أسعد فضَّة: مها تناديه: «متى تعود إلى المسرح؟»

06-05-2009

أسعد فضَّة: مها تناديه: «متى تعود إلى المسرح؟»

لم تفارقه ابتسامته الطفولية طوال لقائنا، رغم حضوره الآسر. هو نموذج الرجل، بكامل سلطانه، وحنانه أيضاً. إن سألت عنه، يُجمع من يعرفه على أنّه «الإنسان المحترم»، قبل أن يحدّثوك عن المخرج والممثل ورئيس نقابة الفنانين طوال أعوام ثمانية، ولولب الحركة المسرحية السورية لعقود من موقعه على رأس «مديرية المسارح والموسيقى»، وأستاذ «المعهد العالي للفنون المسرحية» في سوريا، وأحد الذين ناضلوا لإنشائه. من بين طلابه نجوم كبار، أيمن زيدان، وجمال سليمان، وفايز قزق، ووفاء موصلي وغيرهم. «كان أستاذاً مهيباً، من دون أن يكون مخيفاً»، يتذكّر جمال سليمان. أمّا أيمن زيدان فيراه «أستاذاً علّمنا، ومخرجاً أدهشنا، وممثلاً أتحفنا». العبارة وردت في شهادته خلال تكريم أسعد فضة في اللاذقية، حيث أطلق اسمه عام 2006 على صالة المسرح القومي في المدينة الساحليّة.أسعد فضة
ولد في بكسا، القرية التي لا يملّ من وصف جمالها بروح العاشق الأبدي. كان الفقر «عادلاً»، كما يخبرنا: «لم يكن في قريتنا بيك أو إقطاعي. المختار فقط كان مميزاً، ويملك معصرة زيتون. معظم أهل القرية مالكون لأراضيهم، وكانت تكفيهم للعيش بكرامة. أمّا من لم يملك أرضاً، فكان يعمل لدى الإقطاعيين في القرى المجاورة». يتحدّث أسعد فضة عن قريته كبيئة منفتحة على الحبّ. «الأفق المفتوح، بساتين العنب والتين، وكروم الزيتون، زقزقة العصافير، الندى وفعله في الأرض، تمنحك إحساساً غريباً خلال المشي. يلتقي الشاب بالصبية ولا أحد يعيب ذلك. أمي كانت تعلِّمنا كيف نحبُّ الفتاة وكيف نعاملها».
الأب يطلب إليه وإلى إخوته مساعدته في الأرض، والأم ترفض طالبة منهم التفرغ للدراسة. «في قريتنا «سي السيد» غير موجود. للمرأة كلمتها، والرجل يمشي وتركب المرأة الدابة، مهما بدا هو متعباً». وكما ارتأت الأمّ، تعلّم أولادها الأربعة في «الكلية الأرثوذكسية الوطنية». استهلكت الأقساط المدرسيّة كامل محصول الأرض تقريباً. في تلك المدرسة كان يلتقي أبناء الريف مع أولاد المدينة من أثرياء. «بعضهم كان لطيفاً، وبعضهم كان شرساً إلى درجة التشابك بالأيدي. كنَّا جديين في دراستنا، وفرضنا احترامنا على أولاد الأغنياء. هذه المدرسة خرّجَت البروفيسور والطبيب والمحامي والضابط. «جول جمال الضابط السوري الشهيد (استشهد في عمليّة ضدَّ البارجة الفرنسيّة «جان بار» أثناء العدوان الثلاثي عام 1956)، كان يسبقني بصفّ، وأخوه عادل كان في صفي». في تلك المرحلة انتقلت إليه عدوى المسرح من أساتذته الفرنسيين. «كانوا يعلّموننا الفرنسية من خلال المسرح، وقدَّمنا في المدرسة أعمال كبار المسرحيين الفرنسيين».
حصل أسعد فضة على الثانوية العامة عام 1958، واحتار بين بعثتين إحداهما في الإخراج والتمثيل والأخرى في الرسم ليرسو قراره في النهاية على الأولى. «كان يُفترض أن تكون البعثة إلى فرنسا، لكن الوحدة بين مصر وسوريا حوّلت وجهتها إلى القاهرة»، والدراسة هناك لها سحرها الخاص. كان يتقاضى راتباً من البعثة، وكلَّما حاز امتيازاً أخذ مكافأة تسعة جنيهات شهرياً... أما شريكه في الامتيازات، فكان الأديب علي عقلة عرسان. «كانت حالتنا المادية جيّدة جداً، نعيش في مناخ ثقافي ومعرفي مدهش خلقناه كطلبة سوريين». شركاؤه في السكن في شارع بهجت علي، في حي الزمالك، قرب بيت أم كلثوم كانوا التشكيلي الراحل غازي الخالدي، وعميد «كلية الفنون الجميلة» خالد مز، والتشكيلي نذير نبعة.
بابتسامته المضيئة، يستعيد ذكريات الشباب وهوايته لفن الرسم قائلاً: «كانوا يذهبون إلى القناطر ليرسموا، وأنا معهم. حوّلنا بيتنا إلى منتدى ثقافي، كلّ خميس، كنّا ننظّم ندوة وندفع للفنانة التشكيلية ليلى نصير مبلغاً لتهيئ الديكور المناسب للندوة».
