دفتردار الهباء

17-06-2009

دفتردار الهباء

مقالة في ثلاث حركات
الحركة الأولى: يقطعني عليك يا أخي
من أجمل ما قرأت للكاتب السوري الفذ سليم بركات مسرودة طويلة نشرها ذات يوم في مجلة "الكرمل" الفلسطينية بعنوان: "دفتردار الهباء".
أتذكر هذا العنوان، وأتذكر معه اللعب والجد والجنون والعبث والحرائق والمساخر والفراغ والعنف والبؤس والفوضى والتراجيكوميديا الاجتماعية والإنسانية التي أوغل سليم بركات في رسمها وتلوينها بأسلوب لغوي متفرد ضمن هذه السلسلة الروائية العظيمة التي ابتدأت مع "الجندب الحديدي" و"سيرة الصبا".. وشهقت مع "دفتردار الهباء".
سبب تذكري لعالم سليم بركات الروائي الآن.. أن رجلاً أحبه وأحترمه، وأرتاح لمرآه وصمته، اطلع على مقالة لي سابقة واعترض على ما فيها من ضحك على الناس الذين يعمرون طويلاً، فإذا مات الواحد منهم وهو في التسعين من عمره مصمص إخوته عليه الشفاه وقالوا: المسكين انقرف قرف مثل العود اليابس!
وأقول لهذا الشخص العزيز: أرجو أن تعيد قراءة المقالة، وتنتبه إلى أنني لم أقصد الضحك على الشخصيات الإنسانية لآبائنا وأعمامنا المحترمين الذين تناولتُهم فيها، حاشا وكلا، بل قصدتُ نقد الفراغ والخواء والهباء واللامبالاة واللاجدوى التي حكمتْ وما تزال تحكمُ حياةَ معظم أفراد مجتمعنا الذي نريد له أن يضع قدماً في معراج الحضارة الإنسانية، ونسعى، رغم ضآلة إمكانياتنا، لمنعه من الانقراض الذي يتنبأ به الأستاذ أدونيس.
وبما أنني لا أحب الإسهاب في الأحاديث ذات الطبيعة النظرية، سأروي لك الحكاية التالية التي توصلنا لما نريد:
قبل أيام، وبينما أنا جالس وراء كومبيوتري، أشتغل على مشاريعي الكتابية المتنوعة، إذ رن موبايلي، نظرت إلى الشاشة فوجدت عبارة (لا يوجد رقم) مرتسمة عليه، فتحت الخط وإذا بشخص عزيز علي- شرواك- من معارفي القدامى، وبمجرد ما قلت (ألو) سارع إلى إفهامي أن خطه الهاتفي لا يوجد فيه (صفر)، وأنه اشترى بطاقة (الو سورية) من أجل أن يحكي معي، فهو لا يعرف رقمي الأرضي، والاتصال بالموبايل غير ممكن من دون صفر.
قاطعته قائلاً: مفهوم مفهوم. امْلِ علي رقمك الأرضي وأنا أتصل بك، وأرجوك أغلق الخط لئلا تستهلك المزيد من رصيد البطاقة.
المهم، اتصلت به، وعرفت منه ما يريد.
إنه يعيش مع أسرته المؤلفة من أولاده الثمانية- وأمهم (إلهام)- في بيت ينتمي إلى جنس المساكن الشعبية إلى الجنوب من مدينة إدلب، يتألف البيت من ثلاث غرف وموزع (الموزع يقال له في بعض المدن السورية: المَحْشَك)، وقد شب الأولاد وكبروا فيه، وكلما زادوا واحداً كان يضطر إلى تنسيق أو بيع بعض قطع الأثاث لكي يجلس المولود الجديد في محلها!.. دواليك حتى أصبح بيته جلداً على عظم، وانطبق عليه المثل القائل: على الأرض يا حكم.
