الشيخ محمد توفيق البوطي : هكذا عاش الوالد.. وهكذا مضى

07-07-2013

الشيخ محمد توفيق البوطي : هكذا عاش الوالد.. وهكذا مضى

العلامة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، أحد كبار مرجعيات العالم الاسلامي، عاش حياته داعياً إلى الله بالكلمة الطيبة. من عرفه وعايشه يصفه بأنه جريء في كلمة قول الحق.. كان له موقفاً واضحاً إزاء مواجهة المؤامرة على بلاده التي انطلقت عام 2011، وثابتاً في الوقوف بوجه فتنة أغرقت وطنه بالدم. فكان عرضة للاستهداف والتهديد.. الذي واجهه العلامة الشهيد بمزيد من الثبات.. فهدر أهل الفتنة دمه ليلبي نداء ربه شهيداً في محرابه.

بغصة وحنين وتأثر بالغ يستذكر رئيس اتحاد علماء بلاد الشام الشيخ الدكتور محمد توفيق البوطي في حديث خاص إلى موقع المنار محطات عايشها مع والده.. يرتجف صوته مستذكراً مجالس العلم والتفاف العائلة حوله في الأعياد، يتحدث بإسهاب عن حنو العلامة البوطي ورقة قلبه وصفاء سريرته، عن بكائه وتضرعه عند ذكر نبي الرحمة(ص) وذوبانه في مناجاة الله... عن علاقته بوالده ملا رمضان البوطي.

في منزل العائلة، كان الملا الجد هو المرجعية لصغيرها وكبيرها.. يقول البوطي الحفيد انه عندما شارف على أن يكون جداً كان لا يخرج من البيت الا بعد الحصول على بركة جده، ما كان يكسبه نوعاً من الطمأنينة والراحة النفسية.

"حياته كانت مثالاً للاستقامة والعبادة والإنصراف عن الدنيا إلى الله.. عندما نقرأ آية "وبالأسحار هم يستغفرون" أستذكر الملا رمضان البوطي، الذي كان يستيقظ منذ الساعة 11 ليلاً حتى الفجر في رحلة مع ربه.. كنت أطمئن عليه في ساعات متأخرة،  فأجده ساجداً خاشعاً".

ارتباط العائلة وتعلقها واحترامها للملا رمضان انتقل بعد وفاته عام 1990 عن عمر  ناهز 105 عاماً، الى  نجله العلامة محمد سعيد البوطي، "صار مرجعنا.. في وقتها كنت انطلقت في تدريسي في الجامعة، ولكن لا أتحرك ولا أقرر إلا بالعودة إلى الوالد ، وأخذ موافقته ورضاه، كنت استريح لقراره ثقة مني ببعد نظره وخبرته واحتراماً له وادراكاً مني لصدق نصائحه"، يقول د. البوطي.

صباح كل إثنين للعائلة موعد مع مجالس الذكر، كل في منزله وأحياناً بشكل مشترك لكل عائلة صغيرة.. "عندما كان الوالد يتواصل معنا عبر الهاتف أول ما يسأل: هل انهيتوا من الذكر؟.. كان يريد أن يطمئن أننا أدينا ما ربينا عليه ، كنا لا نرضى بالتقصير ، ولا يرضى منا التقصير".

على مدار عمره ، خصص العلامة البوطي مجلس علم للعائلة، كان اجتماعاً للمذاكرة العلمية وصلة الرحم، يوم لرجال العائلة، وآخر مخصص للنساء فقط. درّس الشهيد أهل بيته الفقه وسيرة حياة الصحابة.. يقول نجل العلامة الراحل: "كان يصحح لي وأصحح له، المناقشات بيني وبينه كثيرة، كان يتقبل كل ما نقوله، حتى أنه يقول راجع لي هذه المسألة.. كان ملما بهذه المسائل ، الا ان هذا كان أسلوبه في التعاطي معنا ، لم يكن للفرض مكان في مجلسه".

استمرت هذه المجالس، وآخرها كان يوم السبت قبل استشهاده في ليلة يوم الجمعة بتاريخ 21/ 3/ 2013، "الجلسة كانت لآخر درس في كتاب "التربية والسلوك".. قال لنا هذه آخر جلسة لنا في الكتاب ، وسنغيره في المرة المقبلة.. ولم يتغير الكتاب" يقول البوطي الابن بصوت خافت وعيون دامعة.

