سعاد جروس: سهرة مع محمود درويش

21-08-2008

سعاد جروس: سهرة مع محمود درويش

الجمل- سعاد جروس:   فرصة، وبالنسبة إليَّ مصادفة نادرة أن أمضي سهرة مع محمود درويش بعيداً عن معجبيه ومحبيه، وبعيدا عن الأجواء الثقافية الاحتفالية، ساعات قليلة سرقت خلسة، كان خلالها ينشد الراحة وساعة صفا؛ هيأ لذلك ناشره وصديقه رياض نجيب الريس، لدى تواجدهما في دمشق بمناسبة توقيع ديوانه (كزهر اللوز أو أبعد) صيف عام 2005 على هامش معرض الكتاب في مكتبة الأسد. وإذ أعود اليوم إلى تلك السهرة التي دونتُ وقائعها، ولم أفكر يوماً بنشرها، فذلك كي لا يكون الوداع قاتماً ثقيلاً لشاعر كبير عشق الحياة وعرف بخفة الظل والمرح، عاش يربي الأمل في قصائد ألهمت أجيالاً من الشعراء بعده؛ سهرة سمر غلب فيها الهزل على الجد، فكنا معه ومعه فقط.
كنا ثلاثة محمود درويش ورياض الريس وكاتبة هذه السطور، وكان الاقتراح البحث عن مطعم لتناول عشاء خفيف بعيداً عن الأنظار، بعد يوم مضن حفل بمفارقات، شكلت المادة الرئيسية للجلسة، وكان للإعلاميين نصيب الأول فيها، إذ عبر محمود درويش عن ذهوله من حوار أجري معه وسأله فيه عن كل شيء ما عدا ما يتعلق بنصوصه الشعرية!! مثل سؤال هل يزعجك أن تقارن بنانسي عجرم؟ والذي أجاب عليه: لا أبداً لا يزعجني أن اظهر أنا ونانسي في صفحة واحدة، لكن ما هو المشترك بيني وبينها لأقارن بها؟ وتابع القول لنا بنبرة ساخرة " علما أنه لا مانع لدي أن أكون مع نانسي في غرفة واحدة "
أما الصحافية التي أدهشته، فتلك التي انتظرت عودته طويلاً في بهو الفندق، لتجري معه حوارا لصحيفة محلية ووكالة أنباء، فطلب إمهاله بعض الوقت ليصعد إلى الغرفة ثم يعود إليها، وفي الغرفة انشغل ونسيها. صباح اليوم التالي، فوجئ  بأنها أمضت ليلتها تنتظره على الكنبة. أجرى حواراً مطولاً معها، متوقعاً أن ينشر في اليوم التالي، قياساً إلى إصرارها، إلا أنه لم يقرأ أي شيء عنه ولا حتى خبر. الأغرب من ذلك مجيء صحافية أخرى من المؤسسة ذاتها لتحصل على حوار مطول بزعم أنها من يمثل هذه المؤسسة لا زميلتها التي سبقتها.
 استرسل الحديث طريفاً، كل مفارقة تتبعها مفارقات لتغدو الجلسة جلسة فضفضة، فتحدث درويش عن شخص سمج أصر على دعوته إلى الغداء، فتحجج بأنه مرتبط بموعد على الغذاء، فما كان من ذلك الشخص إلا أن سأله مع من؟ رد بنزق "لدي موعد غرامي".  وكانت الإجابة المفحمة بسؤال: "ألا استطيع التواجد معك؟".
ومن الصحافة إلى المعجبات، أجاب بشكل غير مباشر على سؤال لم أجرؤ على طرحه عن سبب نعت البعض له بأنه نرجسي أو مغرور وحتى متغطرس. قال ثمة أشخاص قسوة حبهم تفوق القدرة على الاحتمال، وعلى سبيل المثال جاء على ذكر امرأة محامية أسماها المحامية الزرقاء، جاءته ترتدي الأزرق من الرأس إلى القدمين، حتى أظافرها طلتها بالأزرق، اتصلت معه في وقت متأخر من الليل لتعبر عن رغبتها بإهدائه نسخة من كتابها الاقتصادي، ولدى قوله أنه لا يهتم بالاقتصاد، استنكرت رفضه قائلة أنها تهتم بالاقتصاد، لكنها تقرأ الأدب، فلماذا هو لا يقرأ كتب الاقتصاد!! رد بانزعاج "أنا حر فيما اقرأ، وأنت تتصلين في وقت متأخر". بررت ذلك بأنهم في استعلامات الفندق، قالوا لها أنه جاء الآن. فقال "أنت مالك" مغلقاً خط الهاتف، ورغم ذلك اتصلت ثانية عند التاسعة من صباح اليوم التالي لتبلغه نيتها إهدائه أشعارها!!
