محمد عابد الجابري: درس في دمشق وأزهر في الرباط

04-05-2010

محمد عابد الجابري: درس في دمشق وأزهر في الرباط

كان محمد عابد الجابري، المفكر المغربي الراحل عن عمر ناهز الخامسة والسبعين، واحداً من أشهر المفكرين النهضويين العرب خلال العقود الأخيرة. بل لعله كان المفكر العربي الوحيد الذي صارت كتبه كلها، ومنذ بدايات نشر سلسلته الفكرية «نقد العقل العربي»، الأكثر مبيعاً في أي لائحة من هذا النوع. في هذا الإطار كان ظاهرة يصعب تفسيرها: لماذا يقبل القراء العرب، وربما بعشرات الألوف، على قراءة أعماله؟ ولماذا يشتري نسخاً من هذه الأعمال قراء من الصعب القول إنهم، كلهم، يقرأون ما يشترون. في الوقت نفسه عرف بكونه الأكثر مشرقية بين كتّاب المغرب العربي، في فترة ازدهرت فيها الكتابات الفكرية المغربية متغلبة على المشرقية، لا سيما بعد هزيمة حزيران (يونيو)، وفي سياق النجاح الكبير الذي افتتحه مواطنه عبدالله العروي بكتابه «الأيديولوجية العربية المعاصرة». وربما اعتبر كثيرون من القراء المشارقة أن اليقين الفكري والمنهجي الذي جاء به الجابري في كتاباته، هو تعويض عن الارتجاج الذي أحدثه العروي.

ففي كتابات العروي كان السؤال يطغى، أما لدى الجابري فاليقين لمن يحب أن يطمئن الى تاريخه. من هنا كان الجابري المولود عام 1935 والدارس، خصوصاً في دمشق والرباط، مثيراً للسجال، لا سيما في المغرب، حيث يؤدي الرواج الى شتى ضروب الشك. وهكذا في وقت راحت كتبه الكثيرة، بدءاً من «العصبية والدولة» أطروحته للدكتوراه حول ابن خلدون (1971) وحتى أعماله الأخيرة، لا سيما منها ما دار حول فلسفة العلوم ومعرفة القرآن الكريم، مروراً برباعيته حول «نقد الفكر العربي»، تفتن قراء المشرق، لا سيما أنصاف المثقفين منهم، فيما راح السجال يكبر حول صوابية آرائه في المغرب. وأخيراً حين بدأ انتقاده في المشرق، تمحور أول الأمر حول عصبيته المغربية وتأكيداته بأن الفكر العقلاني العربي انتهى في المشرق مع الغزالي وابن سينا ليتواصل فقط في المغرب بعد الأندلس.

كان ثمة الكثير مما يمكن الموافقة عليه في المتن الجابري، ولكن، كان ثمة الكثير مما يمكن مخالفته، أو اعتباره من قبيل البديهيات التي لا تطرب سوى أنصاف العارفين. وفي هذا السياق لم يكن غريباً أن يساجله جورج طرابيشي في سلسلة كتب حملت عنواناً رئيساً هو «نقد نقد الفكر العربي»... وفيها تناول طرابيشي بالبحث الدقيق عدداً من يقينيات الجابري، لا سيما قسمة العقل الى عقل عربي وآخر غربي، وامتدادية الفكر اليوناني وما الى ذلك. والغريب في الأمر هنا هو أن الجابري الذي كثيراً ما أنفق وقتاً لمساجلة مناوئيه، المغاربة والمشارقة (ومنهم فتحي التريكي وعلي حرب) تصرف دائماً كأن أجزاء كتاب طرابيشي غير موجودة... وكان حاداً في تجاهله الى درجة أنه ذات يوم فيما كان كاتب هذه السطور يحاوره في مقابلة نشرت لاحقاً في إحدى الصحف اللبنانية، نظر باستغراب الى محاوره حين سأله عن رأيه في سجال جورج طرابيشي له ولأعماله. بدا عليه أنه لم يسمع بهذا الاسم!

