروا على اللغة الفصحى غير عابئين بأزمة ذلك «الجدار». وبعضهم واصل خطه الابداعي مضيفاً الى قديمه جديداً ساطعاً ومتجلياً. وبدا واضحاً أن الازمة كانت أزمة يوسف الخال نفسه، يوسف الخال الشاعر الدائم التجدد والدائم التمرد.

ولكن لم تلبث مجلة «شعر» ان عادت بعد قرابة ثلاث سنوات من الاحتجاب (شتاء/ربيع 1967) ولكن في صيغة جديدة. فلا رئيس تحرير لها وانما هيئة تحرير فقط ومن ضمنها: يوسف الخال، فؤاد رفقه، انسي الحاج، شوقي أبي شقرا، عصام محفوظ، رياض نجيب الريس... وتبعاً لصدورها عن «دار النهار» اتسمت المجلة بما يشبه الطابع الصحافي في انفتاحها على احداث المرحلة، وفي اعتمادها بعض المقالات والمراسلات. لكنها لم تتخل لحظة عن الهم الابداعي والنقدي بل شرّعت صفحاتها للقصة والرواية والنصوص المسرحية. ولم تدم المجلة في صيغتها الثانية أكثر من ثلاث سنوات فتوقفت في خريف العام 1970 وحمل عددها الأخير الرقم الرابع والاربعين. وفي العام 1983 جمع يوسف الخال بعض شعراء مجلة «شعر» في دارته في بلدة غزير (شرق بيروت) ساعياً الى اصدار المجلة اصداراً ثالثاً، فاتحاً المجال أمام الشعراء الشباب ليساهموا فيها، لكن المحاولة لم تنجح لأسباب عدة، شعرية و «جيلية» وفكرية...

كيف نقرأ مجلة «شعر» في الذكرى الخمسين لصدور عددها الأول؟ لا شك في أن المجلة ما زالت حاضرة وكأن السنوات التي مرت على انطلاقتها لم تزدها إلا وهجاً على رغم انضمامها الى تراث الحداثة. فآثارها ما برحت واضحة في نتاج الشعراء الذين خلفوها. وثورتها ما زالت مستمرة في التجارب الابداعية الشابة التي تتجدد باستمرار. ولئن شاخ الكثير من ثوابتها ومنطلقاتها النظرية وبعض تجاربها الابداعية فإن روحها كحركة ومناخ لا تزال تخيم فوق خريطة الشعر العربي الراهن. والعودة الى اعدادها تظل مثيرة نظراً الى ما تضم هذه الاعداد من قصائد ومقالات وترجمات ما زالت مهمة حتى اليوم على رغم «خريفها». ويكفي أن هذه المجلة تمكنت فعلاً من ترسيخ صورة حية للحركة الشعرية العالمية في الستينات، التي لا تزال آثارها بينة في الشعر العالمي الراهن.

منعطف شعري عربي:

لفرط ما تحدث شعراء قصيدة النثر العربية عن مجلة «شعر» يظن المرء ان المجلة كرست نفسها لهذه الدعاوى، رافضة الأشكال الشعرية القائمة في قلب اللحظة العربية، والحال، ان الأمر ليس كذلك، إذ إن أبرز القائمين على تحريرها يوسف الخال وأدونيس ظلا وفيين، الى حد بعيد، لشكل التفعيلة الذي لم يكن، لحظتها، شكلاً تقليدياً ولا قديم العهد. الاستثناء الوحيد في إطار الهيئة التحريرية للمجلة كان أنسي الحاج الذي لم يأت من العمودي ولا من «التفعيلة» بل من قصيدة جديدة ستفتح لها المجلة أبوابها وستنظّر لها تحت تسمية «قصيدة النثر». لكن التباساً سيطاول هذه التسمية عندما ستصنف قصائد الماغوط التي قدمها «خميس شعر» ونشرتها المجلة بصفتها قصائد نثر.

لم تكن قصائد الماغوط، بحسب وعينا الراهن لقصيدة النثر في اصلها الغربي، قصائد نثر، بل على الغالب قصائد من الشعر الحر (بمفهومه الغربي، تقريباً)، على رغم ان أدونيس وأنسي الحاج نظّرا لقصيدة النثر انطلاقاً، كما نعرف، من كتاب الباحثة الفرنسية الصادر في ذلك الوقت، والذي يرسم إطاراً شكلياً ومضمونياً صارماً لتلك القصيدة. لكن حتى أنسي الحاج نفسه لم يلتزم، طويلاً، بشكل قصائد ديوانه الأول «لن»، الذي هو أول عمل شعري عربي في قصيدة النثر، بمعناها الغربي، وحمل أول بيان من نوعه يقدم به شاعر عربي ديوانه، إذ إن كثيراً من قصائد كتبه الشعرية اللاحقة نوّع بين شكل قصيدة النثر والقصيدة الحرة، بل بلغ مرحلة الإنشاد في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع».

