اقتصاد القمامة

30-11-2006

اقتصاد القمامة

كان الأمر أشبه باكتشاف مدهش ومؤلم حينها، حيث عرفت أن قرية (دير الحجر) الواقعة على أطراف دمشق تقتات (وهي تدخل القرن الواحد والعشرين) على ما يستخرجه أبناؤها الألف وخمسمئة من أكوام القمامة في المكبّ المجاور.
إلا أن هذا الاكتشاف أصبح من الماضي اليوم بعد نحو أربع سنوات، ليس لأنه اختفى أو زال، بل لأن قرىً أخرى وآلافاً أخرى انضمت إلى ولائم القمامة المتناثرة دون ضوابط في أنحاء مدننا ومحافظاتنا السورية!
فقد أصبح مألوفاً جداً أن ترى أطفالاً ويافعين ينبشون حاويات القمامة في أكثر شوارع العاصمة رقيّاً أو أكثرها فقراً (لا فرق)، وخاصة في تجمعات النفايات خارج المدن، دافعهم الأساس بكل تأكيد فقر أسود لم يترك لهم خياراً آخر أقلّ خطورة على حيواتهم وأكثر احتراماً لإنسانيتهم المهدورة بين أكوام القمامة، يتنافسون عليها مع الجرذان والكلاب الشاردة، لدرجة يبدون فيها وقد تماهوا مع محتويات هذه القمامة، حتى لتحسبهم جزءاً منها بألوانهم الداكنة وروائحهم التي اكتسبوها بعد عشرة العمر بينهما.
ـ الدخلاء الجدد:
الآن وبعد سنوات من تزعّمهم لممالك القمامة التي اعتادوا تقاسم غنائمها مع شركائهم التقليديين من غير البشر، جاء الوقت الذي أصبح على هؤلاء أن يقلقوا بشأن مصيرهم ومصدر رزقهم، فثمة توجّه عالمي (ليس جديداً جداً) وصل اليوم إلينا، توجّه يعبّر عنه شعار مفاده (نفايات اليوم هي خامات الغد)، ما يعني التعامل مع النفايات الصلبة (القمامة) كصناعة تدرّ أرباحاً على الحكومة، بدلاً من كونها عبئاً اقتصادياً يثقل كاهلها ويستحوذ على نسبة غير قليلة من ميزانيات البلديات ومجالس المدن.
في الواقع أسّس هذا التعامل الجديد مع النفايات لمرحلة جديدة أصبح فيها الكثير من (الدخلاء) على هذه المهنة، فتحوّل محترفوها الأوّلون إلى دخلاء ليتم التعامل اليوم مع (النبّاشين) كمشكلة تعترض معالجة النفايات الصلبة وتعيق تطبيق القواعد والتوصيات اللازمة بشأنها.
ـ رؤية وتوجّه عالميان!
يعود الفهم الجديد للتعامل مع النفايات عالمياً إلى العام 1975، حين حدّد المجلس الاستشاري في المجموعة الأوروبية الهدف الجوهري من أي نظام أو قواعد معتمدة للتخلّص من النفايات الصلبة في حماية الصحة العامة وصحة البيئة على أن يضم هذا النظام عمليات جمع النفايات ونقلها ومعالجتها وتخزينها أو التخلّص منها، كما يجب تحفيز الاستفادة قدر الإمكان من المواد الأولية الموجودة في النفايات المعالجة وذلك بهدف الحفاظ على المصادر الطبيعية للمواد الأولية.
وقد لخّص التقرير البيئي الصادر عن الحكومة الألمانية عام 1976 التعليمات السابقة بهدف الالتزام بها على المستوى الوطني كما يلي: النفايات الصلبة التي لا يمكن لأغراض تقنية واقتصادية تجنبها يجب بكل تأكيد أن تخضع لعمليات الاسترجاع والاستفادة من موادها الأولية.