كان الجابري تنويرياً ونهضوياً وغزير الإنتاج، كما كان - حتماً - قومياً عربياً من النمط الشعبي... لكنه لم يكن مساجلاً جيداً بالتأكيد. غير أن هذا كله سينسى وتبقى منه كتب شيقة ممتعة حاملة كل أنواع اليقين والمواعظ... أهمها على الإطلاق كتابه الأول عن «ابن خلدون». ترى من قال يوماً إن العرب هم دائماً أهل البدايات الجيدة؟

إبراهيم العريس- الحياة

الجابري .. مشروع بحجم دولة
توفي أمس عن 75 عاماً المفكر المغربي محمد عابد الجابري. طار صيت الجابري في المشرق والمغرب العربيين، فقد استطاع الرجل العصامي، الذي نشأ في أسرة مدمرة وزاول في فتوته مهناً كالخياطة ودرس للشهادة الثانوية على نفسه، أن يؤثر بعمق. صار له في كل جامعة وبلد مريدون بقدر ما صار له من خصوم ومخالفين. كثرة هؤلاء وأولئك تشي بدوران النقاش حوله وبقوة حضوره وانتشاره. لا نبالغ إذا قلنا ان فكره ساد على حقبة كاملة وإن كلاً من مثقفي الثمانينيات كانت له حقبة جابرية، وان الرجل غدا منذ ذلك الحين أحد معلمي الفكر العربي وسلطة فكرية وثقافية راسخة. Image removed.
يرجع جزء من ذلك الى ان الجابري انبرى لتشييد مشروع فكري عربي متكامل أجاب ذلك الحين عن جملة الأسئلة المعلقة: أين نحن من الغرب، وما هي هويتنا الفكرية، ومن أين نبدأ. أسئلة هي أيضاً عطش معرفي ووجداني وقلق جارف، ولم يكن في الحساب ان أحداً قادر على التصدي لها. كان للجابري من الجرأة والمجازفة ان بكّر الى اكتشاف هذه الحاجة المتأزمة وتلبيتها. حين كان الجابري ينقد العقل العربي كان يؤسـس هذا العقل ويشعر بوجوده، يجد حجر البداية ويضع الأساس. لا أعرف ما هي صلة مؤلَّف الجابري الذي بدأ في السـبعينيات بقلق ورعف ما بعد هزيمة الـ67، إلا ان الجابري، في عز المناظرة الخاسـرة مع الغـرب والشـعور المـر بالقصور والضياع الفكري والقطيعة المتمادية مع التـراث والقلق على الهوية والذات، بدا مشروعه منقذاً من الظلال وجواباً عن بحث رائد عن نقطة
الابتداء التي وجدها في ابن رشد وابن خلدون وفي عقلانية عربية اعتبرها نظيراً للتنوير الغربي. لم يقطع الجابري مع الغرب ولم يستغرق الثمل بالهوية، لكنه وجد بدون حرج صرحاً عقلانياً عربياً إزاء العقلانية الغربية التي ظلت مرجعه ومعياره. هذا الصرح العقلاني كان لا بد في نظره من إعادة بنائه، من رصه من جديد لبنة لبنة ومن موضعته وتحديده. ظلت النهضة الغربية مثالاً يستنهض مقابلاً عربياً لا يقل تكاملاً. لقد وجدنا هكذا الحجر الأساس الفلسفي والفكري وليس علينا إلا أن نبني عليه. مشروع الجابري الفكري كان تقريباً النظير الأيديولوجي للدولة القومية. لقد امتلك تقريباً تكاملها وأرضيتها التاريخية والمستقبلية، وهو بالتأكيد كان مصالحة كبرى بين الغرب والعرب وبين التراث والحاضر وبين الواقع والتاريخ.
كان الجابري سيد مشروعه واستعمله في الحقيقة كسلطة غير محدودة. كان معلم فكر. وبوصفه كذلك أخذ يحدد ويرسم ويقطع ويحسم بصرامة وجزم. كان لا بد من تطهير التراث ليغدو هذا الصرح العقلاني ولو أدى ذلك الى تجزئته وقطع أواصره وجذوره. هكذا قامت عملية فرز وتخليص داخلية. كان لا بد من عزل النواة العقلانية عن القشور التهويمية والصوفية والتخريفية. لا بد من تخليص القمح العقلاني من الزوان الاشراقي. وجد الجابري أن التفاعل الإغريقي العربي كان منارة هذه العقلانية فيما كانت الرواسب الفارسية واليهودية وسواها هي منبت التخريف والشطح. في النهاية كانت هناك قسمتان: العقلانية وغير العقلانية، المغرب الغربي العقلاني والمشرق الإشراقي الصوفي. تجزئة مضعفة وبناء قائم على كثير من البتر والتجزئة.
كان مشروع الجابري وعداً لكنه بدا لكثيرين قلعة غيلان. بعضهم وجدوا انه يجمد التراث في ناديه، بل يجمد الغرب نفسه في حقبة، انه جزّأ التراث واجتثه من جذوره. لم يجعله اثنين فحسب، بل قطع منه بعض منابعه الأخصب روحاً ومخيلة وشعرية. بعضهم لم يجد في هذه العقلانية نفسها سوى خيال عقيم.
كل ذلك لم يؤخر الجابري عن أن يوطد مشروعه وأن يمارس في سبيله سياسات مثيرة للجدل. كان الجانب الأيديولوجي منه يظهر مع الزمن ويتأثر بالزمن. لم يكن الجابري وحده صاحب مشروع، والأرجح ان كثيرين وضع وا حجارة بداية أخرى، إلا ان الجابري كان أقلهم احتراساً وأكثرهم جموحاً للتكامل، ولو بقدر أكبر من الاجتثاث. تزايد مع الزمن خصوم الجابري وقل مريدوه. إلا أن غيابه قد يكون أيضاً غياب المشاريع الكبرى وبروز خطابات أكثر جزئية، بل غالباً بلا مشاريع. الأرجح أن مشروعاً بحجم دولة لا يبقى في غياب الدول. 

