الذكرى التاسعة لبدء غزو العراق: 10 آلاف عام ينهبها اللصوص والاحتلال والجيران وإسرائيل
عندما دخلت الآلة الأميركية إلى العراق كانت قد رسمت تصوراً دقيقاً لبلد عمر حضارته يفوق على أقل تقدير العشرة آلاف سنة، ولأرض تضمّ إضافة إلى ملايين القطع الأثرية والأختام الاسطوانية والأيقونات والمخطوطات والمستندات، بما فيها التوراة بنسخته الأصلية، قبوراً ومراقد لأنبياء وأئمة وأولياء وخلفاء وصحابة، تشكل إرثاً حضارياً في المدن القديمة كالزقورات وهي معابد مدرجة والملويات والجنائن والأبراج.
إضافة إلى قبب المراقد والأئمة، الطينية منها أو الذهبية، كقبة الإماميين العسكريين في سامراء المحمية من قبل «اليونسكو» كأكبر قبة ذهبية في العالم، هناك تاريخ بدأ من قبرَي آدم ونوح حيث أرض الغري في النجف الاشرف، وصولاً إلى «السرداب» وهو مكان الغيبة الصغرى الذي اختفى فيه، بحسب المذهب الاثني عشري، آخر الأئمة المهدي المنتظر في سامراء.
ويبقى عمر حضارة العراق وتاريخها أكبر من أن يختزل في سطور أو متحف، وهو واقع يزيد من فداحة عدم احترام الولايات المتحدة، كما أغلب دول العالم، لاتفاقية «اليونسكو» 1970 أو القرار الأممي الرقم 1483 الصادر في العام 2003، والذي جرّم المتاجرة بالآثار ودعا الدول إلى إعادة الآثار العراقية أينما تكون على أراضيها.
في 12 نيسان من العام 2003، أي بعد ثلاثة أيام من دخول القوات الأميركية بغداد، حمت تلك القوات وزارة النفط دون غيرها من الهيئات والوزارات، فيما تركت الأبواب مشرعة لعصابات منظمة ومشبوهة للانقضاض على إرث العراق الحضاري وهويته الثقافية الإنسانية. وكان المتحف الوطني العراقي أولى ضحايا الغزو الأميركي إلى العراق وأكبرها...
سرق اللصوص المتحف برمته، وحطّموا ما لم يتمكنوا من سرقته. في تلك الأثناء، كانت القوات الأميركية، على مسافة قريبة قبالة مبنى الإذاعة والتلفزيون العراقي، تتفرّج على نهب المتحف الوطني من دون أن تحرّك ساكناً لحمايته، ولم تنفع توسلات الناس وصراخاتهم، التي لم تتوقف على مدى ثلاثة أيام، في تحريك تلك القوات.
يروي مدير الهيئة العامة للآثار والتراث قيس حسين رشيد، في حديث الى «السفير»، ما جرى قبل سقوط بغداد بأيام، ويقول «تمكنا من إخراج ما استطعنا إخراجه بمبادرات شخصيّة ونقله إلى أماكن أخرى. وعندما دخل اللصوص لم يتمكنوا من العثور على الكثير من التحف الثمينة، لذلك حطّموا بعض القطع كاللقى الكبيرة التي لم يتم إخراجها كونها مثبتة في الجدران، كما تمكن بعض اللصوص من الوصول إلى مخازن المتحف العراقي وسرقة 15 ألفاً ومئة قطعة أثرية. ومنذ العام 2004 لغاية الآن ونحن نقوم بجمع هذه الآثار من الداخل والخارج، علماً أن ما تم استرداده هو 5 آلاف قطعة أثرية، ما يعني ان هناك أكثر من عشرة آلاف قطعة ما زالت مفقودة».
ويؤكد رشيد أن أغلب الآثار المهمة «التي تشكل خسارتها خطرا على الإرث العراقي» تم استرجاعها من الخارج، مثل فتاة الوركاء والإناء النذري وقيثارة سومر وبعض الرُقَم الطينية (وثائق قديمة) والأختام الأسطوانية. فضلاً عن قطع تكاد أن تكون «ماركة عراقية» كنا قد فقدناها في الأحداث تمكنا من استردادها أيضاً ضمن الخمسة آلاف قطعة التي عادت.
ولكن ماذا عن الدور الأميركي في هذا السياق؟ وكيف وصلت قطع أثرية بأعداد مهولة إلى أميركا وعن طريق من؟ هل كان خروج هذه القطع من العراق عملية تهريب منظمة ومخطط لها أكثر منها عشوائية؟ وهل تم التحقيق في ذلك؟
يجيب مدير الهيئة العامة للآثار والتراث قائلاً «لقد جالت الآثار المسروقة معظم دول وعواصم العالم. سنذهب إلى أميركا لاسترجاع 200 قطعة أثرية وإلى بريطانيا من أجل 45 قطعة، وهناك وفد جاء من ألمانيا بـ45 قطعة مهمة ومثلها قطعتان مهمتان من سويسرا، كما أن هناك قطعاً وجدت في أميركا الجنوبية والبيرو والبرازيل. ولغاية الآن، ما زالت القطع العراقية تُسرق وتُباع في شوارع دول عربية كالأردن والإمارات، وتشحن من هناك إلى الولايات المتحدة ودول أخرى بعيدة. باختصار، كل دول العالم تقريبا فيها آثار عراقية مسروقة، حتى ان بعض القطع يتاجر بها أفراد، مثل رأس الملك سنطروق الموجود بحيازة سيدة لبنانية وما زالت الدعوى القضائية لاسترجاعه عالقة أمام القضاء اللبناني منذ سنوات».
