غسان الرفاعي: ما فائدة عقاقيرنا إذا اختفت أمراضهم!

18-01-2010

غسان الرفاعي: ما فائدة عقاقيرنا إذا اختفت أمراضهم!

-1- إنه لأمر مستغرب أن تستهل دورية معاصرة جداً, متخصصة (بالتقنيات الفلسفية المعقدة) ملفاً رصيناً وعميقاً عن (ميتافيزيقية الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني) باستشهاد نُقل عن ونستون تشرتشل, رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الثانية, يتحدث فيه عن دول البلقان التي وصفها بأنها (بلاد تنتج التاريخ أكثر من قدرتها على تحمله), ويزداد استغرابنا حينما يتصدر المقال الرئيسي في الملف قول لـ (جان بول سارتر) يقول فيه: (إننا نشعر بالانشطار الموجع حينما نزور هذا الجزء من العالم, كأننا نعيش مأساة شخصية, لا قدرة لنا على تجاوزها..) وقول آخر للفيلسوف (ايمانويل لوفيغا), بعد زيارته لأطلال مخيم صبرا وشاتيلا, عام 1982: (الإنسان أكثر قداسة من الأرض, حتى ولو كانت أرضاً مقدسة, وحينما نعتدي على الإنسان تبدو لنا الأرض مجموعة أحجار وأخشاب, لا أكثر ولا أقل..).

-2- ‏

الأحداث تحرضنا, وتفورنا, وتبتز منّا ردود أفعال اعتباطية, ساخنة. إن دور الفكر أن يحذر قبل الحدث, أن يتفاعل أثناء الحدث, وأن يتعظ بعد الحدث, ولكن الفكر عندنا يسهو قبل الحدث, ويتحامق أثناء الحدث, ويلطم بعد الحدث. ‏

يحق لنا أن نتساءل: هل تعطل الفكر عندنا, أو لعلّه قد ألغي لحساب سلطة دينية مستبدة, تزعم أنها تعرف كل شيء, أو لحساب سلطة سياسية أكثر استبدادا, تزعم أنها قادرة على أن تدبّر للناس أمورهم, وعلى أن تفكر بدلاً منهم, وحين يستمر التعطيل زمناً طويلاً, يعتاد الناس على إلغاء عقولهم, حيث يبدو الاستبداد, والاعتداء على قانون التناقض أمراً مألوفاً ومعقولاً, وحين يقترن الصدأ العقلي بعامل الخوف من التفكير الحرّ, فإن العقول قد تفقد قدرتها على ممارسة وظيفتها, حتى حين تزول الأسباب التي تدعو إلى الخوف والهلع. ‏

-3- ‏

قد يتعذر علينا, ونحن نخوض في حمامات الدم, ونثار الخرائب, والدجل الإعلامي, في كل مكان في الوطن العربي, أن نتحلى بالصبر اللازم لدراسة أبعاد الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني فلسفياً, أو ميتافيزيقياً. إننا نشعر, ونحن نسمع ونشاهد ما اقترفته الآلة العسكرية الإسرائيلية من جرائم واغتصاب, بحق شعب أعزل طيب متسامح, فلا توفر شيخاً, ولا طفلاً, ولا مقعداً, ولا امرأة, أننا مطالبون بأن نحمل بندقية, وأن ننضم إلى المقاومين, مرفوعي الرأس, لا أن نستنقع في التأمل الميتافيزيقي, لمعرفة الأسباب الدفينة لهذا الصراع الدموي الذي فُرض علينا, وبودنا أن نصرخ في وجوه الجلادين والقتلة, والمزورين, كما صرخ (إيليا اهربنورغ), الكاتب السوفييتي بالغزاة الألمان, وهم يقتربون من موسكو: (نعم, سأطلق عليكم النار بلذة ونشوة, نعم, سأخرق جلودكم, وأنهش لحمكم, نعم, هذا سيريحني, يحررني, يفجر إنسانيتي, لا تدنسوا أرضي بأحذيتكم القذرة!). ‏

