الحلقة العاشرة من كتاب"عشرة أعوام مع حافظ الأسـد" دبلوماسية النساء التي أحدثتها أولبرايت

28-12-2018

الحلقة العاشرة من كتاب"عشرة أعوام مع حافظ الأسـد" دبلوماسية النساء التي أحدثتها أولبرايت

دبلوماسية الصحف .. الجزء الثالث 


حين انتهت رياضة السير, بدأت أولبرايت اجتماعها الأول بالشرع, في الوقت الذي عقد كلينتون فيه اجتماعاً مع باراك. و أذكر أن فاروق الشرع كان مرتاحاً لطريقة سير الأمور, و هذا أعطى ثقة لأعضاء وفد السلام السوري باحتمال رؤية ضوء في نهاية النفق الطويل. و أثناء الساعات الأولى من المباحثات, تكلم الرئيس كلينتون هاتفياً مع الرئيس الأسد ليطلعه على التطورات. و وافق الأسد على قيام فريق من الخبراء الأمريكيين يرافقهم أحد الحاخامات بإخراج جثث من أربعة قبور في مقبرة في دمشق يعتقد الإسرائيليون أنها بقايا أربعة جنود إسرائيليين قُتلوا في معركة مع الفلسطينيين في وادي البقاع في لبنان عام 1982. و من الواجب هنا الإشارة إلى هذه اللفتة الإنسانية لم تُذكَر قط في وسائل الإعلام الأمريكية و الإسرائيلية.


و بالعودة إلى شبردستاون, فقد عُيّن اللواء إبراهيم العمر ممثلاً في اجتماعات الحدود و الأمن, و عُيّن الدكتور رياض الداودي, المستشار القانوني لوزارة الخارجية لرئاسة المجموعة السورية التي تبحث في القضايا المتعلقة بالمياه مع إسرائيل. و عين السفير المعلم في " لجنة تطبيق العلاقات الطبيعية ". و كان نظير اللواء العمر في الاجتماع الأمني شلومو ياناي, رئيس التخطيط للجيش الإسرائيلي, كما كان يوري ساغوي نظيره في الاجتماع الخاص بالحدود. و أراد باراك أن تجتمع لجنة الأمن قبل لجنة رسم الحدود, ليبيّن للشعب الإسرائيلي أنه يضع أمن إسرائيل قبل حدود سورية و احتياجاتها المائية. و قال للرئيس كلينتون: " ليس لديّ سوى فرصة واحدة فقط, و لا أستطيع تحمّل نتيجة ارتكاب غلطة واحدة ". و قال إن وقتاً أطول مما ينبغي ضاع في قضية الحدود و نحتاج إلى التوصل |إلى توازن في القضايا المتعلقة بالسلام.


و عقدت لجنة الأمن اجتماعها الأول في 5 كانون الثاني 2000. اقترح ياناي مناطق أمنية, أي مناطق تنفصل فيها القوات, و تكون أسلحتها محدودة, و هو اقتراح سبق أن سمعناه من عدة مبعوثين أمريكيين. و أضاف أن هذه المناطق ستكون أقرب من حيث المساحة إلى ما يفكر الإسرائيليون مما كانت سورية تطالب به منذ عام 1994. و اقترح تغيير النبسة الأصلية التي وافق عليها العماد حكمت الشهابي في بلير هاوس من 6:10 إلى 5:10, ما يعني أن مساحة المناطق على الجانب السوري ستكون ضعف مساحة المناطق على الجانب الإسرائيلي. لكننا ذكّرنا ياناي أن دمشق لا تبعد أكثر من ستين كيلومتراً عن حدود الرابع من حزيران 1967. و لم يشر الموقف الإسرائيلي إلى مدى الانسحاب, بل ذكر فقط: " و تحتاج الحدود إلى اتفاق متبادل عليها ". وافق اللواء العمر على اقتراح إسرائيل بخصوص " المراقبة الواسعة و االنشطة و السلبية " مع استعمال آلات تصوير في قواعد مختلفة.


لكن العقبة الأولى كانت طلب باراك أن أي التزام بوديعة رابين يجب أن يصاحبه دعم سوري لماحثات السلام اللبنانية - الإسرائيلية. و هبّت أولبرايت لنجدته, زاعمة أن المسار اللبناني " مسار يتيم " ُهمل مدة طويلة لمصلحة مساري السلام السوري - الإسرائيلي و الفلسطيني - الإسرائيلي. و بعد بحث المسألة هاتفياً مع الرئيس الأسد, أرسل الشرع كلمة إلى المجتمعين تقول إنه إذا أُريد لأي تقدم أن يحدث في شبردستاون, فستُجرى المحادثات اللبنانية - الإسرائيلية في مرحلة لاحقة.