ويشير رشيد متأسفاً إلى أن «بعض الدول غير متعاونة باسترداد الآثار، ومنها تركيا التي نتعامل معها في ملف يضم حوالي 300 قطعة مهيأة للتهريب إلى أوروبا، بينما لا يفصح الإيرانيون والكويتيون عن وجود آثار عراقية مهربة إليهم، رغم أننا جمعنا معلومات من مهربين تؤكد وجود قطع تمّ تهريبها عن طريق الحدود المشتركة معهم»، ويستدرك قائلاً «هناك تعاون كبير من جانب الاردن اليوم في إعادة الآثار العراقية وكذلك الحال مع سوريا».
أما بالنسبة للتحقيقات، وفق رشيد، فقد تم إجراء تحقيقين: اولهما عراقي والآخر قامت به القوات الاميركية. في التحقيق العراقي، لم نتوصل الى ان هناك جهات من داخل المتحف تعاونت، وكل عمليات السرقة تمت من خارج المتحف. أما مكتب التحقيقات الفدرالية الأميركية، فقد قسم الجريمة الى نوعين: الاول ما تحدثنا عنه، وفي القسم الآخر من التحقيق قال ان هناك مافيات خططت مسبقا للسرقة من دون أن يتم تحديد هوية الفاعل. وقد اتجه التقرير الى بعض دول الجوار والى العصابات النافذة من أصحاب دور العرض والمزادات الذين جندوا بعض العراقيين أو العرب لغرض السرقة وكانوا يطلبون قطعا بعينها، ولكنه لم يسم علانية كي يتسنى لنا الملاحقة القانونية بل ترك الامر مبهماً. وهناك إفادات تقول ان بعض أجهزة النظام وأزلامه كان لهم يد في أمر سرقة المتحف الوطني.
ولكن أي دور لإسرائيل وسط حديثكم عن دول كثيرة، فهناك تقارير عن تورطها في الأمر. هل توصلتم إلى شيء من هذا القبيل؟ يجيب رشيد مؤكداً أن «هناك آثارا عراقية في إسرائيل وباعتراف السلطات الإسرائيلية، وهناك أسماء إسرائيلية معروفة صرحت بوجود شحنة آثار عراقية في مطار بن غورين في تل أبيب. ولدينا ملف متكامل للآثار العراقية الموجودة في إسرائيل، علماً أن الأردن هي الممر الرئيس لتهريب تلك الآثار إلى إسرائيل». ويردف «كنا قد اقترحنا على اليونسكو ان تقوم بدور الوسيط في مهمة إعادة الآثار لكننا لم ننجح. وفيما نتجه اليوم لتوسيط طرف ثالث لإعادتها، لم نجد هذا الطرف بعد، كما لم نتمكن من معرفة وجهة النظر الإسرائيلية واستعدادها لإعادة الآثار».
أما من ناحية الوجود الأميركي في العراق، فهو لم يكتف بسياسة غض الطرف التي اتبعها في ملف تهريب الآثار وسرقة المتحف الوطني وأرشيف العراق فحسب، بل تمكن من تدمير مواقع أثرية غير منقبة بالكامل بعد، وأقام قواعد عملاقة له في بابل والسماوة وأور وكيـش وسامراء ومناطق أثرية أخرى. وخرّب المحتل بآلياته الثقيلة كالمدرعات وناقلات الجند والطائرات هذه المواقع ذات القيمة التاريخية.
ويعلّق رشيد على ما سبق مندداً «لقد اتخذت القوات المتعددة الجنسية معسكرات لها في مدن أثرية بالكامل كبابل، وهم كانوا على علم مسبق بقيمتها.. لقد تركوا كل الأراضي الزراعية المحيطة بها واختاروا مقراً لهم ومنعوا حتى هيئة الآثار من الدخول إليها على مدى سنتين لمعرفة ماذا يجري في الداخل». يذكر مدير الهيئة أن المعسكر لم يخرج إلا بعد ضغوط وتظاهرات وتدخل «اليونسكو»، مشيراً إلى اكتشاف حصول تخريب هائل في المدينة حيث حفرت خنادق للقتال ورفعت سواتر ترابية بواسطة أتربة الرُقم الطينية والكسر الفخارية.
وفي هذا الإطار، ينتقد رشيد عمل لجنة الخبراء الدولية، التي شكلتها وأشرفت عليها اليونسكو بمشاركة خبراء عراقيين، واصفاً نتائجه بالـ«بائسة جدا»، ويقول «لم توبخ أو تفرض أي عقوبة على الجانب الأميركي أو البولوني الذي استخدم المعسكر، بل قالت ان على الجانب العراقي صيانة الآثار».
ويتحدث رشيد في النهاية عن الدعوى القضائية التي رفعتها الهيئة على القوات الأميركية في العام 2006، والتي كادت تصل إلى موضوع التغريم لولا الاتفاقية الأمنية التي وقعت مع الولايات المتحدة، والتي أسقطت تقريبا هذه الجرائم عن الجانب الأميركي.
أمين ناصر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد