قاموس واحد وسياستان

13-05-2006

قاموس واحد وسياستان

أخيرا انتصر الواقع. اجتزنا بسرعة عمر الجموح والاندفاع الصاخبين. نضجنا أسرع مما ينبغي وأدركنا مع الوقت رشدٌ عقيم. وصل كل شيء الى نوع من توازن او جمود. ليس الفرق كثيرا بالطبع. اللبناني يعمل بفعالية في الحالين يندفع بفعالية ويرضخ بفعالية انها تلك الرومانطيقية غير المجربة التي يتعرض لها العقل العملي اللبناني، تفاجئه في الغالب لكنه يستنفذها بدون حسرة. لا بد ان العمليات الصغيرة الكثيرة التي يديرها اللبناني في عقله كل يوم تجعله عرضة لهيجانات حقيقية. او تجعله ضعيفا أمام الملودراميات العاطفية. انه يحتاج الى هذه البراءة بين عمليتين. لكنه من الحكمة بحيث لن يصدق ان المسألة ستبقى طويلا: الاستقلال والحرية والوحدة والتحرير والصراع ضد العدو الاسرائيلي والاستكبار العالمي، انه يخفض سقف مطالبه ويؤيد لأسباب اقل، لأمور يعرف انها يمكن ان تتحول الى استثمار خاص. مكانة الطائفة او دولة الطائفة او العلاقات الانتخابية، الارجح ان اشياء كهذه يمكن ان تنحل احيانا الى وساطة الى عمل والى دعم شخصي. الحرية والاستقلال والصراع ضد العدو أعم من ذلك، انه لا يمانع بالطبع من ان يرفع رايتها لكنه في قرارته يقول شيئا ويعني آخر، ويأمل ان القادة ايضا يقولون شيئا ويعنون آخر. يأمل انهم ايضا يبحثون عن رزمة مصالح ملموسة وعائدها يمكن ان يصل اليه شخصياً، هذا في النهاية ليس سيئاً. الإيمان بمبادئ صلبة، صلبة للغاية، وتحتاج فقط الى ضحايا اخطر بكثير. ليس بعيدا جدا يلبسون احزمة ناسفة ويذهبون ليفجروا انفسهم بضمانة فتوى عادية وبشارة عادية. من حظ هذا الشعب انه ليس عظيماً الى درجة ان يفجر نفسه، يملك فكرة ابسط عن الحياة وعن الهدف وعن الموت وعن المستقبل، فكرة بسيطة بالطبع لكنه يضع ثمناً اكبر لحياته، ثمناً اكبر لموته ولا يقتل نفسه بدون ضمانة كبيرة. الأهداف العالية التي يصعب تخيلها تستثير دموعه وتستحق يوم عطلته. لا يمانع في ان يمشي في سبيلها لكنه لن يجوع من أجلها، لا يمنحها ابنه بالطبع، وحين يتأكد انه مشى كفاية فلن يمانع ان يعود الى امور يعرف ان يحسبها.
لنقل انها في حال توازن عقيم. هذا يعني تجاذباً كل لحظة، شدٌ من هنا وشدٌ من هناك الجميع سيغرقون في ذلك ولن يرتدعوا عنه، لكن النتيجة ستكون هدراً مخيفاً، سياسة تبديد او تبديد للسياسة، لعبة تعادل بدون اهداف، إنها حالنا منذ ان استحالت استعادة الدولة واستعادة المجتمع.