في الجولة الأولى من المباحثات, لم يتحقق شيء بين فريقنا و الإسرائيليين, الأمر الذي ذكّرنا بالتصلب الذي سبق أن شهدناه في مدريد عام 1991 من جانب موشي بن أهارون, مبعوث إسحاق شامير. و بدا أنّ ثماني سنوات من المحادثات ستذهب هباء, إلى أن طلع علينا الأمريكيون بما زعموا أنه " حل خلاق " لردم الهوة بين سورية و إسرائيل. كان باراك يسير في دوائر, محاولاً أن يقول لنا إن من الواضح أن وديعة رابين لن تكون وديعة باراك. كان أحد تعليقاته, على سبيل المثال, حول " كنيس قديم " في الجولان, و هو, بحسب إدعائهِ, أحد الأسباب التي تجعل الإسرائيليين يستصعبون الانسحاب من المنطقة التي احتلوها عام 1967. أجاب الشرع بهدوء أنّ هناك أكثر من كنيس قديم في دمشق أيضاً, و تساءل ساخراً إن كان ذلك يخوّل الإسرائيليين أن يسيطروا على دمشق. تراجع باراك عندئذٍ, و أخبرنا - و كأننا لا نعلم - مدى أهمية سورية للديانات التوحيدية الثلاث كلها, و دخل في تاريخ طويل و ممل عن الأديان. ثم أضاف: " أرجو ألا يظهر دين جديد على سطح الأرض, لأنه إذا ظهر, فسيأتي إلى سورية أولاً ". و كان أبرز تصريح صدر في اليوم الأول هو قول أولبرايت التالي: " لولا الثقة القائمة بين الرئيسين كلينتون و الأسد, لما حدث هذا أبداً ". و أذكر أن المزاج التفاوضي في ذلك اليوم كان تماماً مثل درجة الحرارة في الغرفة, التي كان التحكّم فيها معدوماً.


فقد كان أن يغمى علينا بسبب الحراة, التي تحوّلت إلى البرودة - برودة قارسة - حين قام الأمريكيون بتعديل مستوى التدفئة بناءً على طلبنا.(1)


دبلوماسية الصحف .. الجزء الأخير 


قال الرئيس كلينتون - ذو الرؤية الثاقبة دوماً - يخاطبنا:" يجب على كل واحد منا أن يجلس و يسند ظهره إلى الخلف, و يسأل كيف يريد أن تكون الأمور بعد خمس سنوات من الآن, كيف تريدون أن يكون شكل المستقبل لكم و لدولتيكم؟ و مع أنني رئيس الولايات المتحدة, فأنا أسأل نفسي يومياً: أين أريد أن أكون بعد خمس سنوات من الآن؟ و أنا اليوم أطرح هذا السؤال عليكم جميعاً ". ثم نظر في أرجاء الغرفة إلى كل واحد منا, و قال: بالطريقة الأمريكية التقليدية البعيدة عن الرسمية: " إذا استمررتم يا جماعه بالحديث أكثر, أنا واثق من أنكم ستتفقون أكثر! ". اقترح دنيس روس أن يكتب الوفد الأمريكي مسّودة ورقة عمل تبيّن بالخطوط العريضة الموقف التفاوضي الفعلي, و ليس الرسمي, لكل طرف, بحسب فهم الأمريكيين لذلك الموقف. و أضاف أنها لن تكون ورقة ملزمة تقيد أياً من الطرفين بأي موقف. و قد أشركو باراك في مسودتهم, و كان يهز رأسه بالموافقة, ثم ذكروا الفكرة لزميلنا رياض الداودي, من دون إطلاعه على المسوّدة الفعلية.


و بعدئذٍ قررت مادلين أولبرايت و دنيس روس الجلوس مع الشرع و معي في يوم 6 كانون الثاني لشرح استراتيجيتهما الجديدة. كانت في الغرفة سبورة بيضاء رسم روس عليها عمودين, و كتب موقف سورية من السلام في أحدهما, و موقف إسرائيل في العمود الآخر. و في ما يخصّ الحدود, قال إن موقف إسرائيل هو " الانسحاب الكامل من الجولان, باستثناء شريط ضيق على الجانب الشمالي من بحيرة طبرية, و شريط ضيق صغير على طول المنطقة المحاذية لنهر الأردن فوق البحيرة ". ذكّرناه أن موقف سورية هو الانسحاب الكامل: نقطة! و نحن لم نقبل أي شيء يقلُّ عن ذلك في أي من المباحثات منذ عام 1991.