حصل الولد الكبير بين مجموعة أولاده الذكور على شهادة البكالوريا الأدبي بشق النفس، وبمجموع يشبه الطعام الذي يخلو من أية فائدة للجسم ولكنه يمنع الإنسان من الموت، واكتملت لحيته، ونبق شارباه إلى الأمام وكأنهما في حالة استنفار (مية بالمية!)، ووقتها ناحت العمة الكبرى قرب رأسه- مثلما ناحت الحمام قرب رأس أبي فراس الحمداني- وقالت له:
- الله تعالى يبعث لي حمى وداء السل، ويقطعني عليك يا أخي، ماذا سيقول الناس حينما يرون ابنَك الذي إذا ربطتَهُ في شجرة التوت وأجفلتَهُ يقتلعها من شروشها.. قد بقي من دون زواج، وبقيت أنت، يا حسرات قلبي عليك، من دون أن ترى خلفة أولادك؟!
ومع أن صديقي هذا طيب جداً، ورقيق جداً، وإذا رأى نملة ماشية على الأرض يبعد قدمه عنها لئلا يدوسها بالخطأ ويجعلها تستشهد في سبيل العيش،.. ويستحيل أن تخطر في باله فكرة (قتل) ابنه، فقد شرع الناس يتلون عليه الآية القرآنية الكريمة من سورة الإسراء (لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم). ويقولون له: زَوِّجْهُ واخلص من همه! فَزَوَّجَهُ، تصور، دون أن يكون له عمل أو وظيفة، وأسكنه وزوجته معهم في البيت ذي الغرف الثلاث والمحشك!
الحركة الثانية: كل واحد إلى مكانه
نحن كتاب العالم الثالث قلما نندهش، لأنه لم يبق شيء في العالم لم نره ولم نعشه، من الكذب، إلى النفاق، إلى الخطط الاقتصادية الوهمية، إلى الخطابات التي يفاخر (خاطبوها) بأنهم يقفون إلى صف العمال والفلاحين وذوي الدخل المحدود، بينما هم، في الواقع، يلعنون سنسفيل أجداد العمال والفلاحين وذوي الدخل المحدود،.. إلى الوقوف في وجه مبدأ تكافؤ الفرص، إلى الاتجار بالوطنية، وتفريخ الكتاب الصغار الذين لا شغل لهم غير المزاودة على الكتاب الوطنيين، والتلويح لهم بالوشايات الكاذبة التي تجدُ لها في كل وقت آذاناً صاغية..
ومع ذلك فقد اندهشت حينما اتصل بي صديقي الذي حدثتكم عنه قبل قليل.
لقد اتصل بي من بطاقة (ألو سورية) لأنه لا يمتلك موبايلاً، وخَطُّهُ محجوب عن النداءين القطري والدولي، لأنه فقير، بائس، مسكين، لا يهش ولا يكش ولا يعض ولا يخرمش.. ولا شوكة له ولا ذباحة، ولا ناقة له ولا جمل، يمشي بجوار الحائط ويقول: يا رب سترك..
إنه يعيل ثمانية أولاد- وأمهم إلهام- ويسكن معهم في بيت من جنس المساكن الشعبية، يتألف من ثلاث غرف من دون صالون،.. ويطعمهم من أدنى (ما تطعمون أهليكم)، أو مما يصطلح عليه أحياناً باسم (قوت اللايموت)، ويصطلح عليه أحياناً أخرى باسم (حشو المصارين)..
اندهشت، إذن، على نحو كبير، حينما أعلمني بأنه زَوَّجَ ابنَهُ الكبير في (نفس) البيت الذي يسكن فيه مع أولاده الثمانية وأمهم إلهام!