عباس بيضون - السفير

صفحـة هامـة طويـت
خبر رحيل الجابري شكّل لي فعلاً صدمة كبيرة وعميقة. أتذكر الآن علاقتنا الأولى التي تكونت في تونس ضمن مؤتمر شاركنا فيه معاً، وقد نشأت بيننا علاقة جيدة ما فتئت أن انتهت بعد فترة قصيرة، وتبين لي أن الرجل ربما له خصومة ما، فلم يحتمل للأسف، وأنا أكن له كل الاحترام، رأياً آخر قدمتُه بعد مداخلة له، هذا الرأي تابعه وأثنى عليه مفكرون آخرون، فتأثر سلبياً، ولاحظت أن علاقتنا التي ولدت قبل ثلاث ساعات سرعان ما انتهت. لكن العلاقة الفكرية ظلت قائمة وشكلت حافزاً لي في الكتابة في المسائل التي اشتغل عليها.
هو مفكر كبير أثرى الفكر العربي، إيجاباً وسلباً، كان حافزاً لي ولغيري في التوغل في القضايا التي طرحها، وكنت طرفاً في طرحها. وبهذا المعنى أشعر أن صفحة هامة من الفكر العربي طويت، أو لعلها نشأت مجدداً لتبقى حافزاً في الفكر العربي.
أشعر الآن أن مكاناً هاماً قد فرغ بوفاة الأستاذ الجابري. لقد اشتغل وأثار مسائل كبرى، نبقى دائماً مدعووين للبحث فيها. وإذا كان لمن اجتهد فأصاب أجران، ولمن اجتهد فأخطأ أجر، فإن للرجل أجرين بل أكثر، فقد اجتهد فقدم أشياء هامة، قسم منها كان جديداً على الفكر العربي، وتأثره بالفكر الأوروبي أمدّه بكثير من القضايا الهامة التي تناولها.
أشعر بأسى عميق بوفاته، مع أننا لن نتركه درساً وتعميقاً وبحثاً، وما علينا أن ننجزه سننجزه مضاعفاً، والأستاذ الجابري اشتغل بطاقة كبيرة وبجهد بحيث أنه دخل في معظم حياة المثقفين والمفكرين العرب، ومهمتهم الآن تكمن في المتابعة، بكل أنواع المتابعة، وبهذا نكون قد حققنا شيئاً من الأمانة في متابعته، وأنا معنيّ بمتابعة ما كتبه، فقد كان في الكثير مما كتب يتوجه إلي بشكل أو بآخر، وكنت أفعل الشيء ذاته، لذلك أنا معني بوفاته بالمعنى الإيجابي، فأنا أكن له كل الاحترام والمودة.
سأتابع الدرب في مزيد من البحث، وهذا يجب أن يكون حافزاً للمثقفين العرب في التأسيس لعلاقات جديدة بينهم.
أعبر عن أسفي وعمق ألمي بوفاة الأستاذ الجابري.