-4- ‏

كان أنضج من ساهم في ملف (فيلوسوفي) المفكر الثوري (روجيس دوبريه), بمقالته حول (الدين هو الملاذ الأخير بعد إفلاس السياسة). لقد قام (روجيس دوبريه), الذي رافق الثائر العملاق (جيفارا) وسجن معه في بوليفيا, بعدة جولات في الشرق الأوسط, أجرى خلالها لقاءات معمقة مع كبار المثقفين, في مصر, ولبنان, وسورية, والعراق, والمغرب العربي, وله مؤلفات كثيرة أهمها (الثورة داخل الثورة), و(نقد الفكر السياسي), و(النار المقدسة). ‏

يروي (دوبريه) أن أخطر تطور يهدد السلام في الشرق الأوسط هو قرار المنظرين الإسرائيليين استبدال الدولة بالأرض, وهذا معناه الاستنجاد بالتاريخ الديني, وبأسطورة الشعب المختار, وإعطاء بُعد جغرافي لأيديولوجيا دينية متزمتة, والإصرار على يهودية الدولة, وأن (القدس هي العاصمة الأبدية). ويدعم المستوطنون الذين اغتصبوا الأرض عنوة الزعماء المتطرفين الداعين إلى استبدال الدولة بالأرض, لأنهم يحلمون بتوسيع مستوطناتهم في كل مكان, بدعوى أنهم (يستعيدون الأرض التي وعدهم بها الرب) وهؤلاء المستوطنون لا يشكلون الأقلية المعطلة داخل أي تحالف حكومي, وإنما هم (ورقة ابتزاز) دائمة, وعلى جميع من تبقى من اليهود العلمانيين الراغبين في التعايش أن يخضعوا لها. ‏

ويستشهد (دوبريه) بمقطع من مسرحية تعرض في مسارح تل أبيب حيث يسأل مستوطن أحد المهاجرين الجدد: (ما الذي حملك على الهجرة إلى إسرائيل؟ أنت علماني, وتقدمي, ومن أنصار السلام, وقد تكون ملحداً؟ ما الذي دفعك إلى أن تأتي, وتستقر في إسرائيل لو لم يكن هناك نص مقدس, يربط بينك وبين هذه الأرض. إن إسرائيل ليست كندا, ولا هي غينيا, وإنما هي على أرض التوراة..!). ‏

-5- ‏

ويميز (دوبريه) بين الدين والروحانية, ويكتب بعد جولته الطويلة في بلدان الشرق الأوسط: (تبيّن لي أن المسافة بين ما هو ديني وروحاني كبيرة جداً: الروحانية هي شعور داخلي فردي يفتح أمام الإنسان نافذة على المطلق, ولكن الدين هو حكم الجماعة, هو التنظيم, هو الشعور الجمعي) ويقول في مكان آخر: كنت أظن أن الشرق هو مهد الروحانيات التي تشيع التسامح والمحبة, ولكنني اكتشفت أن الشرق هو تناظر بين قلاع مسيجة, وهذا يؤكد ما كنت دوماً أقوله: (إن القداسة هي الانغلاق لا الانفتاح, وحيثما يوجد المقدس تقام الحدود والحواجز, وحينما يقال عن أرض إنها مقدسة فهذا معناه أنها محاطة بالمتاريس والجدران العازلة, عنصرية كانت أم اجتماعية؟ ويتساءل (دوبريه): (ألم يتحول الشرق إلى غيتويات محاطة بالأسلاك الشائكة بعد أن تكرس النموذج الاسرائيلي؟) ويعترف, في كثير من الاحباط: (يحرج الشرق الغربيين لأنه يذكرهم بجذورهم, ويضعهم وجهاً لوجه أمام الهويات التاريخية...). ‏

-6- ‏

الصديق جورج طرابيشي, في كتابه الجديد الذي لم ينل ما يستحق من عناية ودراسة: (هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية) يرى أن المفهوم الوحيد الذي لم يأخذ طريقه إلى (التبينة) هو العلمانية, بل لعله المفهوم الوحيد الذي لم ينل حق (المواطنة), إذ بقي, على امتداد عقود بكاملها, منبوذاً, متجاهلاً, متحاشياً, إلى درجة أن كاتباً بوزن محمد عابد الجابري لم يجد من حرج, ولا من معارضة في أن يطالب بسحبه نهائياً من القاموس المتداول للفكر العربي, والحجر عليه في (غيتو الممنوع). ‏