قلت: عفواً للمقاطعة، واعذرني على (حشريتي) وتدخلي فيما لا يعنيني. أرجوك قل لي، كيف توزعتم في البيت بعد قدوم زوجة المحروس، كنة الهنا؟
ضحك على طريقة الشيخ إمام في أغنية "البحر بيضحك ليه ليه ليه" حينما يغني من كلمات نجيب سرور:
مساكين بنضحك من البلوى
زي الديوك والروح حلوة
سارقاها من السكين حموة
ولسه جوة القلب أمل
وقال لي: اسمع هذه الحكاية وخذ منها عبرة. من زمان يا أستاذ كانت توجد في قرية (حربنوش) الجبلية التابعة لبلدة (معرتمصرين) سيارة سائحة عامة ذات خمسة مقاعد ماركتها (دوزوتو) ولكن أهل المنطقة كلهم يلفظونها (ضوظوطّو)،.. كانت تعمل على البنزين ولكن الميكانيكيين الأرمن أصحاب الأنامل الذهبية استطاعوا أن يحولوها إلى (الديزل) ودَبَّلوا لها المقصات الحديدية السفلية، فأصبحت قوية ومجنحة مثل عربة (البتي إر) السوفييتية، وكان كل الركاب الذين يأتون من حربنوش إلى معرتمصرين من أجل إنجاز معاملاتهم الإدارية والتسوق في بازار معرتمصرين يركبون فيها مهما بلغ عددهم، وكان سائقها يكرجها في الفيء بجوار (مقهى الشايب) حتى يخرج الناس من صلاة الظهر، فيتجمعون بجوار المقهى، فإذا ما اكتملوا أوعز لهم السائق بالصعود إلى السيارة وانطلق بهم..
ولم تكن تلك المنطقة قد سمعت، يومذاك، بشيء اسمه شرطة المرور، إلى أن جاء يوم، يا مرحوم البي، وبينما كانت السيارة تمشي وتتمايل ببطء مثل بعير نُصب على ظهره هودج لعاشقين من أبناء الذوات، وإذا بشرطيين واقفين عند مفرق قرية (كفر اليحمول)، استوقفاها، وطلبا من الركاب أن ينزلوا، وبعد أن نزلوا طلبا من السائق تقديم أوراقه لكي (ينفضوه) بضبط مخالفة (لا يقف عليه حكيم!). وفجأة خطرت لأحد الشرطيين فكرة نفذها في العجل. عد الركاب فوجدهم تسعة عشر راكباً (ونصف راكب كما كتب المرحوم فارس زرزور في قصته الشهيرة: واحد وأربعون راكباً ونصف!).. وقال للسائق:
- أنا مستعد لأن أعفيك من ضبط المخالفة إذا أنت شرحت لي الكيفية التي استطعت بموجبها إركاب كل هؤلاء البشر ضمن سيارتك الصغيرة هذه.
قال السائق للشرطي: بسيطة.
وقال للركاب: كل واحد يصعد إلى مكانه!
فتعربشوا بالسيارة وتموضعوا في أماكنهم بسرعة البرق.
انتهى صديقي من رواية الطرفة، ثم قال لي:
- ركابي أنا في البيت مثل ركاب سيارة حربنوش. كل واحد منهم يعرف كيف (يدبر رأسه). والكنة الجديدة سرعان ما انخرطت في جونا وصارت مثلنا.
الحركة الثالثة: جهنم بالعز أفخر منزل

صديقي القديم الذي اتصل بي هاتفيا ليعرض علي مشكلته ينتمي، كما علمتم، إلى شريحة أصحاب الدخل المحدود، ويعيش مع أسرته المؤلفة من ثمانية أولاد (وأمهم إلهام!) في منزل من جنس المساكن الشعبية، يتألف من ثلاث غرف وموزع، والسقف عنده واطىء- كما قال لي- وفي الشتاء ينشُّ بالماء والرطوبة، زيادة في النكاية..
نسيت أن أقول لكم إن ثمة جانبين محببين في شخصية هذا الصديق، أولهما أنه ذو ثقافة أدبية واجتماعية لا بأس به، وثانيهما أنه يسخر، حينما يجد الوضع يستحق السخرية، من نفسه أحياناً، ومن الظروف التي غرق فيها أحياناً أخرى.
أبلغني هذا الصديق، بكل طمأنينة وراحة بال، أنه زَوَّجَ ابنه الأكبر في المنزل نفسه، فتحول البيت إلى (جهنم). واستطرد قائلاً:
دعني أذكرك بعزة النفس (الجهنمية) التي كانت لعنترة بن شداد- الله يرحم أمواتك ويرحمه- حينما قال:
جنةٌ بالذل لا أرضى بها
جهنمٌ بالعزِّ أفخرُ منزل!