علــي حــرب:
حقبة جديدة في الفكر الفلسفي
في تحية الدكتور محمد عابد الجابري، وقد رحل البارحة، يسعني القول معه بدأت مرحلة أو موجة جديدة في الفكر الفلسفي بالعالم العربي، من محطاتها البارزة انفجار المشاريع النقدية، وكما تمثل ذلك، بنوع خاص، في رباعية الجابري حول «نقد العقل العربي».
هذه الرباعية قرئت على نطاق واسع، مع بقية أعمال الرجل، ليس فقط من جانب المختصين وطلاب الفلسفة، بل لدى عموم المثقفين، وربما تعدت ذلك إلى عموم القراء.
من أسباب ذلك تشكل نمط مختلف من العمل الفلسفي مع أصحاب الموجة الحداثية الجديدة، جعلهم يخرجون من معاقلهم الأكاديمية وعلى مدرسيتهم الجامدة، ليتناولوا قضايا حية وراهنة، أو يومية ومصيرية. معهم لم تعد الفلسفة مجرد لغة مجردة أو مقولة منطقية أو أطروحة متماسكة، وإنما تتعدى ذلك لكي تصبح تشكيلاً خطابياً ينتج المعنى، أو كتابة فلسفية تبنى بها الأقوال والأفكار، أو نصاً مفتوحاً هو مساحة للقراءة، على سبيل التفسير والتأويل أو التحليل والتوكيد، أو التجاوز وإعادة البناء والتركيب.
وكان ذلك شاهداً على تطور الفلسفة وازدهارها، عربياً، كما يشهد على ذلك رواج الأعمال وتكاثر الأعلام والأسماء. ولا مبالغة أن الجابري كان من أكثر الذين مارسوا حضورهم، وربما نجوميتهم، بين الفلاسفة والمفكرين، إلى جانب مشاهير الشعراء والكتاب، سواء بأعماله، أو بندواته وحواراته، أو بكتابته في الصحافة اليومية، فضلاً عن المجلات الدورية التي كان له الفضل في تأسيس واحدة منها «فكر ونقد».
قرأت الجابري وكتبت عن أعماله قبل التعرف إليه. وقد التقيت به في بيروت لأول مرة، في مطلع التسعينيات من العقد المنصرم، ثم كانت لنا لقاءات في الندوات والمؤتمرات الفكرية. وكانت علاقتي به ودية، لأن نقدي له، وعلى سبيل الاعتراض والمخالفة، قد بني على الاعتراف بمنجزه وأثره.
أسفت لموت الدكتور الجابري المفاجئ. ومع أني كنت سمعت مؤخراً عن مرضه، إلا أنني لم أكن أحسب أنه سيرحل عن عالمنا بهذه السرعة.
وبعد غيابه، سوف يبقى يمارس حضوره، عبر أعماله، التي ننشغل بها أو نشتغل عليها، سواء كنا نتفق معه أو لا نتفق. وكذا شأن الفيلسوف. إنه لا يقبض على الحقيقة، بل يفتح إمكانات للتفكير نمارس عبرها حيويتنا، فنختلف عنه ونتغير عما نحن عليه، باجتراح معان جديدة، لحياتنا وتجاربنا.

ياسـين الحـاج صالـح:
نقلـــة قيّمـــة
بعد كتابين عن قضايا التعليم في الغرب وعن فلسفة العلوم المعاصرة، دخل محمد عابد الجابري عالم التراث العربي الإسلامي ولم يخرج منه. انتهى إلى مواقف أقل نقدية وأكثر تصالحاً مع التقليد مما بدأ، لكنه كان مثقفاً مرموقاً وملتزماً، وواضح الأسلوب.
نال الجابري شهرة عربية سريعة في مطلع عقد الثمانينيات مع صعود الطلب على الدراسات التراثية على خلفية أزمة الفكرة القومية العربية وصعود الحركات الإسلامية. وقدم كتباً قرئت على نطاق واسع، بخاصة «نقد العقل العربي» (1984)، و«العقل السياسي العربي» (1990)، و«العقل الأخلاقي العربي» (2001). فضلاً عن تآليف أخرى كان آخرها ثلاثة مجلدات عن القرآن وتفسيره. إلى ذلك كتب الجابري عن مسألة الديموقراطية وتحمس لها، ورأى أنها والعقلانية تغنيان عن العلمانية.
نظريته عن الحداثة عبر التراث، أو عن وجوب الانتظام في تراث من أجل الحداثة والعقلانية تبدو اليوم أقل جاذبية، هذا لسبب عام تشاركها فيه كل الدراسات التراثية: وضع الاجتماعي والسياسي بين قوسين، وافتراض المجتمعات ثقافات أو هويات؛ ولسبب خاص يتمثل في أن الجابري قلما ميز بين التراث كمعارف ومعان وأفكار ولدت في الماضي وبين التراث كتقليد ممارس وحي. تفكيره يفترض استمرارية تاريخية متجانسة لم يبرهن عمله عليها.
في كتبه، الجابري عروبي، ومرسى عروبته هو الإسلام. عروبته دفعته إلى موقف متحفظ وربما غير منصف حيال المؤثرات الفارسية في الثقافة الإسلامية العربية. ولقد قال يوماً في ثمانينيات القرن الماضي إن نقد الدين لا يزال متعذراً في الإطار العربي الإسلامي. ويبدو أنه محق، إن حكمنا استناداً إلى المتحقق الفكري في هذا المجال.
الآن، وقد انضم عمل محمد عابد الجابري إلى «التراث» الذي كرس له عمره الناضج كله، كيف سيُنظر إليه في المستقبل؟ ليس من السهل تقدير ذلك. للأعمال الفكرية مصير غير متوقع. لكننا نرجح أن تعتبر نقلة قيمة في تاريخ حركة النهضة الثقافية العربية.