وعلى رغم هذا الالتباس الذي لا تزال تعاني منه القصيدة العربية حتى الآن، الا ان «شعر»، مع ذلك، كانت حاضناً أساسياً، ان لم يكن وحيداً، لفكرة حرية الكتابة الشعرية باعتبارها ممارسة فردية تمليها التجربة والعيش، قد تتنوع وتختلف بتنوع واختلاف التجارب، وليست (أي الكتابة الشعرية) انخراطاً في نسق أسلوبي أو مضموني محدد سلفاً. هناك اكثر من جانب يمكن أن نحيي عليه هذه المجلة ونحن نحتفل بالذكرى الخمسين لصدور أول عدد منها ولكن أبرزها، في ظني، هو تشديدها على هذه الفكرة: حرية الكتابة، حرية القصيدة.

وأخيراً يخطر لي أن صورة الشعر العربي اليوم لم يكن ممكناً أن تكون كما هي عليه اليوم لو لم توجد مجلة «شعر»، وهي، بهذا المعنى، شكلت منعطفاً في تاريخ الشعرية العربية المعاصرة.

أمجد ناصر (شاعر أردني)

معركة «المتن» الاصلي:

كانت الطلقة الأولى في المعركة، المقبلة بعد سنوات ليست قليلة. شارةٌ على طريق أو اختيار آخر، أو اكتشاف قبل الأوان.

لم تكن معركة قصيدة «التفعيلة» قد حُسمت نهائيًّا، بل لعلها كانت لا تزال في ذروة احتدامها، ونيرانها المتبادلة؛ والحرس القديم ما يزال متمسكاً بمواقعه لا يريد إفلاتها، ويستخدم أفدح أسلحته «المحرمة ثقافيًّا»: الاتهام بالإلحاد، والعمالة، وهدم التراث ولغة القرآن، واستعداء أجهزة الدولة؛ ويستخدم مواقعه البيروقراطية في أنظمة «التحرر الوطني» الجديدة لإصدار فرمانات المنع والتحريم والتجريم·

وقبل أن تُحسَم المعركة - بعد ذلك بسنوات - إذا بمجلة «شعر» تقفز على ساحة المعركة المشتعلة - بكل صخبها وعنفها - إلى المستقبل، كأن الراهن - آنذاك - أصبح ماضياً، والمعركة الدائرة واقعةً تاريخيةً منقضية، والساحة تبحث عن فرسان جدد وقصيدة جديدة، أخرى، مغايرة لما يتعارك عليه الطرفان.

هي «قصيدة النثر». آنذاك، هي قفزة في الفراغ، خارج السياق والتاريخ، وطلقةٌ في معركة غير قائمة. لكنها - في الوقت نفسه - نبوءةٌ، أو علامة إشارية على ما سيكون، على ما سيجيء.

وسيكون للأعداد القليلة النادرة، التي تسربت من لبنان إلى بعض العواصم العربية، أن تكون مصدر إلهام عميق لأجيال تالية من المتمردين على النسق الشعري السائد، الباحثين عن صياغةٍ ما لتمردهم، أو أفق مغاير. وسيكون لي في أواخر الثمانينات أن أستمع إلى «محددات» قصيدة النثر كما صاغها أنسي الحاج، نقلاً عن سوزان برنار. بل لن يكون لي أن أعرف بكتاب سوزان برنار إلاَّ من خلال ما كتبه عنها شعراء «شعر».

دور سري - لأنه جرى في العمق الدفين لدى حلقات الشعراء العفوية - لعبته «شعر» ومؤسسوها ممن التزموا بأطروحاتها الأولى، في تأسيس حقبة السبعينات الشعرية العربية، على رغم أن بعض المؤسسين انقلبوا - مع الوقت - على أنفسهم وكتاباتهم، بلا اعتذار أو حتى تبرير.

فقصيدة النثر- التي تبنتها «شعر» لن يحققها شعراء المجلة (على رغم أنهم كتبوا أعمالاً فريدة فيها)، بل هؤلاء الشعراء القادمون بعد سنوات. هم مَن سيجعلون قصيدة النثر القصيدة العربية السائدة لا المهمَّشة، المتن الأصلي لا الهامش.