أمّا في موضوع الأمن, فقد أراد الإسرائيليون حضوراً محدوداً في محطة الإنذار المبكر على جبل الشيخ مدةً محددة بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجولان. و أرادوا أيضاً ثلاث مناطق منزوعة السلاح أو فيها انتشار محدود للقوات, و هي مناطق للقوات السورية تمتد " على الأقل " حتى دمشق, لكن أسرائيل لن تقبل بمناطق منزوعة السلاح على جانبها من الحدود. قلنا إن سورية ستقبل بوجود دولي على جبل الشيخ مدة خمس سنوات بعد الانسحاب, لكن لن تقبل يوجود إسرائيلي.


و في ما يتعلق بالسلام الفعلي, أراد الإسرائيليون إقامة علاقات دبلوماسية كاملة يتم تطبيقها مع المرحلة الأولى من انسحابهم من الجولان. لكننا أكدنا أنه لن تُفتَح أية سفارة قبل أن تعود الجولان, كاملة, إلى أصحابها الشرعيين. و أرادت إسرائيل ثلاث سنوات لإتمام إنسحابها, لكننا قلنا إن الانسحاب يجب أن يكتمل خلال ثمانية عشر شهراً. و في ما يخصّ موضوع السيادة على بحيرة طبرية, ذكر روس, بعد سنوات عديدة, أن الشرع أخبره بما يلي:

" ستكون للإسرائيليين السيادة على البحيرة, و ستكون لسوريين السيادة على البحيرة, على الأقل كل الأرض الواقعة شرق الكيلومتلاات العشرة المحاذية للشاطئ ". و هذا بالطبع غير صحيح, فالسوريون لم يقرّوا أبداً بسيادة مقسّمة على البحيرة, كما سأبيّن في وصفي آخر اجتماع قمة بين الأسد و كلينتون في جنيڤ, الذي سأبحثه في الفصل الحادي عشر.


لقد كنتُ حاضرة في الاجتماع, و مع أنه لا يوجد أي محضر لهذا اللقاء بالذات, إلا أنه يمكنني أن أؤكد للقراء أن وزير الخارجية لم يتحدث عن سيادة" مشتركة " على البحيرة أبداً. لقد أثار هذا التصريح الوحيد المفترض نقاشاً كثيراً, إذ إن الأمريكيين استخدموه مع باراك, و قالوا له إن " الموقف السوري قد لان ". لكن وزير الخارجية الشرع نفى بشدة أن يكون قد صرّح بقول مثل هذا على الإطلاق. و على نقيض ذلك, كان دأبهُ الدائب أن يقول لياسر عرفات إنّ الأوروبيين حين رسموا حدود عام 1923, أُدخلت بحيرة طبرية ضمن ما عُرف بفلسطين الخاضعة للانتداب. و كان يقول له:" سنستعيدها, ثم نقرر من له حق الوصول إلى منطقة البحيرة, و من له حق الوصول إلى مياهها, سورية أو فلسطين. هذه مسألة داخلية سنقررها بصفتنا فلسطينيين و سوريين. و المؤكد هو أنها لم تكن أبداً ملكاً لإسرائيل " .(2)


دبلوماسية النساء التي أحدثتها أولبرايت .. الجزء الأول 


كانت مادلين أولبرايت لاعبة أساسية في محادثات شبردستاون. و قد تركت لدينا انطباعاً قوياً حين قابلناها أول مرة في عام 1997, و كان هذا التأثير متبادلاً. و كتبت بعد ست سنوات: " كنت مصمّمة على ترك انطباع قوي عند وصولي إلى قصر الأسد ".

و تذكر كيف أنها فوجئت بأعداد صحون الأقمار الصناعية على سطوح البيوت في دمشق, الأمر الذي يعني أن الشعب السوري منفتح على العالم الخارجي, و بكمية الرخام في قصر الشعب المطل على العاصمة السورية: " الرخام أكثر مما تستطيع أن تتخيل, و بالطبع السجاد بديع في ذلك الجزء من العالم. كانت هناك سلالم ملتوية, و يمكنك استحضار صورة لجيمس بوند يخرج من الجانب الأيمن تلاحقه سيوف معقوفة. استقبلني الأسد قي غرفة ضخمة أثاثها متناثر, و فيها أرائك و وسائد و كرسيان خشبيان حُفرت عليهما الزخارف. و قبل أن نجلس فتح الستائر ليكشف عم منظر رائع لعاصمته, التي هي واحدة من أقدم مدن العالم ".