الطاهــر لبيــب:
مرحلــة التأســيس
غاب سي محمد، تاركاً جــيلاً يتآكل، ترك خوفاً من فراغ يتسع. كان علمنا الجمع بين المعرفــة والتــواضع والتعــلق بالأمــل بغد يأتـي. كان من أوائل من حول النــص إلى «خطــاب» واقــترح بنية للعـقل العربــي فخـط مســارب جديــدة أخذتــه، نهــاية المطـاف، إلــى القــرآن.
وسي محمد الخلدوني الأصل كان أيضاً من أكثر المغاربة حرصاً وتأثيراً في الربط المعرفي بين المشرق والمغرب. ولقد تنين اليوم ان تأثيره يتجاوز طلابه إلى فضاءات عربية بعيدة، منها ما لم يكن منتظراً وصول عقلانيته إليها.
لا يتسع التأبين لأفكــاره. لا يتسع لأكثر من حسرة قوته بفقدان أســتاذ مفكّر ساهم في التأسيس لمرحلة لا ندري ما يصنع بها وبه الزمن العربي.

أحمــد برقــاوي:
نمـوذج لمفكـري التـراث
عندما يغيّب الموت مفكراً فإن الحياة تخسر من يضيف إليها جديداً دون النظر إلى موقفك من هذا الجديد، فإذا الحياة خاسرة بموت المفكر، بموت الشاعر، بموت الرسام، بموت المبدع بعامة.
والجابري واحد من المفكرين الذين هجسوا بمشكلات الأمة على طريقة مفكري السبعينيات والثمانينيات، الذي راحوا يفتشون عن خلاص أرضي في تراث الماضي. هو بهذا المعنى مفكر أزمة شأنه شأن حسين مروة والطيب تيزيني وحسن حنفي ومحمد عمارة، وما شابه ذلك.
وعبثاً كان يحاول أن يخرج من أزمته التي هي أزمة فكر لا أزمة شخص، فالكل يعلم أن هؤلاء التراثيين أرادوا أن يجعلوا من التراث حصاناً يجر العربة، بعضهم «مركسه» وبعضهم عقلنه وبعضهم بين بين، والكل يعلم أن جهد الجابري قد انصب على صياغة واكتشاف عقلية نقدية متكئة على عقلية فلسفية وشعرية، أو إن شئت قل على عقلية توهم أنها مغربية، مؤسساً صياغته هذه على نقد الخطاب العربي المعاصر، والحق أن كتابه «الخطاب العربي المعاصر»، الذي أراده دراسة تحليلية نقدية، وأراده قطيعة مع السائد من الأفكار، أراده نقداً لليبرالية، وللقومية وللسلفية، إن كان في خطابها الفلسفي أو خطابها السياسي.
إن هذا الكتاب الذي أراده هكذا لم يستطع أن يحرره من أسر ما أراد نقده، فهو رأى أن أزمة الفكر العربي تكمن في خضوعه لسلطة السلف الغربي، وسلطة السلف الإسلامي، وبالتالي فإنه لا مخرج إلا بالتحرر من هاتين السلطتين، لكن كل الذي فعله أنه عاد لسلطة السلف الغربي وسلطة السلف الإسلامي، ليقدم لنا توليفة لعقلانية تأخذ قليلاً من باشلار وقليلاً من ابن رشد، قليلاً من غرامشي وقليلاً من ابن باجه، لينتهي به المطاف بوصف مفكر أزمة إلى تفسير القرآن، متجاوزاً «تكوين العقل العربي»، وهو الكتاب الأهم من وجهة نظري، و«بنية العقل العربي» و«العقل السياسي» وما شابه ذلك.
لقد انتقد الجابري الفكر العربي بوصفه فكر مشروع، وليس فكر واقع، مع أن كل فكر واقع هو بالضرورة فكر مشروع. انتقد الجابري التلوث الأيديولوجي للفكر العربي، ثم قدم أيديولوجيا أيضاً، ولهذا لم ينتصر الفيلسوف في فكر الجابري، بل إن مشروع الفيلسوف الذي كانه قد مات في إهاب الفقيه الذي صاره.
ومع ذلك خسرت الحياة بموت الجابري شخصاً يسمح لنا أن نتجاوزه، وعندي أن تجاوز الجابري ومن شابه الجابري أمر على غاية كبيرة من الأهمية. فهؤلاء التراثيون الذين قضوا، والذي يعيشون بيننا، أرهقوا الفكر بما ليس بمجد، متعقدين أن علة الحاضر ليست في الحاضر، وليست في الماضي أصلاً، بل العلة في ماض يجب أن يكون حاضراً على نحو جديد، وهذا هو منطق الأزمة ومنطق الفكر المأزوم.
رحيل الجابري مناسبة لإقامة قطيعة مع الجابري بوصفه أنموذجاً لفكر الأزمة، وأقصد نموذجاً لمفكري التراث من كل أنواع مفكري التراث، فإذا كنا غير قادرين على تكنيس تاريخ مادي واقعي بغياب فئات اجتماعية حيوية راديكالية، فلنقم بالهجوم على أكبر معاقل تأبيد الواقع، ألا وهي الفكر، فالفكر الذي يؤبد الواقع، حتى لو لبس إهاباً تجديدياً، لا ينجب إلا نكوصاً.
في النهاية فكرة التجديد التي راودته في لحظة ما، وبالتالي ربما كان من الطبيعي أن ينتقل ذاك الذي اشتغل بالتراث مأزوماً إلى ركب النكوصيين المتشبثين والمتعلقين بخشب قديم مرمي في بحر تتقاذفه الأمواج، لكنه لن يشكل سفينة نجاة.