خلال العطلة الصيفية، حدث الانفصال، وكان أسعد فضة ورفاقه في سوريا. أدرك طلاب السنة الثالثة حينها أنّ العودة إلى مصر مغامرة بعدما رفضت حكومة الانفصال إعطاء الطلبة تأشيرة خروج. «لم يكن هناك من حلّ سوى السفر بحراً، على مسؤوليتنا ومن أجل مستقبلنا».
من ميناء اللاذقية إلى ميناء الإسكندرية، انطلق الطلبة الحالمون: «“ومن يركب البحر لا يخشَ من الغرق”. قبالة شاطىء مصر، اقترب مركب خفر السواحل من الباخرة وقال أحد الضباط: الشباب السوريون ليتفضلوا! خاف بعضنا، فإذا بهم يرحبون بنا ويقلّوننا بسيارات إلى محطة القطار!»، يقول فضّة متجاهلاً دمعة لمعت في عينيه. هل كان أسعد فضة مع فكّ الوحدة؟ «طبعاً لم أكن معه. مع وعينا التام بأخطاء الوحدة وأسباب فشلها».
بدأت حياة أسعد فضة المسرحية تتبلور بعد عودته من البعثة عام 1963. مثّل، وأخرج، وناضل من أجل وجود مسارح تليق بتطلعات أهل المسرح حينذاك: «لم يكن هناك سوى «مسرح القباني» وإمكاناته المتواضعة جداً... سطونا على «سينما الحمرا» وحولناها إلى مسرح». أول عرض أخرجه ومثّل فيه كان «الإخوة كارمازوف»، حينها كتب وزير الثقافة والإعلام، سامي الجندي صفحة كاملة عن المسرحية في جريدة الثورة عام 1964، ولاقى العرض إقبالاً جماهيرياً منقطع النظير، وأعلنَ شبّاك التذاكر «لم يبقَ محلات»، للمرّة الأولى.
توالت النجاحات، ولمع اسم فضّة في فضاء المسرح العربي، كما سيكون لاحقاً في السينما والتلفزيون. في التلفزيون هو «زبادي» عاشق زنوبيا في «انتقام الزبّاء» و«أندريانوس» في «الأميرة الشماء»، و«عز الدين القسام» في «عز الدين القسام»، والباشا في «بصمات على جدار الزمن»، وأبودباك في «هجرة القلوب إلى القلوب»... أمّا عن السينما، فيكفيه دوره في فيلم «ليالي ابن آوى» للمخرج عبداللطيف عبد الحميد، وعنه حصد جائزة أفضل ممثل في «مهرجان دمشق السينمائي» (1989).
وتطول قائمة المسرحيّات التي أخرجها، أو مثَّل فيها... بعضها لا يمحى من ذاكرة المسرح العربي، مثل مسرحيَّة «يوميات مجنون» لغوغول، وهي أول عمل مونودراما في الوطن العربي، من إخراج الراحل فواز الساجر، إضافةً إلى «الملك هو الملك»، و«حرم سعادة الوزير»، و«التنين» وغيرها. وكان آخر أعماله المسرحيّة «حكاية بلا نهاية» (تأليفه وإخراجه، 1986) ومثّلت فيها زوجته الراحلة مها الصالح. مها تلك الشابة الجميلة والموهوبة التي تعرّف إليها في مسرحية «دون جوان» التي أخرجها ومثل فيها، كان ذلك في عام 1964، وكان الحب من النظرة الأولى. بعد أقل من سنة، تزوجها. وبقي الحب مستمراً حتى لحظات النهاية، حين أغمضت شهرزاد المسرح العربي عينيها للمرّة الأخيرة في 14 حزيران/ يونيو 2008. من ذلك الحب تبقى صور كثيرة، وحكايات لا تنتهي، وشراكة إنسانيّة وفنيّة خصبة، كانت ثمرتها ابنتهما راما المهندسة المعمارية التي أنجبت أسعد الصغير وسارة.
ما زلنا نذكر كلماته وصوته المرتجف ودموعه الحارة يوم وداعها. يشرد في الأفق قليلاً ثم يعود إلينا: «مها هنا الآن، وهي تلازمني أينما حللت. أسمعها تناديني من حين لآخر: متى تعود إلى المسرح؟».

 

--------------------------------------------------------------------------------

5 تواريخ

1938
الولادة في قرية بكسا في اللاذقية (سوريا)

1963
تخرّج من «المعهد العالي للفنون المسرحية ـــ قسم الإخراج والتمثيل» في القاهرة

1966
أوفد إلى فرنسا لدراسة المسرح، ومعه الأديب علي عقلة عرسان والمسرحي سعد الله ونوس. لدى عودته أدار المسرح القومي حتى عام 1974، وبعدها انتقل إلى إدارة المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة حتى 2001

1986
أخرج آخر أعماله المسرحيّة «حكاية بلا نهاية»، ومثّلت فيها زوجته الراحلة مها الصالح.

2009
فرغ من تصوير مسلسل «نفوس ضعيفة»، ويستعد لتصوير فيلم «الشراع والعاصفة» عن رواية حنا مينه

إيمان الجابر

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...