وبناء على هذا الفهم يقول عادل عوض رئيس قسم الهندسة البيئية في جامعة تشرين، أصبح هناك الكثير من المنشآت المنتشرة في العديد من مدن العالم وخاصة المزدحمة والتي تستفيد من القمامة كمصدر للطاقة من خلال عمليات الحرق النظامية، علماً أن درجة الفعالية المستفادة أحياناً لا تزيد عن 40%، وهذا يعود إلى نسبة المواد القابلة للحرق في النفايات الصلبة وإلى نظام الحرق المتبع، هذا إلى جانب أنه ليس للإحراق أي مزايا واضحة بالنسبة للبيئة، بل إنه يثير في بعض الأحوال مشاكل بيئية، وحالياً ـ وبحسب عوض ـ يطبق نظام المعالجة بالتسميد كطريقة مفيدة للاستفادة من المواد والمكوّنات العضوية الموجودة بنسبة عالية في القمامة، ولكن هذه الطريقة لا تعالج ـ بحسب دراسات يؤكدها عوض ـ أكثر من 3% من النفايات المتجمّعة مقارنة بالطرق الأخرى المستخدمة كالطمر الصحي أو الحرق، حتى إنه يُعتقد بأن أكثر من ثلث منتوجات الأسمدة في ألمانيا يتم طمرها دون الاستفادة منها.
وتقدّر بعض الدراسات أن نحو 75% من النفايات المدينية في ألمانيا يتمّ التخلّص منها بطرق الطمر الصحي ونحو 85% من النفايات المدينية في الولايات المتحدة الأميركية يتمّ التخلّص منها بطرق الطمر الصحي أيضاً.
ـ خصوصية سورية:
إذا كانت الدول المتقدمة قد سبقتنا بأشواط في تطبيق النظم والقواعد المتعلقة بالنفايات الصلبة، أين وصلنا نحن من ذلك، وأي مراحل أو أشواط قطعناها على طريق التعامل الصحيح مع النفايات الصلبة، وأي عوائق تعترض تطبيقاً سليماً لهذه الأسس، خاصة أن لدينا دائماً خصوصياتنا التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند الإقدام على أي خطوة تطوير ومن أي نوع!
وقبل معرفة واقع تعاملنا مع هذا الموضوع، لا بدّ من الإشارة إلى أن معالجة النفايات الصلبة هي عبارة عن حلقة متكاملة أو شبكة تتداخل فيها العديد من الجهات، فتبدأ من المواطن الذي يُفترض به أن يكون جزءاً رئيساً لإنجاح أي عملية إدارة للنفايات الصلبة تقرّرها الحكومة أو الجهات المعنية بالأمر، كالبلديات ومديريات النظافة في المحافظات وبعض الوزارات، ومؤخراً القطاع الخاص.
وهنا سنحاول الإضاءة على تجربتين سوريتين في التعامل مع النفايات الصلبة، الأولى في محافظة حمص، والثانية في دمشق، ولكل واحدة أسباب نجاحها ومعوقاتها كما سيكون علينا الاطلاع على تجربة للقطاع الخاص الذي تنبّه إلى هذا النوع الجديد من الاستثمار، ودخله من أوسع أبوابه فماذا كانت النتيجة؟
ـ مطمر حمص.. تجربة رائدة!
يعود مطمر حمص إلى خمسين سنة خلت حين كان عبارة عن مكبّ عشوائي في منطقة دير بعلبة وتمّت إعادة تأهيله في عام 2001، وحالياً توصّل مجلس مدينة حمص إلى إجراء عمليات الطمر الصحي، وهو أول مشروع طمر صحي في سورية.
ويشرح لنا رئيس قسم النظافة في محافظة حمص حسّان درويش الآلية التي يقوم عليها المشروع فيقول: المقصود بالطمر الصحي وجود طبقات عزل مع شبكة رشاحة ومعالجتها مع بناء منظومة لمعالجة الانبعاثات الغازية.
ويقول درويش: بُوشر في المشروع سنة 2005، وفي عام 2007 سيتم بناء منظومة جمع ومعالجة الانبعاث الغازي عن طريق حرق الغازات إلكترونياً وتحويلها إلى غاز، وهذا يخفّض التلوث (بغاز الميتان) بأضعاف، اليوم يتم زرع المطمر بالأشجار والورود ليكون أقرب إلى حديقة، وتم بناء شبكة كهرباء داخل وخارج المطمر وبناء مركز إداري مع مخبر لوضع المطمر تحت المراقبة، وفعلاً أثبتت المراقبة للبئر المحفور في المطمر والمستخدم لأعمال الري أن مياهه خالية من أي تلوث.
ـ تريكالور ومخطط توجيهي:
تقوم محافظة حمص بإعداد دراسة هي في المراحل الأخيرة وذلك تبعاً لمخطط توجيهي أعدته شركة تريكالور الفرنسية، هدفه إدارة النفايات الصلبة على مستوى سورية، ويتضمن محطات المعالجة والمطامر والجمع في كل المحافظات السورية.