ذلك أن «شعر» كانت الطلقة الأولى في المعركة، القادمة بعد سنوات ليست قليلة. شارةٌ على طريق أو اختيار آخر، أو اكتشاف قبل الأوان.

رفعت سلام (شاعر مصري)

ترجمات أحتفظ بها:

تلعب اللحظة التاريخيّة التي تقرأ فيها صنيعاً أدبياً، كتاباً كان أو مجلّة، دوراً معتبراً في تلقّيه وتمارس على تذوّقه أثرها الواضح. قرأتُ بعض أعداد مجلّة «شعر» في صباي في العراق، ثمّ قرأتُ أعدادها الكاملة لدى أوّل وصولي باريس في منتصف العقد السبعينيّ من القرن المنصرم. ورائي كان المعترك الأيديولوجيّ الذي أثير حول المجلّة، وعلى وجه الخصوص ما يتعلّق بما يشبه امتداداً لنظريّة «الفنّ للفنّ» بدت المجلّة وهي تشيعه منذ عددها الأوّل. كان ثمّة ولا شكّ الكثير من السّذاجة (إن لم يكن الأمر صادراً عن اختيار هو نفسه أيديولوجيّ) في هذه الحرب التي خاضتها المجلّة من أجل شعر لا تتمثّل غايته إلاّ في نفسه. فالشعر، ونقول هذا باستعجال يمليه ضيق المجال، لم يكن مفصولاً يوماً عن هواجس البشر وصبوات الإنسان. والشكل الشعريّ الأرقى لا يتمتّع بأدنى فرصة للتأثير ما لم يرتبط بمضمون، ومن أين تأتي المضامين إن لم تأتِ من آمال الفرد أو الجماعة ومعيشهما المعتكر الصّاخب؟ ورائي، إذاً، كان ذلك الصّراع السياسيّ وردود الأفعال المتباينة. وما حملته لي المجلّة، في فترة لم أجد فيها بعدُ طريقي إلى القراءة بأيّة لغة أجنبيّة، هو شيء مختلف، غريب بالمعنيين، غربة الأجنبيّ وغرابة الجديد، نافذة إلى أصوات أخرى تهدر في العالم العريض بلغاتٍ شتّى. هكذا كانت الأبواب المتعلّقة بالترجمة، مِن نقل منتخبات شعريّة إلى التعريف بالشعراء الأجانب، هي ما اجتذبني في المجلّة أكثر من سواه إن لم أقل دون سواه. وعلى ما يقدر المرء أن يتقدّم به الآن من آراء وتصويبات في ترجمة المجلّة لهذا الشاعر أو ذاك، فلم يكن بالشيء الهيّن أن تقرأ تلك «البورتريهات» الوجوديّة والفنيّة، الموجزة والعميقة، للشعراء. لا وما كان بالشيء العديم الدلالة أن تجد بين يديك ترجمات يجهد أصحابها في صياغتها موسيقيّاً، بالإفادة من أدائيّات قصيدة النثر العربيّة (أبيات مفصولة بلا عروض)، بدل أن تقتصر على ترجمة المعنى. وإلى الآن أحتفظ بـ «طعم» بعض هذه القراءات، وأتذكّر الرجّة الفنيّة التي حصلت لي وأنا أقرأ بالعربيّة آرتو وهو يصرّح أنّه «لم يعد من مريء / ولا من معدة»، وأنّه انتهى أخيراً إلى تشكيل جسد بلا أعضاء، أو أبولينير وهو يقول لبرج إيفل الذي ينعته هو بـ «الرّاعي»: «قطيع الجسور يثغو هذا الصّباح»، أو رينيه شار وهو يقلّب بعض «صحائف هيبنوس»، أو لوركا وهو يهتف في رثاء صديقه مصارع الثيران أغناثيو سانتشيث مخيّاس: «كانت الخامسة بعد الظّهر في جميع السّاعات».

كاظم جهاد (شاعر عراقي)

في قلب السجال الراهن:

مجلة «شعر» التي مضى على تأسيسها خمسون سنة، ما زالت في قلب السجال الثقافي العربي وإشكالاته وقضاياه. لا شك في أنها تتمتع بمكانة خاصة وأهمية ريادية جديرة بها، على مر هذه السنوات بتحولاتها وأحداثها الجسام على الصعد كافة. «شعر» التي تأسست عام 1957 على يد تلك الكوكبة المبدعة من اللبنانيين والعرب، جاءت في مناخ مشحون برؤيا التجديد والتحديث وبمد المشروع الثوري الذي يشاهد المثقف العربي الآن بكل حزن وأسى، انكساره مع تلك الأحلام الكبيرة، وما بلغ اليه الوضع العربي من مآل كارثي ودموي.

