غسان الرفاعي: يقظة العنصرية

30-08-2010

غسان الرفاعي: يقظة العنصرية

-1-تشاهد وتسمع وتقرأ عن(الجنون العنصري) الذي يجتاح الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ومناطق أخرى في الغرب (الديمقراطي): مجازر، سحب جنسية، أحقاد دفينة،.

تتمنى أن تكون محروماً من حواسك، مجرداً من قدراتك الفكرية والعاطفية، أشبه ما تكون بأحد أبطال سارتر: (كتلة كتيمة يتعذر عليها الإضاءة من الداخل وتستعصي على الاختراق من الخارج). وإلا كيف يمكن أن تتحمل ببرودة أعصاب الفواجع التي تتساقط عليك كحبات البرد الكبيرة، والاتساخ الإعلامي الذي يستفز كرامتك الإنسانية؟. ‏

يريدون منا أن نكون مدجنين؟ كلا سنقف على المنابر بلا استئذان لنعترض، لنتحدث، لنردح، لنصرخ بكلمة (لا) بكل حماقة ولا مسؤولية. قد خنقونا بما فيه الكتابة في أقبية المونولوج السلطوي وصوامع المونولوج السلفي فاحتضر فينا أو كاد ذلك الحنين إلى الهندسة الروحية، إلى الافتضاح الفكري، أم لعلنا فضلنا الاحتباس في المقاسات واللوالب والضواغط نمارس التخلي دون أن نهدد بالعقاب ونقبل الزلفى دون أن نوعد بالثواب. ‏

-2- ‏

مازال السيد سلمان رشدي منذ صدور كتابه الرجيم (آيات شيطانية) ينتقل من عاصمة غربية إلى أخرى مصطحباً معه حراسه وضجة إعلامية صاخبة ومازال يوزع المقابلات المثيرة والمقالات (الاستوائية) –كما يصفها المعجبون به- بهدف تكريس انتمائه للغرب من جهة وتعهير انتمائه الشرقي من جهة أخرى، مكرراً نداءاته إلى مثقفي العالم الثالث للالتفاف حوله والدفاع عن (أفكاره التحررية) وقد تم الاستنجاد به في الأدبيات بعد أن اقترب موعد احتفالات ذكرى 11 أيلول وتصاعد (الجنون العنصري) بسبب طرح مشروع بناء مسجد ومركز إعلامي في منطقة (زيرو) غير بعيد عن مكان برجي التجارة الخارجية اللذين دمرهما هجوم صاعق في نيويورك. ‏

-3- ‏

أتحفنا السيد سلمان رشدي الأسبوع الماضي بمقال في إحدى الأدبيات الفرنسية وضع له عنواناً ملتبساً: (الحاجة إلى السماء العارية من جديد) استهله بوصف مشاعره حينما (هام على وجهه في يوم طويل وحزين بين الخرائب والأطلال التي حلت محل برجي المراقبة) ويكتب: (حاولت أن أتقبل مشاهد الرعب التي تمتد أمامي، أن أتمتم بصوت خفيض جملاً مبهمة متقاطعة تنم عن قرفي وخوفي وغضبي وقد انجذبت أنظاري نحو السماء التي بدت لي فارغة عارية بعد غياب البرجين. ما أقسى أن يقف الإنسان وحيداً أمام السماء بعد أن تعود على أن تتسلق عيناه طوابق ناطحة السحاب الشاهقة..!). ‏

ولكن الخوف من مجابهة السماء العارية هو خوف أميركي، يتحدث عنه الكثير من الكتاب الأميركيين للتعبير عن تصميم الإنسان المعاصر على اختصار المسافة بينه وبين الله بارتقاء السلالم، وبتشييد ناطحات السحاب. وكما قال هنري ميللر: (كلما شعر الأميركي بالذنب بنى طابقاً جديداً في ناطحة السحاب تقرباً من الله، وحينما ينجح في حجب السماء عن الرؤية يشعر براحة الضمير، ولكن ما دام /سلمان رشدي/ بدأ يتخوف من السماء العرية بعد أن نخره الطاعون الأميركي، فلماذا نصب نفسه مدافعاً عن السماء باسم الدين، لماذا يسعى إلى مزاحمة الذين يخشونها ويطالبون بأن تكون هي الحكم ويشعر بالغبن إذا ما قرر هؤلاء طرده من صفوفهم؟، انه متعصب للسلالم ويردد ما قاله «روكفلر» أحد مالكي ناطحة سحاب: ماذا تريدون..؟ أنا أشق طريقي إلى السماء طابقاً فوق طابق في حين يفضل الآخرون الوصول إليها عن طريق العبادة والزلفى..!. ‏

-4- ‏

ولكن تجول سلمان رشدي بين الخرائب والأطلال في مدينة نيويورك، استولد عنده غضباً آخر خصوصاً بعد أن تصفح وجوه المارين وتحدث إلى البعض منهم: اكتشافه بأن الأمكنة بجزئياتها وتفاصيلها تصبح معجونة بإنسانية الإنسان، ويكتب: الشوارع والأزقة وواجهات المحلات والنوافذ والأبواب، حتى صناديق القمامة تنقلب إلى كائنات حية تندمج في جسم الإنسان وفي أليافه ونسجه، ويستشهد سلمان رشدي بالسناتور الديمقراطي /شارلز شولر/ الذي أخذ يضرب الأرض بقدميه ملوحاً بقبضته وهو يصرخ أمام مشاهد الدمار والخراب: أعيدوا إلي مدينتي، أنني أريد أن أرى نيويورك كما كانت... ‏

ولكن ما يدعو إلى الاستغراب أن رشدي الذي «تأمرك» من قمة رأسه إلى أخمص قدميه يعترف بالترابط العضوي بين الإنسان ووطنه في نيويورك ولكنه يتجاهل هذا الترابط في فلسطين والقدس خاصة، لماذا يكتب جملة واحدة وهو المسلم الشرقي الذي لا يتحمل انتقاد أفكاره «التحررية»، عن سكان القدس العرب الذين يطردون باستمرار من أوطانهم أو تدمر بيوتهم وتحرق بساتينهم ويعاملون معاملة المغتصبين الإرهابيين في بلادهم، هؤلاء أيضاً يضربون الأرض بأقدامهم ويصرخون وهم يلوحون بقبضاتهم: نريد القدس وجنين وحيفا كاملة غير منقوصة، ألا يعرف /سلمان رشدي/ أن هؤلاء اللاجئين مازالوا يحتفظون في منازلهم التي احتلها المغتصبون بثيابهم وكتبهم وأشيائهم الصغيرة. ‏

-5- ‏

الكتاب «الرجيم» الآخر الذي أنزل إلى البورصة الثقافية بمناسبة ذكرى 11 أيلول 2001 هو كتاب «الإسلام: وجهة نظر» ويقدم على انه كتاب أكاديمي بريء وليس «بيانا حربياً» يتسلح به حاقدون يخوضون المعارك، مؤلفه أستاذ في جامعة برنستون ويقدم على انه أكبر اختصاصي معاصر في العلاقات المكتسبة الحالية بين الشرق والغرب، ويدعى برنارد لويس وتتصدر مؤلفاته واجهات المكتبات وتلصق الإعلانات الكبيرة عنها في محطات القطارات والمترو، طبعاً إلى جنب الإعلانات عن الثياب الداخلية النسائية تحت شعار: أعرف هذه الحقائق المرة عن الإسلام. ‏

الفكرة الجوهرية التي يروج لها هذا «الاختصاصي الكبير» هي أن التوتر في الشرق الأوسط لا يمكن فهمه بشكل أفضل إلا حين نقر بأنه نتيجة صراع حضارات، لا صراع دول وأمم، بدأ بتدفق العرب والمسلمين نحو الغرب واستيلائهم على الشرق الأوسط وشمالي أميركا وإسبانيا واستمر بالهجوم المعاكس الذي قام به المسيحيون في الحروب الصليبية، ثم بالغزو الذي شنه العثمانيون على أوروبا وتراجعهم ثم بخضوع كل دول الشرق الأوسط الإسلامي للاستعمار الغربي سياسياً واقتصادياً وثقافياً ثم بحركات التحرر والاستقلال من الغرب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ثم بعودة الهيمنة الغربية بواجهة أميركية إلى هذه المنطقة بكل ما تملكه من عنجهية وعدوانية. ‏

والفكرة المبتكرة الجديدة التي يطرحها برنارد لويس, أن الصراع الحقيقي هو ليس بين حضارتين مختلفتين وإنما هو صراع بين نموذجين متعارضين من حضارة واحدة والسمة المذهلة في هذا الصراع هي أنه يقوم على التشابه في المضمون إذ يصر الطرفان على أنهما يمتلكان حقائق نهائية لا تقبل النقاض يقول برنارد لويس: الأمر الثابت أن النموذجين يعلنان بصخب وغضب أنهما يملكان الحقيقة الإلهية وأن من واجبهما نشر هذه الحقيقة على العالم كله وأن الذين لا يقبلون بهذه الحقيقة الثابتة موعودون باللعنة. ‏

أما النتائج المترتبة عن كشوفات الأستاذ الجامعي برنارد لويس الذي كان يفاخر بأنه كان يعمل في المخابرات البريطانية لاتقانه العربية والفارسية والتركية فهي ثلاث: أولها أن الهجوم الإرهابي في الحادي عشر من أيلول على برجي نيويورك هو رد فعل طبيعي أو مظهر من مظاهر الغزو العربي الإسلامي للغرب وحرب العراق هي رد فعل طبيعي وهجوم معاكس لا يمكن تفاديه يقول برنارد لويس: لا يمكن أن نفهم بأية لذة أقدم الاستشهاديون على تدمير برجي نيويورك مع علمهم بأنهم سيموتون ولا أن نفهم بأية نشوة حطم الأميركيون متاحف ومكتبات العراق مع علمهم بأنهم سيوصفون بالبرابرة إلا إذا رجعنا إلى التاريخ بين الغرب والإسلام. ‏

ثانيها: أن كل محاولة لتطويق هذا الصراع بالحوار أو بالتنازلات المتبادلة مكتوب عليها الفشل قد تخفف من حدة الصراع أو تؤجله أو تلتف حوله لكنها لن تنجح في تذويبه أو تجاوزه, يقول: الاستعمار القديم يتبرقع وراء نظرية نشر الحضارة والامبريالية الجديدة تتبرقع وراء نظرية نشر الديمقراطية ولكن الهدف واحد: الهيمنة لا التعايش. ‏

ثالثها: لقد تمكنت بعض محاولات التحرر من أن تنجح في الشرق الأوسط وكان من نتيجتها أن وصلت بعض الكيانات إلى شبه الاستقلال ولكن هذا النجاح يفسر بالتساهل والكرم من قبل الطغاة لا بمقاومة الضعفاء ولا بقدرتهم على التماسك. ‏

ويطالب الأستاذ الجامعي الكبير بإلغاء ندوات الحوار بين الشرق والغرب بايقاف الدجل السياسي والثقافي بدافع من الحرص على الحقيقة ووضع النقاط على الحروف. ‏

-7- ‏

أدهشني التحقيق الذي نشرته صحيفة الدولية الهيرلتوبيون في 27 آب الجاري عن الإنجيلي تيري جونز الذي يطالب بتخصيص يوم على امتداد الولايات المتحدة لإحراق القرآن ونقل عنه وهو يتحسس مسدسه المربوط في خصره أنا لا أخاف وسأعمم دعوتي في كل أرجاء الولايات المتحدة؟ وحينما سئل: وما الذي تعرفه عن الكتاب الكريم وهل أتيح لك أن تقرأ آيات منه؟ أجاب: كل ما أعرفه هو كتابي المقدس الإنجيل وليست لدي أي فكرة عنه. ‏

وأشار التحقيق إلى أن دعوة جونز كان من الممكن أن تمر بسلام وأن يتجاهلها الناس لولا أن الدعوة إلى بناء مسجد في نيويورك تثير نقاشاً حول الإسلام والإرهاب في المحافل الأميركية خاصة بعد أن أيد الرئيس أوباما بناء المسجد واتهم بأنه يتستر على اعتناقه الإسلام. ‏

-8- ‏

ذات يوم لم تكن الكلمة أكثر من شهقة من شفتين وحبة من قلب, لا تفترسها أحراش الآلات ولا أدغال الحديد ولا شاشات التلفزيون ولكنها كانت تخترق الجدران وتستقر في الأعماق وتصوغ الإنسان وتفجر الكبرياء والأمل وترجم المزورين والضالين ولكن الكلمة اليوم على الرغم من معجزة التكنولوجيا المعاصرة متسخة تدخل كل بيت ولكنها تبقى مدانة في متناول الجميع ولكنها مرفوضة: إنها كالمومس يرغب الجميع في وصالها ولكنهم لا يصدقون متى يطردونها ويتملصون منها.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...