الرواية العربية والذاكرة القومية

28-08-2007

الرواية العربية والذاكرة القومية

تتعيّن الرواية العربية، من بداية القرن العشرين إلى نهايته، ذاكرة قومية سجلت، بدأب واجتهاد، ما تطلّع إليه الإنسان العربي ولم يظفر به. وقد يبدو تعبير «الذاكرة القومية العربية» تزيّداً رغبياً، أو نعتاً جليلاً، لشيء لا وجود له. فالواقع الرسمي العربي أنتج «وطنيات متعددة»، مثلما أنّ تحوّلات المجتمع العربي بعد هزيمة حزيران جعلت من «الهوية القومية العربية» أمراً ملتبساً. مع ذلك، فإنّ مصطلح «الذاكرة القومية العربية» يعثر على ما يسوّغه في مرجعين أساسيين: أولهما الشعور القومي الشعبي الذي يردّ إلى موروث متعدد الطبقات، بعيداً من أيديولوجيات رسمية تقول بالعروبة وتؤسس لنقيضها، وثانيهما اللغة العربية، التي يكتب بها الروائيون أعمالهم في أقطارهم المختلفة. أكثر من ذلك أنّ الرواية العربية كانت، وما زالت لوناً أدبياً غير مرغوب به رسمياً، ينقد السلطة ويعبّر عمّا يهجس به الشعب، ولا يحسن التعبير عنه. جعل الواقع المعيش من هذه الرواية صورة عن «أدب المضطهدين» بامتياز، سواء التفت إليها «المضطَهَدون»، أي غالبية الشعب العربي، أم وجدوا عزاءهم في كتب أخرى. ولعلّ العلاقة الوثقى بين المعيش المشخص والكتابة الروائية هو ما صيّر الرواية العربية «أرشيفاً» نوعياً لقرن بكامله، أو «تأريخاً نثرياً» لأطوار التاريخ العربي الحديث المختلفة، الممتدة من هزيمة إلى أخرى، أو من نصر محتمل إلى هزيمة أكيدة.

سردت هذه الرواية في طورها الأول، الذي بدأ بكتاب المويلحي «حديث عيسى بن هشام»، وانتهى بظهور رواية محفوظ «الرواية التاريحية (1939)، حكاية التقدّم الشهيرة، التي حلمت بعالم عربي تحرّر من تخلّفه وأقبل على وسائل الحضارة التي أخذت بها الشعوب المتحضّرة. توزّعت فكرة التقدّم، في هذا الطور، على مربين مستنيرين حال محمد عبده وقاسم أمين وطه حسين، وعلى أدباء عالجوا الكتابة الروائية، مثل فرح أنطون ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم... التبست فكرة التقدّم، لدى الطرفين، في شكل الحكاية، فالتمس الروائي - المربي شيئاً من الخيال ليجذب قارئاً محتملاً، ووضع المربي في أفكاره شيئاً من الحكاية، محدّثاً عن تخلّف مؤذ، يصارعه تنوير واضح الغاية، يتلوها مجتمع سعيد، عثر على طريقه الصحيح. ومع أنّ الماضي، أو الموروث، أو التاريخ، إن جاز القول، بقي حاضراً أو مجزوء الحضور في الكتابات جميعاً، فقد بدا المستقبل زمناً واعداً مسيطراً، يمسح عن الحاضر ما علق به من أوبئة وخراب، ويستعيد ماضياً مضيئاً أخذ صفات متعددة.

أخذ المستقبل في «حكاية التقدّم» أبعاداً مختلفة: فهو الزمن النقي المتحرّر من حاضر متداع موبوء، والزمن الحر الجديد الذي لا يقاس بغيره بل يقاس به غيره من الأزمنة، وهو الزمن الراشد الذي هزم رذائل الجهل والقمع واحتكار الكلام. لا غرابة إن تحدث أنصار التقدّم عن «الإنسان الكامل»، جاء ذلك على لسان سلامة موسى، أو مرّ على قلم «العقّاد الشاب»، قبل أن يغيّر مواقفه. عثر التقدّم المأخوذ بحكمة المستقبل، على معادلة الروائي في صيغة: «الصبي الواعد»، الذي يهجر الحاضر ويرمي بنفسه بين أحضان المستقبل، منتظراً بشارة غامرة تأتي في النهاية الطريق، إن لم يكن هذا الصبي، الواضح الفضائل، هو البشارة بعينها. كان في رواية «زينب» صبياً يقلّ حكمته عمره، وكان في «عودة الروح» صبياً لا يقبل حكمة، أعطى اللبناني توفيق يوسف عواد الصبي مساحة واسعة في روايته «الرغيف». وسيستمر هذا الصبي النجيب في التوالد في أعمال عبدالرحمن الشرقاوي وغسان كنفاني والمغربي عبدالكريم غلاب وغيرهم. ومع أنّ الصبي قد يذكر بـ «البطل الإيجابي»، الذي بشرت به «الواقعية الاشتراكية»، فالمقارنة بينهما خاطئة، لأنّ الثاني تربّى واكتمل في مجتمعه التقليدي وحقّق انتصاره في حياته، بينما الصبي لا يزال في انتظار مربيه، ولا يزال انتصاره القادم غافياً.

بعد رواية التقدّم، التي حايثها تبشير له ما يبرّره، جاءت رواية التحرّر الوطني، التي مزجت بين الوقائع والتبشير، معلنة عن مجتمع عربي دخل في طور جديد، تأسّس على إرادة وطنية مقاتلة أجبرت الاستعمار الأجنبي على الرحيل. لم تكن هذه الرواية غافلة عن وجوه سلبية متناثرة، كالجهل وامتدادات الاستعمار الداخلية، لكن إيمانها بـ «الإرادة الشعبية الوطنية»، التي أخذت، أحياناً، بعداً غنائياً، أقنعها بأنّ المستقبل قادر على إزالة كل الشرور. وإذا كان الماركسيون رفعوا ذات مرّة شعار: «طبقة ضد طبقة»، فقد رفعت رواية التحرّر الوطني شعار: «زمن ضد زمن»، حيث الزمن القديم يسحب معه قديمه ويمضي، تاركاً الجديد يبني عهده بمواد وأدوات جديدة. ظهرت «دولة الاستقلال»، آنذاك، جزءاً من المستقبل المفترض، في انتظار حقبة زمنية مقبلة، ستعيد إلى الرواية موضوعها الجوهري أي : الاغتراب، بعيداً من براءات الحكايات المأخوذة بانتصار الخير. ذلك أنّ «دولة الاستقلال» رأت في القمع مقدّمة للاستقلال وشرطاً لازماً له، إلى أن أصبحت «الدولة المستقلة» دولة قمعية بامتياز.

أفضت الدولة القمعية، في علاقتها بالرواية، إلى نتيجتين: تأكيد القمع موضوعاً أساسياًَ للرواية العربية، استهله محفوظ، في نهاية الخمسينات الماضية، برواية «أولاد حارتنا»، وإجبار الروائي على التحوّل من «الصوت الجماعي»، إلى «الصوت المفرد المغترب»، الذي يسرد مآل مقموع يبحث عن جوهره المفقود. وما الحداثة الروائية العربية التي أنجزها «جيل الستينات» إلاّ صورة عن تحوّل أدبي ارتبط بـ «تحوّل اجتماعي»، أشرفت عليه السلطة بمقادير مختلفة. أمدّ عنف التحوّل الاجتماعي، قبل هزيمة حزيران 1967 وبعدها، الرواية العربية بولادة جديدة. فبعد بدايات المويلحي وفرح انطون وهيكل وغيرهم جاء «محفوظ الشاب»، الذي أعطى الرواية أسساً جديدة، إلى أن جاءت رقابة السلطة المستقلة القامعة ودفعت بالشكل الروائي إلى آفاق جديدة. اندرجت الرواية، وهي تتقي شرور السلطة المختلفة، في «أدب المقموعين»، الذي يستعمل الأمثولة والمجاز ويستبدل بالحاضر أزمنة بعيدة عنه ويختلق ما شاء من الأمكنة. ساعد على ذلك «المكر الروائي»، الذي يقصد شيئاً ويوهم بغيره، وطبيعة الكتابة الروائية، التي ينجزها الروائي منعزلاً ومستقلاً، لا يحتاج إلى الدولة وأجهزتها، باستثناء الرقابة الرسمية، التي تتسامح مع المكر الروائي، طالبة من «نقّادها» الهجوم على ما يبدو «معوّجاً». بيد أنّ المكر لا يحلّ، دائماً، مشاكل الروائي. ففي تواتر القمع الطويل ما يستأصل إمكانات «التخييل»، معلناً أنّ الواقع المعيش القائم واحد ووحيد، وأنّ حديث الروائيين عن «الواقع»، بصيغة الجمع، متفائل أكثر من اللازم.