يوســف ســلامة:
البحــث النبيــل
عرفت الجابــري منذ أكثـر من ربـع قرن، عندما كنت أحضّر لدكــتوراه في القـاهرة، وقد استمر الراحل الكبير في الفصـول التـالية من حياته، بعد أن صرت أسـتاذاً فــي جامـعة دمشق، جاداً ومخلصاً في البحث، وكأنه طالب مبتدئ.
لم يكن الجابري طيلة حياتــه يشــعر بأنه قد وصل إلى الحقيقة، ولذلك كانــت سيرة حياته بحثاً موصولاً في اتجاه الحقيــقة، وقد اقترنت هذه السيرة بمــوقف أخلاقـي نبيل جسد الجابري من خلاله دومــاً إيمانه بقيـمة العقـل العـربي وبقيمة الفرد العربي وبقيمة الأمة العربية ومستقبلها.
كان الجابري فيلسوفاً مخلصاً ولكنه كان في الوقت نفسه داعية متحمساً لما كان يتوصل إليه من نتائج، ولكنه كان في الوقت نفسه مستعداً للمراجعة والشك والارتياب.
رحيل الجابري خسارة للفكر العربي، ولكن عزاءنا موجود في إنتاجه العلمي والفلسفي، وفي ما ترك للثقافة العربية من قيم رفيعة وتوجهات نبيلة.
لكن هذا لا يعني أن الجابري لو كان على قيد الحياة ما كان ليكون سعيداً بنقدنا ومخالفتنا له، وفي الكثير مما ذهب إليه. 
  