وحين نقرأ المشهد الشعري والثقافي العربي، نجد الكثير من أطروحات مجلة «شعر» يأتي ثماره الأدبية والجمالية عبر الأجيال الجديدة.

وعندما أتذكر مجلة «شعر» أتذكر بالكثير من الامتنان والمودة أحد رموزها الكبيرة يوسف الخال، رحمه الله، وكنت التقيته في باريس وتوثقت علاقتي به حيث كنت اذهب اليه مع أصدقاء كثيرين، منهم حمزة عبود وجميل حتمل ورشيد صباغي وآخرين، وكان الفندق الذي ينزل فيه وسط جادة فكتور هيغو. كان متواضعاً في المعنى النبيل وداعماً لكل الأدباء الذين يقصدونه في غمرة العوز والحاجة والاغتراب. كان رجلاً من طراز نادر خصوصاً في تلك الظروف الحالكة بصفاته الأخلاقية والمعرفية. واستطاع ان يقود مجلة «شعر» على رغم تباين الاتجاهات والقناعات بين شعرائها، الى هذه المكانة الخاصة التي لا تطوى مع الزمان. وعندما رأى الخال ان المجلة وصلت الى النهاية في دورها، أعلن عبارته الملتبسة تلك، أي ارتطامه بجدار اللغة... وربما بجدار الجماعة والفريق المؤسس.

سيف الرحبي (شاعر عماني)

مختبر تحاورت فيه النصوص:

ربما ذهبت الى أن صدور مجلة «شعر» سنة 1957 كان من أهم الأحداث الأدبية التي شهدتها الثقافة العربية خلال القرن العشرين. فهذه المجلة كانت بلا منازع خميرة الحداثة الشعرية ومهادها الأول، على صفحاتها أعاد الشعراء النظر في معاني الثقافة العربية، هذه المعاني التي اكتسبت، من أثر تكرار بعد تكرار، قداسة متوهمة، كما أعادوا النظر في أسئلة الكتابة وفي وظائفها وفي مجمل القيم التي تنهض عليها. كانت هذه المجلة مختبراً كبيراً، في حيزه ترافدت النصوص، وتحاورت القصائد، وتقاربت الثقافات على بعد المسافة بينها، لهذا أزعم أن الثقافة العربية باتت بعد ظهور المجلة غير الثقافة العربية التي كانت قبلها. فنصوص أدونيس والخال والسياب والماغوط وحاوي وخالدة السعيد والجيوسي وجبرا ابراهيم جبرا، وكذلك نصوص الشعراء الأجانب التي ترجمتها المجلة مثل إليوت وباوند واراغون ولوركا وشار وسان جون بيرس، كل هذه النصوص مجتمعة قد أسهمت في تأسيس ثقافتنا الجديدة وبناء رموزها وتشكيل ذاكرتها. لكن حماستنا لهذه المجلة لا تمنعنا من الاستدراك عليها، فقد تلامحت في بعض نصوصها عناصر ايديولوجية ترتد الى الفكرة المتوسطية حيناً والى النعرة الفينيقية حيناً آخر في وقت كانت تدعي المجلة حيادها السياسي واستقلالها الفكري وربما كانت هذه العناصرالايديولوجية هي السبب الذي جعل بعض المثقفين ينظرون اليها بتوجس وارتياب.

لكن على رغم استدراكنا هذا، فإننا نعتقد أن مشروع مجلة «شعر» ما زال قائماً في وعي ثقافتنا ولا وعيها في آن، لأن هذا المشروع ينهض على ثقافة السؤال والسؤال لا يكبر ولا يهرم ولا يموت.

محمد الغزي (شاعر تونسي)

مجلة صنعها شعراؤها:

مضى نصف قرن إذاً على مغامرة يوسف الخال التي أشرك فيها عدداً من حالمي تلك الفترة الذين أرادوا تغيير العالم عبر الشعر. مغامرة لم تكن لتنجح لولا حاجة «المجتمع الأدبي»، يومذاك، إلى صوت جديد يختلف عن السائد. من هنا حفرت عميقاً في مكانها وزمانها على رغم كلّ النقد الذي يمكن أن نوجهه لها اليوم، أي أن قراءتنا لها راهناً، عليها ألا تنسينا الشروط التاريخانية التي تحركت في فضائها.