لم يكد يختم هذه القصة، حتى اقبل عليه المطرب الذي قطع وصلته الغنائية، قدم نفسه على أنه "المطرب المتعاقد مع المطعم"، وأخبره أنه لحن إحدى قصائده، لكن هناك من حذره من احتمال مطالبة الشاعر بحقوقه. فطمأنه درويش، " لحن ما تريد أنا لا أطالب أحداً بحقوق قصائدي". وكانت وقفة المطرب فرصة للعاملين في المطعم كي يأتوا إليه طالبين صورة معه، فاستأذنهم التأجيل حتى يستريح قليلاً.
حديث المعجبات كان مستملحاً، فطالبناه بالمزيد، فتذكر معجبة تونسية كانت تظن أنها زوجته، وعلى هذا الأساس كتبت له رسائل غرام كثيرة، وفي أحد المرات، حضرت أمسية شعرية له مرتدية ثوب زفاف ابيض وطرحة!! ثم علم من أهلها أنها مريضة نفسياً وتخضع للعلاج, فبطل العجب. وفي أحد الأمسيات، صعدت على المسرح فتاة جميلة أهدته وردة فقبَّلها، وجاءت بعدها فتاة أقل جمالا وكي لا يميز بينهما قبلها هي الأخرى، وبعدهما جاءت فتاة على قدر ضئيل جداً من الجمال، فتجاهل وجودها، ونقل إليه أن تلك الفتاة بكت بشدة لأن لم يقبلها، ليعلم أنها هي ذاتها التي تدعي أنها زوجته، فارتاح لتصرفه بعدم تقبيلها... و"إلا لحملت من القبلة!!".
أما القصة التي غلب فيها الانزعاج على الطرافة، فحدثت في مصر عندما أيقظه عامل الفندق في وقت مبكر رغم طلبه عدم الإزعاج، ليخبره أن سيدة تنتظره من الساعة السادسة في بهو الفندق بناء على موعد مسبق، نزل درويش ليفاجئ بامرأة صلعاء شديدة القبح والنحافة، "ككومة عظم متفحمة" حسب تعبيره. تقدمت نحوه معاتبة كيف أنه لم يعرفها مع أنها خطيبته وزواجهما قريب!! بعد اخذ ورد سريع  توجه الى موظفة الاستعلامات، وقال لها:
" أنظري الى ذاك الشيء الموجود هناك ـ مشيراً الى المرأة ـ هل تعرفي ماذا تريد تلك؟ إنها تريد أن تتزوجني".
"يا خبر !!" ردت الموظفة. فطلب منها تخليصه من هذا الموقف، فطمأنته بأنها خلال دقائق ستنهي الموضوع، وبعد قليل أرسلت إليه من يقول " الرئيس أرسل إليك سيارة لتقلك إليه". فتظاهر بمغادرة الفندق ليتسلل من الباب الخلفي هاربا إلى غرفته.
بين المزح والجد، امتدت السهرة بنا. وقلنا له هذا عن المعجبات المزعجات، ماذا عن الجميلات الفاتنات. رفض الكلام لأنه سيغدو ادعاء، لكن لتداعيات التنكيت سلطان في هكذا مناسبة. وكانت البداية هي الخلاف حول مقاييس الجمال، إذ يعجبه جمال هيفا وهبي، ولا يزعجه السيليكون، إذا كان يصحح أخطاء الخلق. واستمر الحديث مع توافد الجميلات إلى المطعم، فأخذ يعلق على قوامهن، فهذه "ناعمة" ولا تعني بالضرورة أن تكون جميلة، وما لفت نظر الريس في إحداهن، رأى درويش في مشيتها أنها "تفتقد لأكثر من برغي لأنها تسير وكأنها مخلّعة الأطراف فيما تضمر الأرداف". ومع دخول حسناء إلى المطعم، استحضر درويش امرأة فتنته، كان لوقع خطواتها على الأرض "رنين التكتكة على حواف القلب"، رآها صدفة بالطائرة، وكانت المدينة التي يقصدانها واحدة، مضت معه إلى حيث يقيم، وإثناء تحضيره القهوة، تلاشت تلك المرأة، وكأنها لم تأت، ثم علم لاحقاً أنه "كان عليها المضي سريعاً الى صديقها الذي ينتظرها في الفندق ذاته".