والإسهام الجديد لـ (جورج) هو اكتشافه أن العلمانية, هي في جوهرها مسألة سياسية لا مسألة دينية, أي إنها مسألة تابعة للدولة لا للدين, وبالفعل فإن الدولة هي التي تقرر دوماً أن تكون واجهة للعلمانية, ولكن الدولة في العالم الثالث لا تريد أن (تتعلمن), وهي التي لا تطلق الدين من قبضتها. وهذا ينطبق على المعارضة الأصولية أيضاً التي لا تطالب بالحرية الدينية, ولا تطالب بأي سلطة روحية, بقدر أن مطلبها الأول والأخير هو السلطة السياسية. ‏

-7- ‏

ما يرهق جورج حالياً, بعد أن تعافى ونضج, هو اكتشافه المتأخر بعض الشيء لحقيقتين (مفزعتين) تسببان له الشعور بالإثم والمرارة معاً: أولهما, أن الغرب بحاجة إلى أمراض العالم الثالث للتباهي بعافيته, وأن هناك رغبة غير مرئية في استمرار وتفاقم المجازر والانتهاكات فيه خلف الاستنكار المعلن لما يجري فيه. ما افظع هذا الاعتراف الذي كتبه أحد كبار مفكري الغرب (باسكال بروكنز) في كتابه المثير: (اكتئاب الديمقراطية): (نحن الذين نستنكر المآسي التي تجري في العالم الثالث, ونسخر من طغيان بعض زعاماته وقادته من أمثال بوكاسا وبوتو وبول بوت, ولكننا نتمنى من أعماقنا أن تستمر هذه المآسي, وأن يبقى هؤلاء الطغاة في عروشهم, ما قيمة ديمقراطيتنا وحريتنا إذا زال الرافضون لها..؟ لا فائدة من أدويتنا وعقاقيرنا إذا اختفت أمراضهم وأوهامهم؟). ‏

وثانيهما, أن العالم الثالث, بالنسبة للغرب هو مقبرة (للنفايات العقائدية) التي يريد التخلص منها. ما أفظع هذا الاعتراف الثاني لـ (باسكال بروكنز): (لقد جربنا كل القذارات الايديولوجية, ثم صدرناها إلى العالم الثالث, فإذا بزعمائه يجعلون منها مكاسب وانجازات, صدقوني, إذا نجح العالم الثالث في إقامة حكم ديمقراطي أمثل, فقد نعلن إفلاسنا ويستشهد بروكنز بالطاغية كاليغولا الذي كان يشكو من سوء حظه بسبب عدم حدوث الكوارث في عهده, كان يتمنى, على الدوام, أن تنتشر المجاعة في كل مكان, وأن يبيد الطاغية كل البشر, أو أن تعم الحرائق, وأن تلتهم ألسنة اللهب البيوت والحقول. ‏

‏ -8- ‏

ينتهي ملف (فيلوسوفي) بمناظرة بين المفكر الفرنسي اليهودي آلان فينكلكروت والياس صنبر مندوب فلسطين في اليونسكو إذ يعلن المفكر اليهودي أن الإسرائيليين خائنون, ولا يمكن أن يحيوا حياة طبيعية قبل التحرر من هذا الخوف وردّ عليه الياس صنبر: (إن خوف الإسرائيليين يخيفني, وكأن لا شيء يمكن أن يوفر طمأنتهم. إنهم, في لا شعورهم الجمعي يرفضون السلام لأنهم عاجزون عن الاقتناع به, إذا ما ابتلعوا الضفة الغربية سيتحدثون عن الخوف من الأردن, وإذا ما تحكموا بالأردن فسيتحدثون عن الخوف من السعودية. لا أعرف لماذا تفوت إسرائيل فرصة تاريخية, برفضها مبادرة السلام العربية, إذ لا يوجد عرض أكثر سخاء وكرما منها: 22 دولة عربية على استعداد للتطبيع مع إسرائيل, وقبول دمجها في نسيج الشرق الأوسط العربي مقابل انسحابها من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967, وما زالت تغتصب جزءاً كبيراً منها حتى الآن!). ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...