وبناء على هذا المخطط تحدث في كل محافظة شعب في مديريات الخدمات الفنية تتبع مباشرة للمحافظة.
وفي محافظة حمص مثلاً توجد مديرية نظافة تابعة مباشرة لمجلس المدينة مؤلفة من دائرة نظافة مسؤولة عن عمليات جمع ونقل القمامة إلى المطمر، إضافة إلى عمليات  كنس وشطف الشوارع، وتضم أيضاً دائرة الآليات وهي مسؤولة عن حركة الآليات وصيانتها وتسييرها في الأوقات المحددة لكل حي، ودائرة معالجة النفايات الصلبة المسؤولة بدورها عن أعمال المطمر وإدارة النفايات في مجلس المدينة ووضع الدراسات اللازمة لتحسين عمل المديرية.
أما الدائرة الرابعة فهي دائرة الوقاية التي تقوم برش المبيدات وغسيل وتعقيم الحاويات، تليها الدائرة الإدارية والمالية التي تنظّم أمور المديرية إدارياً ومالياً، ويُفترض بهذا التقسيم الذي وضعته تريكالور أن يحقّق نجاحاً شاملاً لإدارة النفايات منذ انطلاقتها الأولى وحتى النهائية والتقسيم المذكور معمول به اليوم في دمشق وحمص فقط.
ـ براءة اختراع (حمصية)
بما أننا ما زلنا في حمص، فحريٌّ بنا أن نتحدث عن تجربتها الخاصة في التعامل مع (النبّاشين) الذين يشكّلون اليوم عقبة على طريق تحقيق إدارة ناجحة للنفايات الصلبة تشكو منه مديريات النظافة في مختلف المحافظات.
فبالرغم من أن القانون 49 لعام 2005 كان واضحاً وحازماً فيما يتعلق بمنعه لكل عمليات النبش في كل مناطق الجمهورية، إلا أن هذه الظاهرة استفحلت ولم تستطع كل عمليات القمع منعها من الاستمرار والنمو، وحتى وزارة الداخلية التي كلفها المرسوم بمتابعة هذا الموضوع عبر دوريات الشرطة فشلت حتى الآن في إيقافه، فماذا فعلت محافظة حمص وتحديداً دائرة نظافتها لحلّه؟
يقول حسّان درويش إن الحل الذي أوجدناه ينبع أساساً من معرفتنا واعترافنا بأن من يعملون في هذه المهنة يقومون بذلك لداعي الحاجة والفقر وهم يعيلون عائلات كثيرة، وبالتالي فإن منعهم بهذه الطريقة سيخلق مشكلة أخرى أكبر من المشكلة الحالية، ولذلك ارتأينا أن عملية تنظيم عمل هؤلاء النبّاشين هي أكثر جدوى بكثير من ملاحقتهم، كأن يتم تنظيم عملهم داخل المطامر بشروط صحية مدروسة وبلباس محدّد يحميهم من أخطار النفايات الموجودة في المطامر، ويعطيهم إغراءات مالية ليصبحوا أقرب إلى الموظفين يعملون لصالح الدولة.
ويحدثنا درويش عن لجوئهم في مديرية النظافة إلى حلّ آخر لهذه المشكلة يقوم على السرعة في جمع القمامة وذلك عن طريق جمع القمامة في الأحياء، وبالتالي لم يكن للنبّاشين الزمن الكافي ليقوموا بأعمال النبش في المدينة، فصار الجمع يتم كل ساعتين بدلاً من ثماني ساعات التي كانت عليها قبلاً.
وعن تجربة القطاع الخاص في عمليات النظافة والتخلّص من النفايات في محافظة حمص يقول مدير النظافة: إن هذا القطاع يغطي اليوم نسبة 30% من مساحة المدينة، والقطاع الخاص أكثر مرونة وأكثر اقتصادية، ولكن هذا لا ينفي أن لديه مشاكل تتعلق أولاً بصعوبة تعيين الأيدي العاملة نتيجة رخص الأجور والنظرة الاجتماعية لعاملي النظافة، وعدم وجود تشريعات جدية لتنظيم العمل بين العامل ورب العمل في القطاع الخاص، والقوانين يجب أن تحمي الطرفين، العامل بأجره واستقراره، ورب العمل في العمالة الدائمة لديه.