الموازنة بين الطرفين تكاد تصل الى المماثلة. كان ذكاء ان يجد طرف 8 آذار وبسرعة مقابلا للنظام السوري المنسحب، هكذا لم يشارك بحصة في الانسحاب، قال إنها وصاية مقابل وصاية، أميركا مقابل سوريا، هيمنة بهيمنة. هكذا امكن قيام معادلة غريبة، 15 سنة مقابل اشهر، تحالف مقابل سيطرة عسكرية وسياسية ومالية. كان هذا ذكاء بالطبع لكن الأقل ذكاء يسقط في الشرك، ويقبل الموازنة غير واع انها هذه المرة ترتد عليه، يقع حادث طائفي شنيع بأيد متعصبة وجاهلة فيرفع التبعة عن الجهلة والطائفيين ويتهم سوريا، تقوم تظاهرة نكاية سياسية تنخرط فيها قوى طائفية وسياسية كثيرة فيقول انها تدبير سوري. هكذا ندخل في لعبة مساواة كاملة، وصاية تنفي وصاية وكأن شيئا لم يحدث. بذلك امكن للمسيحيين الذين كانوا قوة الممانعة على مدى ال15 سنة ضد الهيمنة السورية ان ينسوا الموضوع وكنا نظن ان ثأراً كهذا يدوم الى الأبد. في الواقع يدوم اقل مما نحسب، امكن في العراق تحويل دفة الصراع، لم يعد الانقسام محصوراً بين البعثيين وغير البعثيين، ففي الاعتصاب الطائفي يكاد هذا الانقسام يغدو ثانوياً. في الدول الشيوعية سابقاً لم يعد اساسياً التذكير بتاريخ الشيوعية. لنتعظ قليلاً، لم تعد القسمة الداخلية بين موالين لسوريا وخصوم لها، حين نصر على ذلك في غير موضعه، نستدرج موازنة صورية ولفظية لكنها موازنة على كل حال، كلمة تطرد كلمة، والنتيجة صفر غالباً. الاستغراق في قراءة السياسة اللبنانية بعبارات من الخارج ينقلب بسرعة الى ضده. قراءة كهذه هي تماماً القراءة السورية وقراءة حلفائها، إنها تقيس فقط بالعلاقة المزعومة او الصحيحة بالخارج، تقيس فقط بالموقف من إسرائيل وأميركا ولا قيمة فيها لأي عامل داخلي. الطغيان والاستبداد والنهب والإثراء الخيالي والتسلط العائلي والطوائفي كل هذه امور لا يعتدُّ بها. الخارج وحده هو المعيار وحين نضع في كل شيء التبعة على سوريا فإننا من حيث نقصد ولا نقصد ندعم سياسة كهذه ونقع في فخها.
أمر آخر هو التسييس. فلأمر غريب غدا التسييس تهمة في ما هو ليس إلا سياسة. منذ تقرير ميليس والتسييس شبهة دون ان نلحظ أن التسييس هو ببساطة عمل السياسيين. إن تسييس التقرير وغير التقرير هو بالضبط ما يفعلونه، كان مقتل حملة إقالة لحود في نظر معارضيها مسألة التسييس هذه، الأمر الذي لم يقر به أهل الحملة على انفسهم ولعلهم حاولوا التنصل منه. إن الأمر البديهي أن تكون حملة إقالة لحود سياسية ولا تكون إلا سياسية، سواء في العرض او الأداة او الشعار او الرؤية. كانت هناك دائماً تهماً أخرى في التسييس، تسييس المحكمة الدولية وتسييس ترسيم الحدود وتسييس وتسييس، كأن في وسع اي من ذلك كله ان يكون شيئا آخر، لسنا نفهم سريان تهمة كهذه الا في اعتبار التسييس تزويراً وانحرافاً عن الجادة، باعتبار السياسة امراً غريباً واصطناعياً وبعيداً عن طبيعة الأشياء. لا يكون التسييس تهمة الا في ثقافة تتهم السياسة اصلا، امّا حين يرسل التهمة سياسيون غارقون في السياسة فهذا يعني انهم يتنصلون من السياسة ويعتبرون ممارستهم شيئا آخر، سمه عقيدة، سمه إيماناً، سمه كفاحاً ونضالاً، سمه وطنية او مقاومة. المهم ان هذه الممارسة تتبرأ من السياسة التي ليست في نظرها سوى احتيال على الأشياء وتخريج ولعب بالمبادئ والمسائل. ممارسة كهذه ترى نفسها أرفع من السياسة، إنها