برّرت الأنظمة ما يبرّر وما لا يمكن تبريره بشعار جليل: تحرير فلسطين، أو هزيمة الكيان الصهيوني. أدركت الرواية، التي ترى الإنسان الحر مدخلاً إلى الوطن، تهافت الشعار، قبل انتصار «الكيان الصهيوني على العرب (1967). ولذلك لم تشكّل هزيمة حزيران مادة أساسية للرواية العربية، أو أنّها لم تشكّل إلاّ نادراً، مادة لروايات عربية أساسية، ذلك أنّ الروائي العربي، الذي لا يعشق البلاغة، أدرج الهزيمة، قبل وصولها وبعده، في موضوع أكثر أهمية هو: السجن. أعلنت رواية السجن - الهزيمة عن سقوط نهائي لمرحلة تاريخية عربية، اتكاء على تجديد خصيب في الشكل الروائي، يقطع، أو يكاد، مع معايير الواقعية التقليدية ويستولد «الواقع»، فنياً، بأدوات متعددة ومتنوعة. ومع أنّ محفوظ كان، كعادته، رائداً في التجديد، فإنّ أسماء كثيرة، من جيل آخر، استأنفت التجديد وأضافت إليه أبعاداً كيفية غير مسبوقة. حايثت هذا التجديد، في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، مفارقة مؤسية انطوت على بعدين: كشف الأول منها عن الفراق المتصاعد بين رواية مزدهرة ومجتمع متداعٍ، مفصحاً عن غربة الإبداع الروائي وتهميشه اجتماعياً، وعن قارئ للرواية هو مجرّد احتمال لا أكثر. وكشف الثاني منها عن صعوبة متزايدة في الكتابة الروائية، بسبب تحوّلات اجتماعية عميقة غير متوقعة، أغلقت أفق التوقع والاستبصار. ولعلّ صعوبة التوقّع، كما التداعي الاجتماعي شبه الشامل، هو ما جعل الإبداع الروائي في السنوات الأخيرة، مقصوراً على أسماء ليست كثيرة.

قرأت الرواية، على طريقتها، هزيمة حزيران مرّتين: مرّة أولى حين رأتها قبل وصولها، ومرّة ثانية حين رصدت آثارها بعد وصولها مقررة، في الحالين، أنّها هزيمة لا تكف عن التكاثر. وهو ما جعل من الرثاء والاغتراب والتقوّض والتداعي والأفول مواضيع مسيطرة، يقاربها الروائيون المبدعون بأشكال مختلفة. وربما كان الوعي التاريخي للكتابة الروائية، الذي لا يخلط بين الأساسي والثانوي، هو ما همّش، ولو في شكل نسبي وقائع خطيرة، مثل احتلال الجيش الإسرائيلي لبيروت (1982) والحصار الاستعماري المتجدّد للعراق، وكوارث أخرى كثيرة. كما لو كان في هزيمة حزيران التي جعلت من قبول الهزيمة عرفاً عربياً أو يكاد، مدخل واسع إلى هزائم أكثر خطراً.

باستثناء الرواية المصرية التي حافظت على حيويتها حتّى اليوم بفضل روائيين ينتمون في شكل عام إلى جيل الستينات والسبعينات، مثَّّل صعود الرواية اللبنانية بعد الحرب الأهلية حالة لافتة. عاد ذلك، ربما، إلى أسباب خاصة بلبنان دون غيره: معاناة اللبناني من حرب طويلة مدمّرة استقرّت في ذاكرته، مجتمع ديموقراطي، بالمعنى النسبي، قياساً على غيره من المجتمعات العربية، وتنوّع ثقافي منفتح على الشرق والغرب معاً، وتاريخ ثقافي مستنير، ولو بمقدار، يمتد وراء إلى القرن التاسع عشر. تختصر هذه الأسباب في عاملين أساسيين: استمرارية الفضاء السياسي، على رغم إعاقات مستمرة، والصحافة المتنوّعة، التي تتكشّف فيها السياسة والكتابة معاً. وسواء كان هذا التوصيف دقيقاً، أو مجزوءاً في دقته، أفضى «الحراك الاجتماعي التراجيدي» في لبنان، إلى مجاز كتابي جديد، ساءل أسباب الحرب بلا رقابة، وندّد باضطراب قيمي حوّل السياسة إلى تجارة والتجارة إلى سياسة.

قام الروائي العربي، وهو يرصد الوقائع العربية من «نهضة مصر» عام 1919 إلى «التحالف الدولي ضد العراق»، بدور المؤرخ الذي سجّل مسار الهزائم القومية مرتكناً إلى تحوّلات الإنسان العربي في حياته اليومية، محدثاً عن: السجين والمغترب والمتداعي والمهزوم الذي أرهقه تراكم الهزائم. حقّق الروائي دوره كمؤرخ انطلاقاً من مقولتين لهما شكل البداهة: فالرواية، نظرياً، تبدأ بالإنسان المغترب وتنتهي به، ذلك أنّها تتطلع دائماً إلى «مدينة فاضلة» منشودة، وتواجه ما ينقض هذه المدينة ويقوّض أسسها. وهذا الاغتراب المتجدد، وهنا المقولة الثانية، هو الذي فرض «الهوية الوطنية» علاقة داخلية في الكتابة الروائية، وأجبرها على حوار مستمر مع «التاريخ الوطني»، الذي أنتج هوية معوّقة. رجع الروائيون العرب، بعد هزيمة حزيران، إلى أزمنة بعيدة، اشتملت سقوط الأندلس والاحتلال الإنكليزي للعراق وثورة عرابي وبدايات ظهور الثورة النفطية. مع ذلك، فإنّ وَضْع الروائي - المؤرخ لم يصدر فقط عن خصائص الرواية، التي تدور حول الاغتراب الإنساني في أسبابه المختلفة، فهناك «المؤرخ المهني» المقموع، الذي تملي عليه السلطات أن يكتب «تاريخاً رسمياً» لا علاقة له بالوقائع الفعلية.

إذا كانت الرقابة السلطوية تحوّل العلم التاريخي إلى علم زائف، يقول ما تقوله السلطة ويصمت عمّا يقول الواقع، فإنّ الرواية، التي تمزج بين الواقع والخيال، هي الوثيقة العربية الأساسية التي أعطت، ولا تزال، معرفة موضوعية.

فهذه الرواية، كما أشرنا، واكبت قرناً من الزمن، مبرهنة، في أطوارها المختلفة، عن موضوعية ما سجّلته وعن صحة ما توقّعته. أنجزت الرواية العربية «أرشيفها القومي الطويل» من وجهة نظر الإنسان العادي وأدرجت فيه «مدينة فاضلة» بعيدة ومحتملة: بعيدة بسبب سلطات تغتال الصواب، ومحتملة لأنّ المغترب يتطلّع إلى عالم عادل يشعره بإنسانيته وكرامته. تكون الرواية العربية، والحال هذه، ذاكرة قومية، تتحدّث باسم الشعوب العربية بلغة عربية، و «ذاكرة المقموعين» العرب، الذين واجهوا، ولا يزالون، استبداداً متعدّد الجهات.

فيصل دراج

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...