وكانت محافظة حمص قد تعاقدت مع شركتين غير محليتين، الأولى شركة ستار القطرية والثانية هاسكي الكندية لتنفيذ أعمال نظافة نسبتها 30% من محافظة حمص، إلا أن هذه التجربة لم تنجح كما يجب، في حين أثبت المتعهدون المحليون نجاحاً أكبر نسبياً كونهم تعاملوا مع موضوع الأيدي العاملة بأصول محلية.
ـ خطة طموحة ولكن!
فضلاً عن كل ما سبق، ودائماً في مدينة حمص التي تبدو سبّاقة في الكثير من الأمور فيما يتعلّق بمسألة التعامل مع النفايات الصلبة، تقوم محافظة حمص حالياً ودائماً ـ وفق ما أفادنا به مدير النظافة حسان يونس ـ بدراسة لإدارة النفايات الصلبة تتضمن تحسين عمليات الجمع ووضع برامج توعية مستمرة للتخلّص الآمن من النفايات، ومن المقترح على ضوء ذلك أن يتم إنشاء محطة فرز ومعمل كومبوست (سماد) في الموقع الحالي للمطمر، ليتم تدوير المواد القابلة للتدوير وفرزها، إضافة إلى محطة نقل لنقل العوادم التي لا يمكن الاستفادة منها إلى المطمر الجديد المنوي إقامته في منطقة (الفرقلس) ليغطي جميع محافظة حمص، كما سيتم الإعلان عن مشروع لإدارة النفايات الطبية على مستوى المحافظة مع محرقة بمواصفات إيزو 2000 الأوروبية تحقق معالجة لكامل الانبعاثات الغازية الناتجة عن المحرقة يتم تمويلها كما هو مقرّر من مشروع تبادل الدين مع ألمانيا، إلا أن هذا المشروع ما زال متوقفاً لأسباب إدارية.
ـ الملوّث يدفع
عند سؤالنا عن إمكانية تحقيق أرباح بعد تطبيق إدارة النفايات الصلبة، قال حسان درويش: إن هذا الموضوع لا يمكن أن يعطي أرباحاً، فإدارة النفايات الصلبة إن تمت بشكل ناجح ستكون مجدية اقتصادياً إلى أبعد الحدود إنما بشكل غير ملحوظ، معتبراً أن الأمر بيئي بحت لأن ظهور أي مرض نتيجة للتلوث الكامن في النفايات يكلّف الكثير من الجهود والأموال، إنما الجانب الاقتصادي الذي يجب النظر فيه ـ بحسب درويش ـ هو استرداد أكبر قيمة من التكلفة.
وفي كل دول العالم يوجد شعار (الملوّث لرفع) بما معناه أن كل من يملك نفايات يجب أن يدفع لكي يتخلّص منها، في حين أن رسم النظافة لدينا في سورية هو رمزي ولا يتعدى 125 ليرة سورية وسطياً.
وضرب مدير النظافة مثالاً عن التكاليف السنوية لعمليات النظافة وإدارة النفايات الصلبة في حمص والتي تُقدر بـ 300 مليون ليرة في حين لا يتم جباية أكثر من 5 ملايين ليرة.
ـ معوقات مستمرة:
رغم تفرّد محافظة حمص وأسبقيتها في تطبيق العديد من النظم والأفكار الجديدة فيما يتعلق بموضوع إدارة النفايات الصلبة وتحسين وضع النظافة في أرجائها، تعاني المدينة من مجموعة مشاكل تعيق تحقيقها أفضل النتائج، فقِدم الآليات مشكلة تعاني منها المحافظة حيث تكلّف الكثير من الصيانة وبمردود عمل ضعيف، كما أن عدد العمال في مديرية النظافة لا يتجاوز 1100 عامل، سبعمئة منهم في مجلس المدينة و400 للقطاع الخاص، وهذه الأرقام ـ بحسب المسؤولين في المحافظة ـ لا تكفي حاجة المدينة لمستوى نظافة جيدة، ولا إمكانية اليوم لزيادتهم حرصاً على وجود تناسب بين عدد العمال وعدد الآليات.