و أثناء ذلك الاجتماع, تكلم الأسد عن ضرورة دعم وديعة رابين, قائلاً لأولبرايت: " لا أستطيع القبول بأي شيء أقل من ذلك. إن فعلت, فالشخص الذي قدم القهوة لنا الآن قد يغتالني, و سيفعل ".

بعد عامين, كان الأسد لا يزال متمسكاً بالموقف ذاته تماماً, و لم يكن أحد يعرف أكثر من أولبرايت نفسها. و قد اقترحت عليّ أثناء محادثات شبردستاون إجراء حديث خاص بيني و بينها, أُطلق عليه في ما بعد تسمية " دبلوماسية النساء ". فقد اقتربت أولبرايت مني وسألت بأدب شديد:"هل يمكن أن نجتمع معاً لنجري شيئاً من الحديث النسائي؟ ".أومأت برأسي موافقة و مدركة أن لديها حتماً شيئاً مهماً تريد قوله. و كنت أشعر بالاحترام لوزيرة الخارجية, لأنها إمرأة جادة مخلصة في عملها, و لديها بصيرة نافذة و شخصية مميزة.

كانت هكذا نظرتي إليها في ذلك الحين على الأقل, مع أن تلك النظرة تغيّرت حين التقينا مرة ثانية في جنيف بعد شهرين. لقد بدت لي, بناء على ما شاهدته منها في اجتماعاتنا الأربعة السابقة, إمرأة ترفض أن تخضع لأوامر الرجال, و شخصية تضطلع بعملها بجدٍّ بالغ. و أذكر أنها أثناء لقائنا الأول في دمشق, كانت ترتدي ملابس خضراء اللون, و وقفت عند بوابة مكتب الأسد في القصر, و هي تحمل حقيبة أوراق من النوع الذي يحمله الموظفون و رجال الأعمال بدلاً من حقيبة نسائية. و قررتُ وجوب أن أتذكّر أن هذه " فكرة جيدة: يجب أن نحمل حقائب أوراق, تماماً كما يفعل الرجال, لا حقائب نسائية من تصميم مصممين عالميين, كما تفعل النساء عادةً ". و أثناء الاجتماع, قالت للرئيس الأسد: " يعجبني أن أرى أن لديكم مستشارة أنثى, يا سيادة الرئيس ". ابتسم الرئيس, و أخبرها أن النساء شغلن مناصب حكومية في سورية منذ عام 1970 بفضل الكفاح الطويل لتحرر المرأة الذي استمر مدى القرن العشرين. و لا حاجة إلى القول إن ذلك الموضوع كان محبباً جداً إلى قلبي شخصياً.

بيّن الأسد أن خمسينات القرن العشرين كانت سنوات متقدة بالحماسة للوحدة العربية, و كان لها تأثير هائل في المرأة في الشرق الأوسط. و كان الأسد, منذ لقائه الأول مع هنري كيسنجر في السبعينيات, يجب أن يُحدّث المبعوثين الأمريكيين - و لا سيَّما الأساتذة الجامعيين, مثل كيسنجر و أولبرايت - عن تاريخ سورية. كان الحزب الشيوعي و حزب البعث يجذبان النساء السوريات بقوة لأنهما كسرا القيود الاجتماعية - الدينية على اللواتي كُنَّ ينضممن إلى عضويتهما. و كانت غالبية النساء من حملة الشهادات الجامعية, و كنّ يجدن التشجيع على نزع الحجاب و العمل خارج المنزل و تحرير أنفسهن, نفسياً و اقتصادياً, من سيطرة الرجال. و حدّث الأسد أولبرايت قائلاً: " لقد كنت أبذل جهداً من أجل تمكين النساء و تحطيم السقف الزجاجي الذي كان يحدّ من قدرتهن على الحركة المهنية و الاجتماعية, و كنت دائماً أُجابه المتشدّدين في حزبي الذين كانوا يرفضون إعطاء النساء دورهن الطبيعي هذا. إنهم يحبون رؤيتهن في المنازل و إبقاءهن هناك, و لا يزالون يشعرون بالتهديد من وجودهن في القوة العاملة السورية " .

ليس هناك أي شك في أنني طربت لسماع هذا, و هو يصدر عن رجل لديه من الكرامة و الحصافة ما يكفي لانتقاد الحزب الذي يرأسه, لأن بعض أعضائه لا يزالون يعملون بعقلية العصور الوسطى حين يتعلق الأمر بحقوق المرأة.(3)

دبلوماسية النساء التي أحدثتها أولبرايت .. الجزء الثاني 


قد وصفني روس في مذكّراته :من المؤكد أن بثينة كانت إمرأة غير عادية, فقد كتبت كتباً عن دور النساء في المجتمعات الإسلامية. و كانت تنتقد بشدة الأنظمة الإسلامية التي تكبت المرأة. و قد أهّلتها دراستها لأن تكون أكاديمية, و حصلت على منحة زمالة لدراسات ما بعد الدكتوراه من جامعة ميشيغن. و منذ أن أصبحت مترجمة الأسد أخذت ثقتها بنفسها تتزايد في حضوره كما يبدو. و بحسب قول جمال ( هلال ), هي مترجمة خبيرة, لكننها تتصرف في ترجمتها. فبينما كانت دقيقة في نقل كلمات الأسد, كانت تضمّن ترجمتها لما نقوله له تعليقات من عندها. و لو كانت لديها أية شكوك في موقعها, لما تجرأت على إعطاء نفسها حرية التصرف هذه. و إضافة إلى ذلك, حين أخذت صحة الأسد تتدهور, كانت تعبّر عن أفكاره حين يجد صعوبة في التعبير هو عنها بنفسه في محادثاته الهاتفية مع الرئيس كلينتون. أعتقد أنها أًصبحت إلى حدٍّ ما عينين إضافيتين للأسد و أذنين أيضاً.

كنتُ معجباً ببثينة, و أجريت أحاديث جانبية معها. فهي ذكية جداً, و محادثتها سهلة, و تصّرح دائماً بالتزامها بالسلام و برغبتها في تحقيقه. لكن لم تكن لدّي أوهام عنها: كانت ولاءاتها للنظام و قائده. و هي لا تكشف أي شيء لا يريد رئيسها أن يُكشف. و لم تكن في رأيي لتقترح أية مواقع من المرونة أو لفتح أي طريق لدفع المفاوضات إلى الأمام ما لَم تخوَّل ذلك. و لم تكن " قناة الفتيات ", كما أسمتها مادلين أولبرايت, ستعمل وسيلة لنا للتأثير في الموقف السوري, بل أعتقد أنها بدلاً من ذلك, كانت قناة للسوريين للتأثير فينا ".


حين جلسنا لنتبادل حديثنا الانفرادي, بدأت أولبرايت المحادثة بالقول: " بثينة, نحن في ورطة, و أنا بحاجة إلى مساعدتك ". جلستُ أقلب الأفكار عمّا يحتاجه دفع العملية إلى الأمام, مستفيدة من إصرار الرئيس كلينتون على تحقيق اختراق على المسار السوري - الإسرائيلي قبل انتهاء ولايته في عام 2000.


قالت أولبرايت: " حين توليتُ منصب وزيرة الخارجية, قالوا لي إنني سأعاني صعوبة في التعامل مع الشرق الأوسط, لكنه المكان الذي يسحرني أكثر من أي مكان آخر. لقد تعرّضت صورة العرب و المسلمين لتشويه هائل في الولايات المتحدة, و هي بحاجة إلى تصحيح ". و اقترحت أن نعمل في جهد أكاديمي مشترك لإنجاز ذلك, و أومأت برأسي موافقة على هذا الاقتراح: " يقول الناس إننا نهتم بإسرائيل أكثر مما ينبغي, لكن ذلك غير صحيح ". غير أن ما قالته آنذاك لم يكن صحيحاً أيضاً. و ما من أحد تحدّى ذلك القول أفضل مما فعلت أولبرايت نفسها حين كتبت مذكّراتها " السيدة الوزيرة ", التي نُشرت عام 2003, و قالت فيها: " كنت دائماً أؤمن أن إسرائيل هي حليفة أمريكا الخاصة, و أن علينا أن نقوم بكل ما بوسعنا لضمان أمنها " . و أضافت أن الأمريكيين قاموا أثناء حرب عام 1967, بمساعدة إسرائيل على الحفاظ على التفوق العسكري الإقليمي كي لا يستطيع أعداؤها تدميرها ".


و بعد حديث قصير عن قضايا المرأة و السياسة في الشرق الأوسط عموماً, طرقت أولبرايت لبّ الموضوع, قائلة إن الولايات المتحدة تريد أن تعرف إن كان فاروق الشرع يتمتع بصلاحية التفاوض, و ذلك بعد أن أشارت إلى إصابته بنوبة قلبية في خريف 1999؟ قلتُ لها إن الرئيس الأسد يثق ثقة كاملة بوزير خارجيته, و إ، الوزير يعرف كل ما ينبغي معرفته عن موقف سورية, باعتباره قاد المفاوضات منذ عام 1991, و كان حاضراً تقريباً في كل جلسة من محادثات الرئيس الأسد مع المبعوثين الأمريكيين. كان من الواضح أن الوفد الأمريكي يريد استغلال مرض وزير الخارجية لتجاوزه و فتح قناة مباشرة مع الرئيس الأسد, و ذلك عن طريقي, كما افترضتُ, مع أن وزير الخارجية كان قد تعافى تماماً من وعكته الصحية.


قلتُ لأولبرايت بحزمٍ شديد:


" لا تقللوا من شأن الشرع, فهو يتمتع بأهمية كبيرة لدى الرئيس الأسد. حاولوا بدلاً من ذلك تقوية مركزه بإعطائه شيئاً يؤدي إلى اختراق ". و أكدتُ وجوب حصوله على شيء مثل حدود الرابع من حزيران 1967. إذا أريد لمحادثات شبردستاون أن تنجح.


و سألتُ أولبرايت: هل كان بوسع الولايات المتحدة أن تذكر خطياً أن الرئيس كلينتون تحدّث مع باراك عن وديعة رابين, و أنه إذا أُريد لأي شيء أن يتحقق, فمن الضروري دعم الوديعة؟ أعجبتها الفكرة, و قالت إنها ستنقلها إلى زملائها, و إلى الرئيس. و علق روس في ما بعد: " لم يكن هذا طلباً غير معقول ".


و أضفتُ أن مواقف باراك تسبّب مشاكل لسورية. و كان الأمريكيون مقتنعين بأنني كنت صادقة, و أتكلم على أفضل ما يخدم مصلحة عملية السلام بوجه عام. و قد قالت لي أولبرايت خلال لقائها: " حين لا نكون في اجتماع رسمي, أرجو أن تشعري أن بإمكانك مخاطبتي باسمي الأول مادلين ". ولكن, مع أنها تخصص في مذكّراتها اثنتي عشرة صفحة للمحادثات السورية - الإسرائيلية, فهي لا تورد أي ذكر لـ " قناة الفتيات ", و تتصرف و كأنها لم تعرفني قط.(4)

دبلوماسية النساء التي أحدثتها أولبرايت .. الجزء الثالث


حين أنهينا محادثتنا, توجهتُ على الفور إلى وزير الخارجية لأطلعه على لقائي مع أولبرايت. و قد أبدى دهشته من استعمالها كلمة " ورطة " حين الإشارة إلى الموقف الأمريكي, و كان من الواضح أنه شعر بالقلق من محاولتها استخدامي لفتح قناة مباشرة مع الرئيس. و بالعودة إلى الماضي, يدهشني أن أولبرايت قالت أنها ذهبت إلى شبردستاون بغرض العثور على " تعريف مشترك " للمعنى الفعلي لعبارة " إعادة هضبة الجولان ". و في مذكّراتها تعترف أولبرايت, المناقضة نفسها دائماً, أن الأسد " أراد إستعادة الجولان بالشروط الصحيحة ". و أضافت أن " الأرض قضية شرف " لحافظ الأسد. و زادت على ذلك قولها إن المسألة المركزية هي " أين كانت الحدود؟ أين كان الخط الموجود قبل حرب حزيران 1967 " .


في النهاية توصلنا, وزير الخارجية الشرع و أنا, إلى قناعة بأن أولبرايت تعرف تماماً أين يقع الخط, بعد أن سمعت موقعه مرات لا تنتهي من كلينا, و كذلك من الرئيس الأسد: فهو يمتد إلى الضفة الشرقية من بحيرة طبرية, و كذلك إلى نهر الأردن.و في ما يخصّ الوفد السوري, كان ذلك الجزء من المحادثات غير قابل ااتفاوض فيه. لكن مارتن إنديك روى قصة مغايرة, مدّعياً أن الشرع قال له: " إن السيادة على البحيرة لإسرائيل, و السيادة على الأرض لنا ". و أضاف إنديك: " و كرّر ( أي الشرع ) أيضاً أنّ خط الحدود على الخط الساحلي الشمالي الشرقي مماثل لما هو عليه في الحدود الدولية عام 1923 ( التي لم تعترف سورية بها قط و اعتبرتها حدوداً استعمارية ). و هذا يعني أن سورية ستكون بعيدة عشرة كيلومترات على الأقل عن الخط الساحلي ".


