أنسي الحاج: إلـى الخائفيــــن

02-06-2012

أنسي الحاج: إلـى الخائفيــــن

يستطيع المرء أن يتجرّأ على الله بدعوى الألم أو الحريّة ويظلّ ضمن حقوقه، ولا يستطيع أن يقتل طفلاً ويبقى إنساناً.
ما من حقّ يستبيح الأطفال.
أيّاً يكن المستبيح وأيّاً تكن قضيّته.
لا نعرف مَن ذبح أطفال الحولة وتلّ دُو، وقد لا يُعرف. لكنّ الفاعلين يعرفون أنفسهم، وسواء انتصروا أو انتحروا فلن تُطوى الصفحة ولن يُكفَّر عن الفظاعة.
إذا كانت البيئة التي أنتجتهم من الماضي فليجرفها الماضي، وإذا كانت من المستقبل فالموت أشرف من معايشتها في المستقبل.
ولا يغيّر في الأمر احتمال كون الصور التي بُثّت هي لمجزرة أطفال عراقيّين لا سوريّين. الأطفال مملكةٌ واحدة.
نرفض أن نصدّق أنّ الذين غمّسوا أيديهم بدماء الثلاثين طفلاً، وقبلهم مئات بل ألوف الأطفال، هم ناسٌ نتشارك وإيّاهم اللغة والمصير. نرفض فكرة كوننا نعيش وإيّاهم على أرضٍ واحدة. لن نصدّق بعد اليوم أنّ إسرائيل أكثر بربريّة منّا.

ولا ثورة تستحقّ قتل طفل. ولا سلطة ولا ثورة تستحقّان قتل أحد. البقاء في العبوديّة أفضل من الانعتاق على حساب طفل واحد. استعمال الأطفال كعمّال، جريمة، فكيف بذبحهم لكسب معركة أو تأديب جماعة أو تصعيد قتال؟
أكبر لطخةٍ في المأساة السوريّة هي هذه. ولن يمحوها شيء.


■ ■ ■

لن يحكم على المجرمين أندادهم من المجرمين ولا مجايلوهم، بل سيحكم الأطفال، أطفال اليوم والغد والأمس. هذا الدم ليس برسم محاكم القضاة المرتَهنين وأكاذيب المحامين، ولا برسم الصحافة العوراء والإعلام الفاسد، ولا برسم المؤرّخين السطحيّين والفلاسفة السُذّج، بل برسم ملايين الأطفال خلال الأجيال، الأطفال الذين سيقوّمون ما نورثهم من أرض ويقرّرون كالملوك ماذا سيفعلون بآبائهم وأجدادهم ومعلّميهم وحكّامهم ورُعاتهم وأديانهم ومخزون إرثهم. أرجو أن لا يحتفظوا من تراثنا بغير الفولكلور وأن يدوسوا على قيم رجولتنا المزعومة ويحطّموا آرمات وطنيّتنا الهزليّة ويحرقوا مدننا حيث لم يعد للطفل أمان.


■ ■ ■

يراهن العدوّ على غرائزنا ويعتقد أنّنا قبائل بلا عقل. طوائف ومذاهب وأعراق. شهوات بلا عقل. خناجر وبنادق. «همجٌ رعاعْ» على تعبير الإمام علي مصنّفاً بعض الناس.
كانت هذه مراهنة الاستعمار القديم وتجدّدت تحت القبّعة الأميركيّة وقبلها وبعدها بالاستراتيجيا الصهيونيّة.
نجحت المراهنة في لبنان بلا هفوة، وفي مصر بالقوّة وبالفعل، وفي العراق كليّاً، وفي سوريا باطناً وظاهراً، وفي البحرين كما هو معروف، وكذلك في اليمن وفي السودانَين، ولولا قليل في الكويت وفي السعوديّة، وغداً قد نكتشف نجاحها في بلدان المغرب.
الفرق بين العرب وإسرائيل أنّ التمييز يتدهور بالعرب إلى أعماق التخلّف، والدينيّة والعنصريّة اليهوديتان تشكّلان سلاحاً فتّاكاً لإسرائيل تبتزّ به العالم. الفرق بين الملعوب به واللاعب. نحن نسمّي إسرائيل العدوّ الغادر، وهي تتشوّق لو يقدر العرب أن يغدروا بها مرّة لكي ترفع أسعار ابتزازها العالمي وتستغلّ الضجيج لتزيد أرقام ضحايا المحرقة النازيّة بضعة ملايين، وعدد البرامج التلفزيونيّة والمقالات والكتب والأشرطة السينمائيّة حول القضيّة اليهوديّة عشرات ومئات في اليوم الواحد. غداً في مدارسنا سنتعلّم العبرانيّة لنكمل نسيان العربيّة، بينما هم يتعلّمون العربيّة لكي يتقنوها ويستعملوها بنجاح منقطع النظير لمحو ما تبقّى في ذاكرتنا من أحلام وحقوق.