ويأتي موضوع الرواتب كمشكلة إضافية، ولكن هذه المرة بالنسبة للقطاع الخاص الذي يدفع رواتب لا تزيد عن ستة آلاف ليرة للعامل، في حين يحصل عامل النظافة في القطاع الحكومي على ضعف هذا الراتب تقريباً متضمنة الراتب وطبيعة العمل والوجبة الغذائية، الأمر الذي يفسّر إقبال العمال على العمل لدى الحكومة وهروبهم من العمل لدى القطاع الخاص.
ـ دمشق، ومعضلة النظافة
مع تزايد عدد سكان دمشق ودخول مواد جديدة في القمامة المنزلية، باتت مسألة تحقيق النظافة في المدينة معضلة من المعضلات التي تواجهها هذه المدينة، ليس لارتفاع كمية المخلّفات البيئية والصناعية واحتياجات ترحيلها من آليات وعمال فحسب، وإنما لأنها تحتاج إلى مساحات شاسعة من الأرض لتخصيصها كمقالب للقمامة، أو حتى مع وجود معمل لتصنيع هذه المخلّفات يبقى هذا المعمل عاجزاً عن استيعاب كامل الكميات المطروحة رغم كل الجهود التي تبذلها كوادره على مختلف مستوياتها.
وتبين كمية النفايات المطروحة خلال السنوات الخمس الماضية مدى صعوبة إدارتها بشكل فعّال ما لم يتم اتخاذ العديد من الإجراءات والمشاريع.
3200 كلمة
ففي عام 2000 طرحت دمشق 330 ألف طن من القمامة، وفي عام 2001 طرحت 347 ألف طن، ثم وصل الرقم إلى 358 ألف طن عام 2002 و381 الف طن عام 2003، و386 ألف طن عام 2004، وتجاوز الرقم عتبة الـ 433 ألف طن في عام 2005.
ويتحدث مدير النظافة في محافظة دمشق وليد جحا عن الصعوبات التي تعيق سير العمل بشكل جيد، وهي المشاكل نفسها التي ذكرها زميله في حمص مع مضاعفة الأرقام هنا نظراً لعدد سكان دمشق الذي يتزايد بشكل كبير، فيصل حسب بعض التقديرات إلى خمسة ملايين نسمة وإلى ثلاثة ملايين حسب التقديرات الرسمية، ويذكر جحا في هذا المجال إحصائية عالمية كما يجب أن تكون عليه النسبة الطبيعية  الصحيحة، فمقابل كل ألف مواطن يجب أن يكون هناك عاملا نظافة، ولكل عشرة آلاف مواطن يجب أن يكون هناك سيارة ضغط قمامة، أما في محافظة دمشق ومع اعتبار أن عدد السكان هو ثلاثة ملايين يوجد نحو 3200 عامل نظافة فقط، في حين يستلزم الأمر 6000 عامل أي ضعف الرقم الموجود، وتحقّق دمشق بالنسبة للرقم العالمي 6 من أصل عشرة، أما الآليات فيصفها جحا بأنها قديمة وعمرها الوسطي 25 سنة، وأحدث آليات وصلتنا كانت في العام 1996 من جايكا اليابانية.
أما عن رأيه بمشاركة القطاع الخاص في عمليات النظافة في محافظة دمشق فيقول مدير نظافة دمشق: إن تجربة هذا القطاع كانت متعثّرة في بعض المناطق وناجحة في أخرى، مضيفاً: إنه وكقطاع خاص دخل في ميدان النظافة عام 2002 فإنه ما زال يفتقد للخبرة، وفي حالتنا هذه يؤكد جحا: إن رؤوس الأموال غير كافية، ورغم تأكيده على أن نجاح القطاع الخاص في هذا الميدان هو (نجاح لنا)، إلا أنه يأخذ على القطاع الخاص ضعف رواتبه الأمر الذي يمنعه من استقطاب النبّاشين للعمل معه، وهي سياسة نحاول التشجيع عليها، إلا أن النبّاشين يرفضون عروض القطاع الخاص مبرّرين أن ما يتقاضونه من رواتب يستطيعون اليوم جمعه خلال أيام من العمل بمفردهم.
ويعترف جحا أن كل عمليات القمع فيما يتعلق بالنبّاشين لم تجدِ نفعاً، مشيراً إلى أن 500 دراجة هوائية يستخدمها النبّاشون تم حجزها ولم يتوقف الأمر كما لم تنفع كل دوريات الشرطة في الحدّ من تفاقم ظاهرة النبّاشين.
ـ معمل الجارونية، تجربة أخرى!