بطاقــة 
 ودّع العالم العربي المفكّر المغربي محمد عابد الجابري، أمس الإثنين، عن عمر يناهز خمسة وسبعين عاماً.
الراحل من مواليد مدينة فجيج المغربية عام 1935، متزوج وأب لأربعة أولاد. حاصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة من كلية الآداب في الرباط، قبل أن ينال عام 1970 شهادة الدكتوراه في الفلسفة أيضاً. وقد درّس الجابري مادتي الفلسفة والفكر الإسلامي في الجامعة المغربية ما بين 1967 و2002.
عام 1988 حاز الجابري، الذي يعتبره النقاد واحداً من أهرامات الفكر المغربي، جائزة بغداد للثقافة العربية من اليونسكو، ومن بعدها عام 1999 حاز الجائزة المغاربية للثقافة من تونس، قبل أن ينال في عام 2005 جائزة الدراسات الفكرية في العالم العربي من مؤسسة MBI تحت رعاية اليونسكو، في العام نفسه تواصل مسلسل حصاد الجوائز بجائزة الرواد من مؤسسة الفكر العربي في بيروت.
تحتفظ الخزانة الخاصة للراحل بميدالية ابن سينا من اليونسكو، في حفل تكريم شاركت فيه الحكومة المغربية بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة في الرباط عام 2006، وعام 2008 وهذه المرة في برلين، نال الراحل جائزة ابن رشد للفكر الحر.
كان الجابري من القيادات التاريخية البارزة في حزب الاتحاد الاشتراكي، وقد ظل يشغل لفترة طويلة عضوية مكتبه السياسي، قبل أن يعتزل العمل السياسي ليتفرغ لمشاغله الأكاديمية والفكرية.
ساهم في إغناء المكتبة المغربية العربية، من خلال مؤلفات منها «العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي»، 1971، «نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي»، 1980 و «المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي» (1982)، و«إشكاليات الفكر العربي المعاصر» (1986) ، وكتابه في «نقد العقل العربي»، الذي صدر في ثلاثة أجزاء: «تكوين العقل العربي»(1982)، «بنية العقل العربي»(1986) و«العقل السياسي العربي»(1990)، وقد اعتبر النقاد هذه الثلاثية أهم ما كتب في موضوع العقل العربي، «التراث والحداثة (1991)، و«الخطاب العربي المعاصر» (1994)، و«وجهة نظر : نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر» (1992)، و«المسألة الثقافية» (1994) و«الديموقراطية وحقوق الإنسان» (1994)، و«مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب» (1995)، «الدين والدولة وتطبيق الشريعة» (1996)، و«المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية» (1996)، «العقل الأخلاقي العربي» (2001)، «مدخل إلى القرآن الكريم» (2008)، المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد (2008)، «الحوار... والمثقف» (2008). ترجم عدد من مؤلفاته إلى اللغات الإيطالية، الإنكليزية، البرتغالية والإسبانية.
هذا واشتهر الراحل بين الوسط الثقافي المغربي بإصدار مجلة شهرية بعنوان «نقد وفكر». 