السنتان الأخيرتان: كيف قضاها العلامة البوطي وحقيقة موقفه من الأزمة؟

الظروف التي شهدتها سورية في السنتين الماضيتين قيّدت من حركة العلامة البوطي، في السنة الأخيرة تحديداً لم يعد العلامة الراحل يؤم صلاة الفجر، كما أنه قطع زيارة قبر الملا رمضان.. يقول الشيخ محمد توفيق في حديث لموقع المنار: "كنا في كل صباح يوم جمعة نقصد الجد –رحمه الله-، منذ فارقناه لم نقطع الزيارة قط حتى ما قبل سنة وعدة أشهر.. عندما افتعل المجرمون المشاكل. لقد قطعوا أوصال البلد!"

قبل عام من اندلاع الأحداث في سورية ، شارك نجل الراحل في لقاء جمع العلامة الشهيد مع أحد كبار الشخصيات السورية. تسلم الاثنان مغلفاً وُصف بالهام وطلب منهما صاحبُ اللقاء الاطلاع على مضمونه، يسرد د. توفيق الحادثة:

"فور عودتي الى منزلي، فتحت المغلف ، كان الموضوع عن مؤامرة تستهدف تقسيم سورية والاستراتيجية التي رسمت لذلك. بصراحة، يومها لم اقتنع بالسيناريو اذ لم يكن بامكاني تخيل واقعيته نظراً للتعايش النموذجي في المجتمع السوري. اتت فيما البعد التحركات في مصر وتونس، تذكرت المغلف ، وعدت إليه مجدداً، لكن بمنتهى الصدق حتى في المرة الثانية لم أتفاعل مع السيناريو".

يتابع نجل العلامة الشهيد: "كان الوالد قد اطلع عليه بدقة، ومن ثم شكَّل ما قرأه أساساً لرؤيته وموقفه الذي بُني على أمرين: الأول، الالتزام بالحكم الشرعي لناحية الخروج على الحاكم واعتزال الفتن. والثاني إطلاعه على ما كان ينقله الثقاة عن تفاصيل تطور الأزمة."

في نيسان/ابريل 2011، وبالتزامن مع بداية الأحداث ، كشف أحد أصدقاء العائلة تفاصيل تتعلق بدور لعبه الصهيوني-الفرنسي برنار هنري ليفي في الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية، شاهد العلامة البوطي ونجله صوراً لليفني في ساحات ليبيا وميدان التحرير في مصر جنباً إلى جنب مع المتظاهرين.. البوطي الذي لم يؤيد الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، لم يكن موافقاً على استبدال "الحمى بالطاعون" – حسب كلام نجل الشهيد- في اشارة الى الدور الاسرائيلي.

كان العلامة البوطي مقتنعاً بأن سورية تتعرض لمؤامرة ، وأنها تدفع ضريبة عدم تقديم تنازل لـ "إسرائيل"، يؤكد نجله أن موقفه كان يمثل " قناعة من يرى لا من  يظن"، فوقف يعبر عن رأيه بصراحة لمواجهة المؤامرة والفتنة التي تستهدف بلاده. ويستنكر بشدة التهجم عليه –رحمه الله- عبر وصفه أنه كان من "علماء السلطة" إذ لم يكن العلامة محمد سعيد رمضان البوطي "يتكلم ارضاءً لزيد ولا اسخاطاً لعمر"، بل بما يمليه عليه ضميره وحسه المسؤول تجاه الأمة.. والكلام للدكتور محمد توفيق.

طلب منه بعض أفراد أسرته تجنب تناول بعض الأمور المتعلقة بالأزمة الداخلية على المنبر، فغضب -رحمه الله- غضباً شديداً، كان يردد بثقه أنه عندما يقف على المنبر ، يجد نفسه ينساق إلى الحديث عن هذا الموضوع وبدون تحضير حتى.  يقول نجله إن العلامة البوطي كان يرفض أن يبحث معه أحد هذا الموضوع استشعاراً منه بالمسؤولية تجاه وطنه وتجاه الأمة، ولطالما ردد أن من يذهب إلى تفجير نفسه وقتل الأبرياء باسم الاسلام ، ومن انغمس في الفتنه لا يمثل الاسلام. رأي العلامة يقتنع به نجله فيتساءل: "كان الوالد لا يتردد في التعبير أن هؤلاء لا يمثلون الاسلام، هؤلاء يقاتلون الدولة والجيش بعنوان الحفاظ على الاسلام لكن من يمثلهم؟ برهان غليون الملحد الذي شتم بوقاحة الرسول(ص) ، وقد طرد 40 سنة من سورية بسبب شتمه الرسول، أهذا من يطرحونه في مشروعهم السياسي لسورية؟!".