تتميز دمشق بكونها المحافظة الوحيدة التي تملك معملاً لتحويل النفايات الصلبة إلى سماد وهي تجربة موجودة في العديد من دول العالم، والمعمل يعالج النفايات الصلبة وفق أحدث الطرق للتخلّص منها بتحويلها إلى سماد عضوي محسّن للتربة، وبجواره حفر فنية لردم النفايات الفائضة عن حاجة المعمل، كما تم إنشاء محارق خاصة لمعالجة نفايات المشافي وحرقها وفق الأصول الفنية ومن ثم ردم بقايا الحرق بشكل فني، وتم إحداث طرق فنية جديدة لاستخلاص غاز الميتان الناتج عن تخمّر القمامة في المقلب القديم.
وبالعودة إلى المعمل الذي تبلغ استطاعته 700 طن يومياً انخفضت بعد سنوات من إنشائه لتصل اليوم إلى 400 طن يومياً، وهو ما يبتعد كثيراً عن الرقم الذي تنتجه دمشق يومياً، إلا أن أهمية المعمل تبدو في المردود الاقتصادي الذي يحققه المعمل من عدة نواحٍ أهمها: إنتاجه من السماد العضوي والذي بلغ سنة 2000 نحو 29 ألف طن، وفي عام 2001 نحو 36 ألف طن، و20 ألف طن في عام 2002، و24 ألف طن عام 2003، و32 ألف طن عام 2004، و30 ألف طن عام 2005، ويباع كل 1م3 من السماد بـ 240 ليرة سورية وبما يحقق عائداً سنوياً بملايين الليرات، كما تم تعهد المقلب لمتعهد خاص بعقد لمدة خمس سنوات بمبلغ مليونين ومئة وستين ألفاً، ويحقّق المعمل كذلك من رسوم التفريغ مبالغ تتفاوت سنوياً ما بين المليون والمليوني ليرة ونصف المليون.
ومن جانب آخر يحقق معمل الجارونية واردات أخرى من بيعه لكميات من الحديد بعد فرزه وكبسه في حاويات خاصة وبيعه إلى معمل حديد حماة، ـ وبحسب مدير معمل معالجة القمامة موريس حداد ـ فإن العمل جارٍ حالياً لإنشاء معمل جديد في دمشق يغطي ما تنتجه من القمامة بطاقم كامل واستطاعة تتجاوز الـ ألف طن يومياً.
ويضيف حداد: باشرنا بمدفن للنفايات الخطرة (مخلّفات المعامل الكيماوية) وهو عبارة عن غرف معزولة كاملة على النظام الياباني الحديث.
وتتجه إدارة المعمل فيما يتعلق بالنفايات الطبية بعد أن أصبح نظام المحارق قديماً إلى اعتماد نظام (الأوتوغليف) أي التعقيم والذي يقوم على فرم النفايات الطبية وتعقيمها بالبخار وبدرجة حرارة عالية لقتل البكتريا.
أما المشروع الجديد والمتوقع أن يحقّق إيراداً جديداً للمعمل فهو تنفيذ آلية لشفط أكياس النايلون عن طريق متعهد من القطاع الخاص يستثمرها لسنوات لتعود ملكيتها بعد ذلك إلى المعمل الذي سيقوم ببيع هذه الأكياس إلى معمل عدره.
ورغم طموحه ورغبته في تحقيق مردود اقتصادي جيد، إلا أن حداد يعترف في النهاية بأن هذا النوع من الأعمال يبقى في الإطار الخدمي الذي تتكفّل الدولة بدفع مبالغ طائلة عليه لا يمكن أن تحصّل سوى الجزء اليسير منها عبر الرسوم والنشاطات الأخرى على اختلافها.
ـ القطاع الخاص، على الخط!