■ ■ ■

نظرة إلى الشاشات تكفي: عادت الرياح تعصف بالتعصّب. المذهبي خصوصاً، سنّي شيعي. من المحيط إلى الخليج. نظرةٌ إلى العقل: مَن المستفيد من هذا الجنون، ومَن المستفيد إذا سُفك الدمّ؟
كلّ شيءٍ أفضل من الدم. لا السلطة تستحقّ ولا الثورة. التعصّب ذلّ الإنسان وعاره. انتحاره. بشاعته القصوى. إذا كان يدّعي تديُّناً فالتعصّب مَسْخرة الدين. إذا كان يدّعي أنه ضحيّة الهاجمين عليه، فالتعصّب لا يبرّر التعصّب. يُواجَه التعصّب بسلاحٍ وحيد هو الإطفاء. ماء الهدوء. والمحرّضون عليه مجرمون يجب محاكمتهم.
التعصّب هو الغول الذي نفترس به الأبرياء والغول الذي يفترسنا.


■ ■ ■

عودة إلى مذبحة الأطفال:
لولا الرحمة لانقرضَ الجنس البشري. لولا الشفقة لما عرفت البشريّة أنّها موعودة بأن تغدو إنسانيّة. لا نؤيّد حكم الإعدام. نحن ممّن يدعون إلى مبادلة الإساءة بالصفح والاعتداء بالغفران. لكنّ مَقْتَلَة الأطفال تفوق الطاقة على التسامح وتؤجّج الغضب وتستصرخ معاقبة جزّاري الحولة وتل دُو فوراً. تتّسع الحياة لتَعايش المرتكب والبريء شرط أن يظلّ البريء على قيد الحياة. عندما ينقضّ الذئب على النعجة ينتهي التعايش. الذين ساقوا أطفال الحولة وتل دُو إلى الموت يجب أن يُعاقبوا بأكثر ما يمكن من تسليط الأضواء عليهم. اللعنة اليوم هي تشهير الفضيحة فليُحْكَم عليهم بهما أوّلاً.
من الآن إلى أن تنغسل هذه الجريمة، وحتّى لو كان هناك أسوأ منّا إجراماً، لن يكون أسوأ منّا. قنبلتا هيروشيما وناغازاكي تصبحان أشبه بالنظريّات أمام مسدّسات السفّاحين وسكاكينهم في لحم الأطفال السوريّين العُزّل. اليابانيّون لم يعرفوا أنّهم يُقصفون والأطفال عرفوا أنّهم يُذْبحون. مرأى عيونهم لحظة هذه المعرفة كافٍ وحده لتقشعِرَّ الوحوش. هذه الصورة، وصورة الفلسطينيّين المحاصَرين في مخيمي صبرا وشاتيلا يرعى فيهم قتلاً مرتزقة الجيش الإسرائيلي، يستحيل مسحهما من الذاكرة. تنتميان إلى صورة أفواج اليهود المصفوفين أمام الأفران ليذهبوا إليها وتبتلعهم أفواجاً. قد لا يكون السفّاح أخا السفّاح لكنّ الضحيّة أخو الضحيّة.
إنّ كائناً لا يستطيع أن يتخيّل رعب الأضعف وهلعه قبيل لحظة تصفيته، كائنٌ كهذا لا يستحقّ العيش.
كلّنا لدينا من هؤلاء. لبنان أبدعَ في إنتاج نماذجهم. العراق تفوّق عليه. الآن سوريا. كنّا هلالاً خصيباً وأصبحنا جهنَّم الحمراء.
ولا تبدو النهاية وشيكة.
الله لم يقتل إبليس، فهل يسمح بقتل ملائكة الفقر والعذاب وانعدام الدفاع؟
وأفظع ما في الأمر أنّ ثمّة مَن سيستغرب مبالغاتنا.
اعتياد الهول، هول. هؤلاء المستغربون هم من العائلة المعنويّة ذاتها لسفّاحي المجزرة.
ونحن لا نخاطبهم. ليسوا أقرباء. ولئن قالوا لنا إنّ طبيعة الأمور تؤيّد واقعيّتهم نجيبهم هنيئاً لكم طبيعة الأمور.
نحن نفتخر أنّنا ضدّ هذا النوع المرعب من طبيعة الأمور. لولا نعمة وجه الطفل لما كانت لكم الأرض وخيراتها. لما كانت لكم شفاعة. لما كانت لكم سلطة ولا ثورة. الحياة موجودة بفضل ضعفائها. بفضل نسائها وكرمائها وأولادها ومسعفي غرقاها وجرحاها ومحروقيها. الحياة عبقريّة ومزدانة ومتغلّبة على عقباتها بفضل شفّافيها والذين يبكون أمام المشاهد الحزينة في السينما. الحياة كريمة بفضل مَن يقاومون السقوط والقنوط والتوحّل لا بفضل مَن يحشّشون ويسكرون ويمضون إلى القتل، ولا بفضل مَن يسوقهم جنون التعصّب أو حساب الارتزاق إلى سحق البنفسجات البشريّة.
أنتم تحسبوننا غباراً لأنّنا ضعفاء، ولأنّ الجماهير مع الأقوى، وهل أقوى من القتل؟
بلى، هناك أقوى من القتل وأقوى من الجماهير.
هناك أشباحُ الأطفال الذبائح.
على ضمائرنا يتوقّف تحويلها إلى طوفان يغسل الأرض من ضباعها.