رحّب الرئيس كلينتون باقتراحي و أعطى تعليمات لمساعديه للبدء في إعداد الرسالة. و لكن قبل أن يطلعنا كلينتون على هذه الوثيقة, شعر بالحاجة إلى إطلاع باراك عليها أولاً. و بحسب قول روس, حين قابلوا باراك, " أثارت هذه القناة فضوله, و وافق على أن تقديم الرسالة إلى الشرع فكرة جيدة ". و لكن حين قرأ باراك الرسالة, اعترض فوراً على الصياغة. فقد كان النص في الأصل: " أخبرني باراك أنه لن يسحب وديعة رابين ". و نصّت الصياغة الجديدة التي كُتِبت بناء على طلب باراك على أن " ما فهمه الرئيس هو أن باراك لا ينوي سحب وديعة رابين ". و المقصود أن ينطوي هذا بالطبع على أن كلينتون حُرٌ في أن يعتقد ما يريد, و أن الشخص الذي سيقرر, في نهاية المطاف, هو إيهود باراك.


في ذلك المساء, قابل الشرع كلينتون, الذي أحضر الرسالة معه. تكلم الرئيس الأمريكي بإيجاز على محتوى السالة, ثم قدمها إلى الشرع, الذي قرأها بإمعان, ثم رفع رأسهُ و وصفها بأنها " مهمة و جيدة جداً ". و قد علقت أولبرايت على المزاج النفسي في شبردستاون ذاك المساء, قائلة: " وافق السوريون على بدء المحادثات و الاكتفاء بالتزام غير مباشر من باراك بهذه النقطة, لكنهم توقعوا موقفاً صريحاً فور بدء المحادثات. و نحن أيضاً توقعنا هذا. لكن بدلا من ذلك, تراجع باراك ".


وجدنا على الفور أن باراك يشعر بالرعب من فكرة التخلي عن الجولان, مدّعياً أولا أن جيلاً كاملاً من الإسرائيليين نشأ و هو " يعتقد أن مرتفعات الجولان أساسية للدفاع عن إسرائيل ". كما أن هناك, ثانياُ, سبعة ألف مستوطن إسرائيلي في الجولان شعر باراك أنه لا يصح إغضابهم, و إلا فسيصوّتون ضده و يحرمونه منصبه. وثالثاً, هاجر حديثاً أكثر من مليون يهودي روسي إلى إسرائيل من الاتحاد السوفياتي السابق, و شعر باراك أن عليه الاحتفاظ بمزيد من الأرض لإسكانهم. و رابعاً, كان المتشدّدون في إسرائيل, مثل حزب شاس و زعيم الليكود آرييل شارون, قد بدأوا بالفعل ينتقدونه لذهابه إلى شبردستاون. و في الواقع, اتهمه شارون قبل مدة قصيرة بـ " الاستسلام الكامل " لجلوسه لإجراء محادثات مع وزير الخارجية الشرع. لذلك, حين تلقى باراك اقتراح كلينتون في شبردستاون, طلب بضعة أيام لدراسة الورقة. وافق الرئيس, لكن ذكّره أن اتفاقيات السلام نصف المكتملة " تفسد كالموز, و لا تتحسن بمرور الزمن كالجبن ".(5)


دبلوماسية النساء التي أحدثتها أولبرايت .. الجزء الأخير 


تزعم مادلين أولبرايت في مذكّراتها أن كلا من السوريين و الإسرائيليين اعتقدوا صادقين أن شبردستاون ستحدث اختراقاً. و قالت إن كلا الطرفين شعر أن الرئيس كلينتون سيتدخل في آخر لحظة لردم الهوة في المواضيع الجوهرية التي لم تصل إلى حلّ: " و لم أكن أشك في مهارات الرئيس, لكن لم يكن بإمكاني أن أرى كيف يمكن حتى لشخص مثله أن يقوم بألعاب سحرية ".
كم هي محقة. ففي نهاية المطاف, لم يكن كلينتون يستطيع المناورة إلا إذا سلّحه الإسرائيليون بشيء ملموس. و برغم حسن نياته, كان عاجزاً عن تقديم أكثر مما كان الإسرائيليون يريدون إعطاءه. و حين التفكير في الماضي, و بعد حوالي أربعة عشر عاماً, يمكنني أن أقول, و أنا واثقة, إن إسرائيل لم تكن مستعدة لإعطاء أي شيء في شبردستاون. و بنظرة استرجاعية, يمكنني من خلال خبرتي أن أضيف أنه ما كان ينبغي لنا أن نفاجأ بموقف باراك في غرب فرجينيا في ذلك الشتاء. فالتصرف المألوف من جانب الإسرائيلين هو التراجع عن أي اختراق في اللحظة الأخيرة تماماً. و قد فعلوا ذلك عام 1991 في عهد شامير, و أعادوا الكرة بعد إعداد وديعة رابين عام 1995. و هذه المرة, اختفى باراك ببساطة بعد تسليم رسالة كلينتون. و توقفنا عن سماع أي شيء منه في شبردستاون, و بناء على طلب أولبرايت انتهت المحادثات من دون بيان صحفي مشترك.