تجربة ثالثة تستحق النظر إليها، وهي تجربة تخصّ شركة إيفركلين التي دخلت على خط إدارة النفايات الصلبة كأول تجربة للقطاع الخاص من هذا النوع في سورية والوطن العربي عبر إنشائها لمحطة فرز نفايات، ويقول صاحب الشركة ومديرها يحيى عويضة: وضعنا سياسة هدفها خدمة البيئة تتمثل في (إدارة النفايات)، وتتضمن هذه الخدمة ثلاثة أهداف: بيئي واجتماعي واقتصادي نسعى من خلالها إلى تحقيق شعارين، الأول هو شعار التنمية المستدامة الذي ينادي فيه العالم، والشعار الآخر كان تحت عنوان (نفايات اليوم خامات الغد)، ومن هذا المنطلق أسست الشركة لإنشاء أول محطة فرز نفايات عملية في سورية والمنطقة باستطاعة يومية قدرها 500 طن، أما الهدف البيئي ـ بحسب عويضة ـ فيتحقق من خلال تخفيض حجم النفايات بحدود 75% إلى الربع فقط، وهذا بدوره يؤدي إلى خفض حجم الأراضي المطلوبة لطمر هذه النفايات، وكذلك تخفيض الآثار السلبية على البيئة بسبب استعادة المواد العضوية وإعادة تدميرها وتخفيف انتشار الأمراض والأوبئة نتيجة إدارة النفايات بشكل صحيح.
أما الهدف الاجتماعي فيتحقق من خلال تشغيل اليد العاملة في المنطقة (120) عاملاً وتثبت هؤلاء العمال في أراضيهم، وهذا نوع من مكافحة البطالة مع تسجيلهم في التأمينات.
ويتحقق الهدف الاقتصادي من خلال استرجاع ما نسبته 75% من النفايات المتولّدة وإعادة استخدامها بالطرق المثلى، حيث يتم استرجاع 55 إلى 60% من حجم النفايات (عضوية) و15% من حجم النفايات (قابلة للتدوير كالزجاج والبلاستيك والألمنيوم والحديد ومعادن أخرى).
وهذا ـ بحسب عويضة ـ أدى إلى خلق 11 صناعة جانبية تعتمد على هذه المنتجات، وهذا يحقّق دخلاً للبلد، فإذا كانت قيمة الـ 75 % هي 200 ألف ليرة قيمة مواد مسترجعة إذا قُدّر الكيلو غرام الواحد بـ 5 ليرات سورية وكان حجم النفايات الواردة 500 طن وبالتالي وعبر عملية حسابية بسيطة سيكون مردود الـ 400 طن المسترجعة يومياً مليوني ليرة سورية يومياً.
ـ استثمار خارج الاهتمام
وعن المشكلات التي يواجهها القطاع الخاص في تجربته الأولى من نوعها في هذا المجال، يؤكد عويضة على موضوع النبّاشين، ويقول إن شركته أجرت إحصائية لأعدادهم المتزايدة حيث ارتفع عدد هؤلاءمن 83 شخصاً قبل سنتين من إنشاء المعمل 2003 إلى نحو 4000 نبّاش، يضاف إليهم عمال النظافة الذين يزيد عددهم عن 3000 عامل، كل هذا يعيق عمل مثل هذه المشاريع، ويضيف إليها المستثمر الوحيد في دمشق للنفايات الصلبة عدم التفات الحكومة إلى هذا النوع من الاستثمارات رغم أهميتها كمشاريع خدمية، ومن هنا يطالب بإعفائها من الضرائب والرسوم، ويختم بأنه وبناءً على هذا التعامل المجحف من الحكومة أقلع عن نيته إنشاء معامل مشابهة في كل المحافظات السورية.
ـ نظرة من الخارج!
رغم كل ما تحقق على صعيد إدارة النفايات الصلبة في سورية خلال الأعوام السابقة يبقى هذا المتحقّق دون الحدّ المطلوب، ورغم وجود بعض التجارب المهمة والقابلة للتعميم ما زال هذا القطاع بعيداً عن إمكانية تحقيقه أرباحاً وإيرادات كما هي الحال في دول أخرى، وتعترض ذلك الكثير من المشكلات والصعوبات ذات علاقة بالتمويل والعنصر البشري والنظرة إلى هذا العنصر بشكل دوني.
في الواقع ما زال الموضوع في بدايته وهو يحتاج إلى المزيد من الوعي والعمل القائم على التشاركية بين الحكومة والمواطن، وهو ما أكده لنا المستشار الياباني (شيدا) من وكالة جايكا اليابانية، والذي انتدب إلى وزارة الإدارة المحلية كمراقب في إدارة النفايات الصلبة، وقدعلّق مستهجناً وهو يعرض أمامي صورة بردى، وقد امتلأ مجراه بالقمامة، لماذا لا تفهمون أن رمي القمامة هو سلوك غير حضاري؟‍

علي حسون

المصدر: مجلة الاقتصاد والنقل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...