■ ■ ■

... وللخائفات والخائفين على لبنان: إذا قام كلّ مسؤول (بالمعنى الشامل للمسؤوليّة) بواجبه لدرء الفتنة فلن يكون هناك فتنة. ليستعمل كلٌّ مطفأته، وهذا متاح. ما فعله السيّد نصر الله حين أرجع المتظاهرين إلى بيوتهم، ما فعله سعد الحريري حيال قضيّة المخطوفين، ما يفعله وليد جنبلاط منذ سنين، ما يفعله ميشال سليمان ونبيه برّي ونجيب ميقاتي، جيّد. يجب مواصلته مهما حصل. المصرّون على إشعالها قد يستعملون كلّ الوسائل، وما أسهلها. أيّ جريمةٍ واردة، من الخطف إلى الاغتيال ومن أصغر مواطن إلى أكبر زعيم. الواجب الوطني والإنساني يقضي بالحفاظ على رباطة الجأش ودفن ردود الفعل في مهدها. عدم التساهل حيال الغرائز. لجم الجماهير، على افتراض أنّ تحرّكها عفوي، ونحن لا نصدّق أنّه عفويّ. المسؤولون عن غضب الناس مسؤولون عن تهدئتهم. لا يمكن التنصّل من هذه المسؤوليّة.
ليس هناك عناصر غير منضبطة بل مسؤولون عنهم غير قائمين بواجب الضبط. ليس مسموحاً الطيش ولا النَزَق، ولو عن حقّ. التعقُّل وحقن الدماء وخَفْض الأصوات مطالب الجميع. لنطرد من بيننا مصّاصي الدماء كما يُفْرز الزؤان عن القمح. كلُّ مفتنٍ خائن فلا يتبجّح أحد منهم بالغيرة لا على طائفته ولا على مذهبه ولا على حيّه ولا على قضيّته. القضيّة الوحيدة هي السلْم.
تجنيب لبنان الفتنة في متناول اليد حتّى لو اشتغلت بنا كلّ أجهزة الموت. فلنبرهن كشعب وكزعماء أنّنا أصبحنا خبراء في الوعي علماء في أساليب التلاعب بنا واستعصينا على الخداع. لنبرهن لأنفسنا أنّنا رَشَدْنا ولأعدائنا أنّهم أغبياء.
ليكن خوفنا سياجَ خلاصنا.

انسي الحاج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...