حق ومبدأ وتضحية وأحياناً قدس لا يمس. نفهم ان تكون هذه قراءة حزب الله الذي لا يزال يعتبر السياسة شراً لا بد منه ولا يقر بأن لها هدفاً في ذاتها بل يلحقها بأهداف أعلى: نفهم ان تكون هذه قراءة حزب الله، وأحزاب اخرى ذات ايديولوجيات جماهيرية وثوروية، اما ان يكون هذا كلام سياسيين محنكين دعاة ديموقراطية كجماعة 14 آذار ففيه العجب. ما ذنب التسييس وهل تقوم السياسة بشيء غير ذلك. لا نفهم مثلاً أن يتهم قادة 14 اذار تظاهرة الاربعاء بأنها تسييس، وأن يتبنوا بدون وعي المصطلح الذي حوله خصومهم وصمة، وأن يثبتوا هكذا المعنى المردود الذي جعله الخصوم لها. كيف يقبلون ببساطة قاموس الخصم، ويظنون لأسباب سجالية انهم هكذا يقلبونه عليه. أليسوا هكذا يدخلون في موازاة عقيمة ومغلقة مع الخصم، ألا يضعون هكذا «تسييساً» مقابل «تسييس»، فتتحول المسألة كلها الى مناجزة الفاظ. ماذا يبقى من اللغة السياسية في هذه الحال وكيف يمكن مع اختلاط الكلام والمصطلح فرز موقف من موقف، وتصريح من تصريح. ستعكس المساواة في اللفظ شبهة مساواة في الممارسة، شبهة كهذه مغروسة في اللاوعي العام ولا تنتظر الا خلطة كهذه لتستيقظ.
ليست مسألة ألفاظ ولا مسألة تعبير فحسب، لا يبعد المرء اذا فكر انها قد تكون مسألة رؤيا ومسألة فلسفة سياسية اذا جاز التعبير. لا نذهب الى حد اعتبار الخلطة اللفظية تماثلاً سياسياً، لكن الفقر القاموسي لدى جماعة 14 آذار ليس أمراً عرضياً. من يفرض قاموسه قد يفرض سياسته. ومع هذا الاختلاط القاموسي لا يسعنا ان نتكلم عن سياستين. حين يفترض جماعة 14 اذار بأنهم يدحضون مطالب عمالية بالقول إنها مسيسة بدلاً من أن يناقشوها من هذه الزاوية، اي ليس فقط من زاوية الحاجة العمالية ولكن من زاوية المشروع السياسي والاقتصادي. تراجع وزراء 14 آذار سياسياً، لم يدافعوا عن الورقة الإصلاحية، بغض النظر عن سلامتها، من وجهة نظر خطة دولية وسياسية واقتصادية، سرعة تخليهم عنها وعن نقاط فيها مريبة للغاية. لا بد مع هذا ان نتساءل أي سياسة هي بالفعل لهم وأي مشروع، إذا هربوا من نقاشه قبل ان يغدوا النقاش شيئاً مذكوراً ولم يتوقفوا لحظة للدفاع عنه. اذا لعبوا سياسة خصومهم من اللحظة الاولى. أي سياسة لهم اذا تعادلوا مع خصومهم في نكرانها. يتهمون خصومهم بالتسييس بمعنى استغلال المطالب لأغراض سياسية، فماذا فعلوا سوى التسييس السلبي اذا وقفنا عند هذا التفسير، او انهم في الحقيقة تركوا خصومهم يسيسون، تبعاً لمشروع مفترض اقتصادي ودولتي، بينما ألقوا هم السياسة جانباً.
لكن الأمر أفدح اذا علمنا ان برنامج التيار الوطني الحر ليس سوى مشروع الحريري وأنه مبني على الخصخصة ومن عواقبها التعاقد الوظيفي. إذا علمنا ذلك فهمنا شيئاً غير التسييس، فهمنا شيئاً مقطوعاً عن السياسة بالكامل، اذ لا يرتد الى سياسة معلنة ولا الى مشروع سياسي اقتصادي من اي نوع. ليس سوى النكاية هنا ومحاشرة الآخر بدون عنوان ولا موقف. اما حزب الله فليست له سياسة اقتصادية اساساً وخطواته المطلبية لا تندرج في أي برنامج، اذا علمنا ذلك بدا لنا ان التسييس أي إدراج الموقف والممارسة في سياسة ورؤية سياسية هو ما ينقص تماماً. هو ما تتخلى عنه المعارضة عياناً ويصطف الحكم معها بينما يترك البلد بلا سياسة.


عباس بيضون
المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...