لا تزال هناك ضرورة لذكر حادثة معيَّنة, أثارت في ذلك الوقت الكثير من الجدل, و ألقى الإسرائيليون اللوم علينا لانهيار المفاوضات. فقد ظهر في صحيفة الحياة اللندنية يظهر الخطوط العريضة لمسوَّدة ورقة السلام التي أعدّتها الولايات المتحدة, و حمل المقال توقيع مراسل الجريدة في دمشق, إبراهيم حميدي. صاح الإسرائيليون أن هذا سلوك غير أخلاقي, مدّعين أن سورية سرّبت الخبر عن طريق حميدي, و هو صحفي سوري كان موجوداً في شبردستاون. و قد نفى حميدي وجود أي تسريب, مبيناً أن الخبر في الحياة هو تصوره الخاص لمسوَّدة الوثيقة الأمريكية, و ليس ما هي فعلاً.


و ينبغي القول إن تلك المقالة ركّزت على طلب الأسد الانسحاب الكامل من الجولان. و في 13 كانون الثاني نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية النصّ الكامل للمسودة التي قدمها كلينتون للشرع و باراك في 7 كانون الثاني, و معها تقرير يزعم أن فاروق الشرع قدم لإسرائيل تنازلات أكثر مما قُدِّم في أية نقطة سابقة أثناء المحادثات السورية - الإسرائيلية. و ليس من المستغرب أن التقرير المنشور في هآرتس لم يذكر شيئاً عن الانسحاب من الجولان, و من غير المستغرب أيضاً أن استطلاعات الرأي العام في إسرائيل أشارت إلى أن 73 بالمئة من الناخبين اليهود الروس, و 63 بالمئة من ناخبي حزب شاس, يعارضون تخلي إسرائيل عن الجولان. و هذا ينسجم جيداً مع خبر على الصفحة الأولى من هآرتس يقول أن باراك لن يتخلى عن الجولان قط.


و قد كُشِفَ في ما بعد أن الشخص الذي سرَّب الخبر إلى هآرتس هو نمرود نوفيك, الذي كان مستشاراً لشمعون بيريز في الشؤون الخارجية في الثمانينيات.


و بحسب قول باراك, تلقى نوفيك نسخة من المسودة من عضو في الفريق الأمريكي, و هو آرون ميلر, نائب دنيس روس.
و على الفور نأينا بأنفسنا عن كلتا المقالتين, مبيّنين أنه لم يحدث أي تسريب من قبل الوفد السوري, و أن المقالتين افتقرتا إلى الدقة في عرضهما موقِفَ سورية التفاوضي الكامل من شبردستاون. غيرَ أن التسريبات و الضغوط المحلية المتشددة داخل سورية, أدت إلى إلغاء الجولة الثانية من المباحثات, و وصلت محادثات شبردستاون إلى نهاية مفاجئة. و قد مانع الرئيس الأسد في البداية في تلقي مكالمة من الرئيس كلينتون, إذ إنّ التجربة المريرة في شبردستاون بأكملها أزعجته, و لكنهُ قَبِلَ المكالمة في ما بعد في 18 كانون الثاني.


و قد غادر باراك غرب فرجينيا مدّعياً أنه باعتباره رئيس وزراء إسرائيل المنتخب حديثاً لا يستطيع أن يبقى خارج البلاد أكثر من أسبوع. و غضب كلينتون منه غضباً شديداً كما هو معروف. و قبل أن يغادر الإسرائيليون شبردستاون, قال كلينتون لرئيس الوزراء الإسرائيلي:
" لقد كسبتَ من هذه الجولة, و لكن جولة آخرى من هذا النوع ستكون كارثة فادحة لك و لي! " .(6)





1 - من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990 - 2000 / ص 248
2 - من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990 - 2000 / ص 250
3- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990 - 2000 / ص 252
4- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990 - 2000 / ص 253
5- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990 - 2000 / ص 255
6- من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ الأسـد 1990 - 2000 / ص 257






إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...