توفيق البوطي: "الثورة" اصطّنعتها الفبركات الاعلامية.. ونأسف لموقف حماس

في حديثه يستسرل نجل العلامة الراحل في الدفاع عن صوابية موقف والده.. يقول إن علاقات شخصية جمعته بأشخاص انغمسوا لاحقاً في مشروع الفتنة.. يصفهم بأنهم "احترفوا الكذب". يعرج على التحريض الاعلامي، وما سُخر لهم من تمويل ضخم، يتحدث عن فبركات طبَّل لها الاعلام الفضائي حتى "اصطُنعت الثورة في سورية".. لا يسنى  د. توفيق البوطي خبراً طبَّلت له الجزيرة على مدار أيام ثلاث عن تظاهرات صاخبة خرجت في الجامعة التي يدرس بها طلاب دراسات عليا ، وادعت الفضائية القطرية أن راح ضحيتها شهيد يُدعى "فادي الصعيدي".. بعد اسبوع وفي مجلس للطلاب، اجتمع البوطي بنحو ثلاثين طالباً فقط شاركوا في التظاهرة "الضخمة".. وكان الشهيد المزعوم بينهم، حاضراً ومستمعاً حياً يرزق! من فبركات الفضائية القطرية الأخرى أخبارها عن تظاهرة حاشدة أمام مسجد الملا رمضان البوطي.. يجزم البوطي أن المرة الوحيدة التي احتشد فيها عدد من الشبان امام المسجد كان عددهم لا يفوق سبعة أشخاص. يصمت إبن العلامة الذي تصدى لهذه الأكاذيب بموقف شجاع، ليعلق بغصة "اصطنعوا الفوضى وخربوا البلد وقتلوا الأبرياء.. لإن بدهم حرية، هي حرية القتل وكم الأفواه وحرية مصادرة الحرية"..

يرى الشيخ توفيق البوطي أن سورية دفعت ضريبة موقفها الاستراتيجي الثابت في دعم حركات المقاومة.. يستغل الفرصة للتعبير عن أسفه من موقف حماس "التي فتحت لها سورية قلبها واحتضنتها".. يقول إن مسؤولاً من حماس إلتقاه في مطار اسطنبول أثناء سفر البوطي إلى روسيا، أكد القيادي الحمساوي يومها أن موقف الحركة لم يتغير من سورية ، إلا أن الفلتان الأمني أشعرهم بالتهديد واضطرهم للخروج.. "اليوم تعج صفحة هذا القيادي نفسه على الانترنت بشتم سورية والنيل منها، علماً أن سورية قدمت لهذا الشخص بالذات الكثير وهو لا يستطيع أن ينكر ذلك"، يردف د. البوطي رافضاً تسميته.

سنحرق البوطي ونحرق الأسد

مواقف الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي من أزمة بلاده.. وجرأته في الحديث عنها ، كما دعواته لنبذ الفتنة ومد اليد.. كانت سبباً كافياً لتهديده واستهدافه معنوياً قبل تصفيته جسدياً.

الحي الذي يقطن فيه العلامة الشهيد، كما أحياء محافظات سورية، كان فيه من الغوغاء، عدد أهالي الحي الذي يقطنه مليون نسمة، لم يحل دون قيام عشرات الغوغائيين بكتابة شعارات مسيئة على الجدران، تتضمن تهديداً صريحاً.

"سنحرق البوطي ونحرق الأسد" الشعار المسيء والتهديد الصريح حملته العائلة على محمل الجد، الا أن نجل العلامة البوطي يشير الى أن التهديد الأكثر جديةً الذي تلقته العائلة كان بفتوى القتل التي صدرت عن الشيخ يوسف القرضاوي الذي يصفه الشيخ توفيق البوطي متجنباً التصريح باسمه بأنه " بايقاظ الفتنة وتبنيها... هو بالتحديد بدأ يحصد ما زرع".. ثم أتى كلام عدنان العرعور بـ "نحر البوطي" قبل 3 أيام من استشهاد -رحمه الله- على احدى الفضائيات.