 أما المرأة "المصنوعة من زهر الكاردينيا"، فكانت له معها قصة ولع خاصة، نضحت من نبرة صوته وهو يحكي عن مذيعة ومقدمة برامج موهوبة من أمريكا اللاتينية دعته لحوار إذاعي وكان بينهما مترجمة، وافق على إجراء الحوار مشترطاً أن تصحبه بعد انتهاء البرنامج دون مترجمة، إلا أن مهندس الصوت كان معهما في السيارة وأبى النزول حتى ساعات الفجر ولم يبق على إقلاع الطائرة سوى ساعات قليلة، فظلا يدوران في السيارة على أمل نزول مهندس الصوت، دون جدوى الى أن "قضى التعب على العشق"، واستسلم درويش لحظه العاثر وغادر مباشرة الى المطار. بعد مرور سنتين التقى المذيعة مصادفة وتجدد اللقاء وكأن زمناً لم يمض على لقائهما الأول، ووصفها بـ "أنها امرأة لا تنسى".
ثم دار هذا الحوار بيننا:
ـ هل تحرضك المرأة الجميلة على كتابة قصيدة ؟.
" اكتب عن المرأة في حالة الحرمان والغياب، لكن في حالة التحقق لا أكتب عنها،  وحين أكتب سرعان ما يستقل النص ويبتعد عنها، وتنقطع علاقتها به".
ـ هل تعمل كثيراً على القصيدة ؟.
" كثيراً جداً". 
ـ هل تعاندك الكلمات؟".
" من الممكن التغلب عليها".
ـ إذاً أين تواجهك الصعوبة في الكتابة؟".
" الصعوبة بالحذف، الحذف يحتاج لجرأة".
استفضنا بالحديث عن طقوس الكتابة والاشتغال على النص، فقال إنه يمزق كثيراً من الورق.  ـ ألا تكتب على الكومبيوتر؟.
" أبداً ليس لي علاقة به، مازلت اكتب بقلم الحبر السائل".
ـ  يقال أن الكومبيوتر يجعل النص كعجينة لينة، ما يُسهل تشكيله.
" الجميع يقول هذا، لكن لم أحاول التعامل معه".
ـ ولا حتى في المراسلات، ألا تستخدم الإيميل ؟.
" لا، نهائياً".
هذا الحديث، لم يطرب الناشر ولا الشاعر، فاقفل على عجل، فهما إذا لم يتفقا على شيء، فلا بد أن يتفقا على كراهية التكنولوجيا الحديثة وبالتحديد الكومبيوتر. لذلك حين نشرتُ فيما بعد في جريدة الشرق الأوسط، تحقيقاً عن الأدباء الكبار الذين لا يستعملون الكومبيوتر، وصرح فيه رياض الريس بأنه مع العودة إلى الحمام الزاجل لنقل الرسائل، وذكرتُ فيه أن محمود درويش لا يستخدم الكومبيوتر. اتصل درويش بالريس لدى قراءته التحقيق، وعلق بأنه يؤيد دعوته للعودة إلى الحمام الزاجل، لأن بيتاً من الشعر يرسل مع طير الحمام إلى الحبيبة يؤدي الغرض.
وعودة إلى السهرة التي انتقل الحديث فيها إلى السفر وأي البلدان أعجبته أكثر من غيرها. قال البرازيل والتشيلي والمكسيك، وثمة بلدان زارها ليوم واحد كالصين وكان برفقة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي كان يزور العواصم العالمية بوقت قياسي في مهماته السياسية.
تحدث بشوق عن ماركيز واستضافته له في بيته ومحاولة إقامة نشاطات لدعم القضية الفلسطينية. كما ذكر حادثة طريفة عن سفره للقاء ماركيز أيضاً، ولدى وصوله إلى المطار قال له مضيفه أن ماركيز في كوبا لحضور جنازة أحد الأدباء، وأنه إذا رغب في رؤيته هناك فسوف يلتقي بكل الأدباء هناك, سأله، لماذا لم أبلغ بهذا قبل مجيئي؟ رد المضيف، خشيت أن تعدل عن القدوم وأنا أريد أن أراك. فما كان من درويش إلا أن شتمه وقال "هل جئت أنا الى هنا كي أراك".
ضحكنا من أعماق القلب، قبل أن نقفز إلى موضوع آخر يتعلق بالفن والتلفزيون والدراما، عبر عن إعجابه بالدراما السورية وأعمال الفنان ياسر العظمة، متمنيا لو أنه يقدم في مراياه ما تعرض له أثناء توقيع ديوانه في دمشق. ثم اتصلنا خلال السهرة بالممثلة السورية سلاف فواخرجي التي حياها معبرا عن إعجابه بها. انزلق الكلام بعدها من الفن إلى السياسة وكيف هاجمه الإسلاميون لأنه ساند الشاب الفلسطيني الذي وصل الى المرتبة الثانية في برنامج السوبر ستار، عندما منع من إقامة الحفلات. فقال درويش "نحن بحاجة لمطربين ومطربات وراقصات لكي نصبح شعباً، نحن لسنا بنادق فقط".