لكن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه: ماذا بقي من «شعر» بعد مرور هذه السنين؟ على الأقل تركت وراءها أسماء لا يمكننا أن نتجاهلها في حركة الشعر العربي الحديث. في معنى آخر، هل نستطيع ألا نلتفت إلى أنسي الحاج ومحمد الماغوط وشوقي أبي شقرا وأدونيس وسعدي يوسف وغيرهم الكثيرين إذا أردنا أن نقرأ، مجدداً، حركة الشعر العربي الجديد؟ أشك في ذلك إذ انها أسماء أسست «تراث الحداثة»، ولا يزال بعضها حاضراً ومؤثراً في الحراك الشعري. أي أن «شعر» ليست أعجوبة أدبية، بل هي وقبل أي شيء آخر، شعراء صنعوا اسمها.

أعترف بأنني لم أقرأ أعداد «شعر» إلا منذ سنين قليلة، وأعترف بأنني فوجئت بنصوص لا يمكنني تصور أنها وجدت فرصة النشر. ولكن مع ذلك، كانت المغامرة تستوجب ذلك. مغامرة فتحت آفاقاً لا يمكننا تجاهلها، بخاصة نحن الذين نكتب هذا المفهوم الشعري الذي انسل من تلك الحركة، التي فتحت لنا الباب كي نذهب بالتجربة إلى أمكنة أخرى.

ولكن هل يعني هذا أننا تأثرنا بتلك الكتابة؟ جوابي الشخصي هو أنني آتٍ من كتابة أخرى - هكذا أدعي - لا وجود فيها لأي فضاء من «شعر».

اسكندر حبش (شاعر لبناني)

النظرية الأولى لماهية الحداثة:

تكمن أهمية مجلة «شعر»، في خلخلة مفهومنا لبنية الشعرية العربية، وإعادة النظر في نموذج الشعر الكلاسيكي وأصوله، عبر رفع إهاب القداسة عن التراث الشعري، ومحاورة أو مساءلة بناه المعرفية والفنية والجمالية والإيقاعية. وهي بذلك، شكلت ثورة حقيقيةً، تمثلت في تقديم أول نظرية متكاملة لماهية الشعر الحديث، الذي رأى فيه أدونيس، في بيان تأسيسي محوري أواخر الخمسينات، رؤيا جديدة للعالم تصدر عن حساسية ميتافيزيقية، تتخطى العلائق المنطقية، وتسعى للكشف عن جوهر العالم المخبوء. ويكفي المجلة أنها أطلقت مفهوم ما أسماه أدونيس قصيدة الرؤيا، التي تعتمد لغة الإشارة، أو الإيحاء، وتنبذ التبشيرية، بمستوياتها الأخلاقية والسياسية والأيديولوجية. قصيدة الرؤيا هذه، التي تدمج أساليب ومستويات تعبيرية مختلفة، استطاعت أن تكسر حواجز النوع الأدبي، وتؤسس للمرة الأولى في تاريخ الشعرية العربية المعاصرة، لمفهوم التناص أو النصّية. ناهيك أن «مجلة شعر» استطاعت أن تدخل مصطلحات جديدة إلى قاموسنا النقدي والجمالي والشعري، بخاصة ربط أدونيس مفهوم القصيدة الحديثة بمفردات التخييل، اللانهاية، الحلم، الحدس، الإشراق، الشطح، الكشف، وغيرها.وتكمن عبقرية «مجلة شعر» في جمعها تيارات فنية وشعرية ونقدية، متباينة ومختلفة، إذ استطاعت، خلال سنوات عمرها السبع، أن تكون منبراً ليبرالياً حراً جمع بين يوسف الخال، المؤسس الكبير، الذي دعا إلى اعتماد اللغة اليومية البسيطة، وليس اللغة الرؤيوية المتعالية التي نادى بها أدونيس، وأنسي الحاج الذي ظلت جملته النثرية صافية كهنوتية ومباغتة، ومحمد الماغوط الذي نبذ الصنعة والتجريب وظل محافظاً على بساطة مدهشة، وعصام محفوظ الذي أدخل نبرة نقدية مثقفة لخطاب المجلة الشعري، وخليل حاوي الذي ظلّ أسير قلقه الفلسفي والوجودي، وشوقي أبي شقرا الذي ظلّ سريالياً، غرائبياً، يبحث عن اللامألوف.

عابد اسماعيل (شاعر سوري)

عبده وازن

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...