لم يتوقف الأمر هنا ليأتي كلام أحد تلامذة العلامة البوطي شيخ قراء الشام كريم راجح متشمتاً باستشهاد العلامة البوطي.. يعلق نجله متساءلاً: "هل سينال هؤلاء شرف الشهادة التي نالها الوالد بالزمان والمكان".

الرؤيا: إما نصر قريب أو أجل!

قبل 10 أيام من استشهاده، أسرَّ العلامة الراحل إلى حفيده الذي كان يلازمه ومساعده الخاص رؤيا، لم يشأ أن يخبرها إلى نجله.. لكنه اكتفى بالقول: "رأيت رؤيا تأويلها إما أن يكون نصر قريب جداً أو أجل والله العالم"، فرد نجله الذي كان مطلعاً على تفاصيل الحلم من ولده "إنه الفرج إن شاء الله".

استشعر البوطي دنو أجله، فلازمه في آخر أيامه الحديث عن الشهادة ومنزلة وفضل الشهداء، فتناولها في آخر خطبة جمعة بتاريخ 15/ 3/ 2013.. وأشار إليها في حديثه في برنامج "مع البوطي"، الذي تم تسجيله قبل من يوم من اغتياله.

ليلة الجمعة.. البوطي شهيداً في محرابه

الاجراءات الأمنية المشددة التي كانت تلازم العلامة البوطي يوم الجمعة في المسجد الأموي، لم تكن نفسها في جامع الايمان الواقع في حارات الحي الذي يقطنه العلامة الشهيد.. أكثر من مرة اعترض تلامذة الشيخ أنهم يتعرضون للتضييق أثناء تفتيشهم من قبل الأمن لدى حضورهم إلى الدرس، فطلب العلامة ايقاف ذلك وعدم التضييق على الراغبين في حضور الدرس.. التزمت السلطات بطلب العلامة الشهيد.

مساء الخميس في 21/ 3/ 2013، وبعد بدء درسه بنحو نصف ساعة دخل إلى المسجد شاب لم يُعتد عليه أنه من تلامذة العلامة الراحل، ولم يكن موضع اثارة للشبهة كونه ارتدى قميصاً رقيقاً كما أنه لم تظهر عليه علامات تدل أن بحوزته شيء، دخل المسجد وجلس في الصفوف الخلفية على بعد ستة أمتار من العلامة البوطي.. بضع دقائق لم تتجاوز العشر تقدم الرجل خطوات بين المصلين وفجّر نفسه!

قضى العلامة البوطي ومعه حفيده –نجل الشيخ توفيق البوطي- الذي أقبل نحوه مطمئناً ثم ما لبث أن سقط متأثراً بجراحه.. وسقط العديد من تلامذة الشهيد.

في لقائنا مع د. محمد توفيق البوطي تعرفنا على شاب كان صديقاً لنجله لا يلازمان العلامة البوطي لحمايته.. يقول الشاب إنه حضر بعد وقوع الجريمة لاسعاف العلامة البوطي، حمله مع صديق آخر له من على الكرسي فثقل جسده عليهما؛ وكأنه يريد منهما أن يدعاه.. تركوه فخر ساجدا على الأرض، حتى فاضت روحه أثناء السجود.

بتأثر بالغ يستمع الشيخ البوطي إلى هذه الكلمات.. يصمت ويعود للتعليق "أكبر قسط دفعته سورية ممثلة بعلمائها هو استشهاد الامام الشهيد.."، يكشف أن المؤامرة على وطنه حصدت أرواح نحو أربعين شخصاً من علماء سورية.

يسخر من رمي النظام بتهمة اغتيال العلامة الراحل معلقاً: "المجرم دائماً يحاول أن يمسح آثار الجريمة بغيره، العربية اتهمت ولدي بقتل جده! قالوا ان رجلاً كا يقف أمامه هو من قتله! فلا غرابة ان اتُهم النظام".

إسراء الفاس

المصدر: المنار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...