وكانت مناسبة ليعلن درويش موقفه من الذين يشتهون المرأة ويأكلونها بوحشية، وفي الوقت ذاته يكرهونها، هو لا يختلف مع الإسلاميين في المقاومة ضد الاحتلال، لكنه يختلف مع مشروعهم الاجتماعي والثقافي. وفيما يشبه استشراف المستقبل القريب قال في تلك الجلسة بأن غزة  ذاهبة بعد الانسحاب الإسرائيلي إلى "مواجهة حتمية بين السلطة والإسلاميين". كان ذلك عام 2005 ، وتحقق بعد اقل من عامين.
الانزعاج منه انصب عليه في صحافة الأصوليين، فقد نشرت إحدى المجلات الأردنية عنه خبراً تحت عنوان فاقع "شاعر كبير ووزير يقضيان ليلة حمراء" والخبر كان عن عشائه مع الوزير ياسر عبد ربه في إحدى مطاعم عمان، حيث تناولا بعض الأطباق الخفيفة مع كأس نبيذ. وقال درويش، الليلة الحمراء تعني وجود عاهرات في المكان، وحيث كنا لم يكن هناك ولا أي عاهرة!!
باءت بالفشل محاولتنا في انتشال درويش من الحديث عن الثقافة والسياسة، ووجدنا أنفسنا نغرق مجددا في الشجن من واقع سياسي مؤسف، حدت منه عودة "المطرب المتعاقد مع المطعم" إلى درويش، الذي شعر حيال المطرب بأنه "كان معنا على الطاولة طيلة السهرة، فهو لم يرفع عينه عنا " أي عن درويش، فقد قاطعنا أكثر من أربع مرات بينها إخباره بأنه سيغني الليلة من قصائده، فتوسل إليه درويش ألا يفعل، فهو لا يريد سماع قصائده الوطنية في هذا الوقت وهذا المكان. المفارقة أن المطرب ومع كل مقاطعة، كان يتظارف بالقول اسمحوا لي بفاصل إعلاني. هذا التعبير نال استحسان الريس كأفضل تعبير عن الغلاظة، التي بلغت ذروتها لدى مغادرتنا المكان، وملاحقته لدرويش، الذي طفح معه الكيل وبدأ صبره بالنفاد، فقال له "طيب وبعدين". إي انتهى، فظن المطرب بكلمة "بعدين" بادئة للاستفاضة بالحديث مع شاعر يعشقه، ما استفز درويش ليصرخ بوجهه "خلص انتهى الكلام".
مضينا في الزقاق المعتم نحو الباب الشرقي للمدينة القديمة، لنستقل من هناك السيارة، إلا أن جمهرة من الناس كانت عند القوس القديم، وثمة امرأة تلطم وتبكي صارخة "الولد راح".  سألنا أحد الواقفين، ماذا يحدث وكان الجواب حصلت مشاجرة بين مجموعة شبان ثم اقتيد أحدهم بسيارة إلى جهة مجهولة. فسأل درويش يعني "الولد خطف؟"  فكانت الإجابة، "لا لم يخطف لكن هناك من أخذه ومضى بعيداً" فضحك درويش معلقاً "أُخذ في سيارة الى جهة مجهولة، إذا لم تكن تعني أنه خطف، فماذا يكون الخطف؟".
الخطف أيضاً، وإن لم يكن إلى جهة مجهولة، أن يغادر محمود درويش إلى أمريكا لإجراء عملية جراحية بعد تأخر منحه الفيزا ثلاثة أشهر، اضطر خلالها الرئيس محمود عباس للتوسط لدى كونداليزا رايس  ليعود ملفوفاً بالعلم الفلسطيني، ويسبق اسمه لقب الراحل.. ويُتبع بـ "يرحمه الله". 
انخطف درويش من عالم الشعر والسياسة والصراع والحب والأمل واليأس... وفلسطين، ليستريح في اليوم السابع بعد ستة عقود، كان فيها أمير الشعر والشعراء، كما وصفه صديقه الناشر رياض نجيب الريس وهو ينعيه بالقول: في بداية القرن العشرين رحل أمير الشعراء العرب أحمد شوقي، وبعد سبعين عاماً، في بداية القرن الواحد والعشرين، رحل أمير الشعراء العرب للقرن الواحد والعشرين.

 


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...