وأضاف: لقد أخبرتك أن كنتي قد انسجمت مع (ركاب) البيت فما عاد أحدٌ يتذكر، أو يستطيع أن يحدد التاريخَ الذي انضمت فيه إلينا، وقد زاد انسجامها مع الجو عن الحد المألوف حينما أخذت تلدُ- أو بلغة أهل معرتمصرين: (تبظُّ)- ولداً كلما حال الحول!
وأوضح: إن الولد الذي يبلغ عمره حولاً واحداً يسمى- بلغة مُرَبّي الجِمَال- (الحايل). والحايل بدوره يتقمص شخصية والدته في مجال الانسجام مع الجو، فيحبو، وينسلُّ ساعياً في الفراغات المحدثة وسط الازدحام، تاركاً والدته ترعى أخاه الصغير ابن اليومين،.. ووالدتُه، بدورها، تتحين الفرص مع زوجها، يعني ابني الأكبر، لاختلاس لقاء مدته خمس دقائق يؤدي إلى (التوصية) على ولد قادم!
باختصار يا أستاذ، الآن، في هذه اللحظة التاريخية، وأنا أحكي معك، صار عدد أولاد ابني خمسة، وزوجته حامل، وصار مجموع أفراد الأسرة التي أعيلُها أنا ست عشرة نسمة.
قلت: تقصد خمس عشرة نسمة، ولها معيلان إثنان، وليس واحداً.
قال مستغرباً: من هو المعيل الثاني؟!
قلت: ابنك الذي تزوج وشرعت امرأتُهُ (تبظُّ) أولاداً بمعدل ولد واحد في كل حول!
ضحك وقال: هذا هو بيت القصيد، كما تقولون أنتم الشعراء، ومربط الفرس، كما يقول جماعة الإسطبلات، وكل اللعبة على هذه (الحباية)، كما كان يقول لاعبو الكشاتبين في حارة بحسيتا بحلب أيام زمان.
قلت: لو لم تكن لغتنا نحن الكتاب مهذبة أكثر من الحد المقبول لحلفتُ لك بالطلاق الإدلبي المثلث على أنني لم أفهم ما ترمي إليه كلمة واحدة.
قال: أنا أيش عندي شغلة؟ أفهمك! وبالطبع لست خائفاً على رصيد بطاقة (ألو سورية) التي أمتلكها، فأنت كنت معي كريماً جداً حينما اتصلت بي من تلفونك وجعلتني أحكي على حسابك. أخي، أستاذ، أرجوك اسمعني وركز معي، المديرية الفلانية، التي يديرها صديقُك الأستاذ محمد، فيها فرصة عمل بعقد عمل مؤقت لمدة خمسة وثمانين يوماً، وأنا الآن أحكي معك لكي تقف معي في مواجهة ظروف الدهر، وتهبَّ لنجدتي، فتتصلَ بصديقك الأستاذ محمد، وتطلبَ منه أن يعيِّنَ ابني الأكبر هذا بعقد مؤقت لمدة خمسة وثمانين يوماً، عساه براتب الأشهر الثلاثة الناقصة خمسة أيام هذه أن يسند معي، من مبدأ الحصاة التي تسند الجرة، أو يريحني من مصروفه ومصروف القسم الخاص به من عائلتي الجهنمية لمدة خمسة وثمانين يوماً، وبعدها يحلها الحلال.
وضعت يدي على ما أبقى الدهرُ من شعرات في رأسي، فقد أحسست بهن يرتفعن إلى الأعلى كشوك القنفذ، وقلت له:
- أفهم من هذا الكلام أن ابنك حينما تزوج لم يكن يعمل؟!
قال: أكذب عليك إذا قلت لك إنه اشتغل بما قيمته قرش سوري واحد من يوم أن تزوج، لا بل، من يوم أن خلقه الله! وكذلك أخوه الذي يطلب مني أن أزوجه.. أسوة بأخيه!
 

خطيب بدلة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...