المصدر: السفير

عن رحيل محمد عابد الجابري «ناقد» العقل العربي

أمس، غيّب الموت المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري (1935 ـــ 2010)، أحد أبرز أقطاب «العقلانية العربية» المعاصرة. من خلال أعماله التي تضاهي الثلاثين مؤلفاً في الفلسفة والفكر السياسي والدراسات التراثية، أخضع الجابري بنية العقل العربي لمشرط النقد. وعلى مدى ربع قرن، عمل على تفكيك تركيبة هذا العقل، ومساءلة مرجعياته، وخلخلة يقينياته ومسلّماته الدينية والفكرية والأخلاقية، في مؤلفه الموسوعي «نقد العقل العربي» الذي صدر في أربعة أجزاء: «تكوين العقل العربي» (1984)، و«بنية العقل العربي» (1986)، و«العقل السياسي العربي» (1990)، و«العقل الأخلاقي العربي» (2001).
معظم أقران الجابري (ومنتقديه)، من حسن حنفي إلى جورج طرابيشي، ومن علي حرب إلى محمد أركون، اكتفوا بدراسة الفكر العربي ونقده من منطلق أنّ «الفكر» هو الذي ينصبغ بالخصوصية المحلية، فيما «العقل» واحد في الشرق والغرب (د. علي حرب).
وحده صاحب «في نقد الحاجة إلى الإصلاح» انبرى لنقض هذه البديهية، مبتكراً مصطلح «العقل المستقيل» الذي أثبت من منظوره أن العقل العربي الذي يخشى الخوض في النقاشات الحضارية الكبرى، وينأى عن كل ما هو إشكالي، أو مثير للجدل، أو ناقض للإجماع، أو ناقد للبديهيات والمسلّمات، إنما هو «عقل مستقيل» لا يحتاج إلى الإصلاح والتجديد فحسب، بل إلى إعادة الابتكار! وقد أثبت بذلك أنّه لا يمكن الاكتفاء بنقد الفكر بل العقل العربي في كلّيته، إذ «لا نهضة فكرية ممكنة من دون تحصيل آلة إنتاجها، أي العقل الناهض».
في نظريته النقدية، لم يُغفل الجابري دراسة الفكر العربي، قديمه وحديثه، حيث خصّه بسلسلة من الأبحاث المرجعية التي بدأها منذ مطلع الثمانينيات، بكتابيه «نحن والتراث» (1980) و«الخطاب العربي المعاصر» (1982). ثم عاد إليها لاحقاً في «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» (1988)، و«قضايا في الفكر المعاصر» (1997)، وأخيراً «في نقد الحاجة إلى الإصلاح» (2005).
وعلى الرغم من المكانة المرموقة التي كان يحظى بها بين أقرانه من المفكرين العقلانيين و«فلاسفة ما بعد النهضة» العرب، إلا أن محمد عابد الجابري لم يتردد في التغريد خارج السرب، موجّهاً سهام النقد أيضاً إلى الفكر الحداثي والعلماني العربي المعاصر. فقد نادى بتأصيل الفكر التنويري والتقدمي في سياق عربي ـــــ إسلامي، مطالباً بـ«النظر إلى الأمة العربية والإسلامية كمجموع، وليس فقط إلى نخبة محصورة العدد، متصلة ببعض مظاهر الحداثة». وقد أعاب على هذه النخبة العربية أنها «تنظر في مرآتها، وتعتقد أن الوجود كله هو ما يُرى في تلك المرآة، فيما هي نخبة صغيرة، قليلة، ضعيفة الحجّة أمام التراثيين»... ليخلص إلى أنّ «المطلوب، في ما يخص الحداثة، ليس أن يُحدِث الحداثيون أنفسهم، بل أن ينشروا الحداثة على أوسع نطاق. والنطاق الأوسع هو نطاق التراث...».
من هذا المنطلق، ارتأى الجابري أن تحقيق العقلانية والحداثة يجب أن يتم من خلال تأصيلهما في البيئة الثقافية العربية ـــــ الإسلامية، عبر «ربط الجسور بين فكرنا العقلاني المعاصر واللحظات الحيّة والتقدمية في تراثنا». وقد كانت بوادر هذا المسعى الهادف إلى تأصيل العقلانية والحداثة قد برزت منذ أول كتاب أصدره الجابري في عام 1971 بعنوان «العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي». وقد كان ذلك الكتاب أطروحته لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة والفكر الإسلامي من «جامعة محمد الخامس» في الرباط (1970). ثم تُرجم هذا المسعى، على نحو أكثر عمقاً في كتابه «نحن والتراث» الذي يُعدّ أكثر أعماله مقروئية، إذ أُصدرت منه عشر طبعات بين أعوام 1980 و2006.
خلال عقد التسعينيات، أصبح الاشتغال على الجوانب النيّرة في التراث الإسلامي هو المحور المركزي لأبحاث الجابري. وقد أصدر في هذا الشأن ثلاثة مؤلفات بارزة، هي: «التراث والحداثة» (1991)، و«المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد» (1995)، و«الدين والدولة وتطبيق الشريعة» (1996).
ومن منطلق هذا المسعى التنويري ذاته، أشرف الجابري ــــ بين عامي 1997 و1998 ـــ على إعادة نشر أعمال ابن رشد (فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال/ الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة/ تهافت التهافت/ كتاب الكليات في الطب/ الضروري في السياسة: مختصر سياسة أفلاطون)، في طبعات خاصة طعّمها بمداخل ومقدمات وشروح وافية، لتكون في متناول القارئ المعاصر. ثم أصدر، امتداداً لذلك، كتابه «ابن رشد: سيرة وفكر» (1998).
أما خلال العشرية الأخيرة، وبعدما استكمل رباعية «نقد العقل العربي»، فقد تفرغ الجابري للدراسات القرآنية. هكذا، أصدر مؤلفين مرجعيين في هذا الشأن، هما: «مدخل إلى القرآن الكريم» (2006 ــــ مركز دراسات الوحدة العربية)، و«فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول» الذي كان آخر أعماله، وقد صدر في ثلاثة أجزاء خلال ربيع وخريف 2008.
في هذه الدراسات القرآنية، اعتمد الجابري المنهج ذاته الذي صنع فرادة كتاباته عن ابن خلدون (في «العصبية والدولة»)، وابن سينا («نحن والتراث»)، وابن رشد (في «سيرة وفكر»)، حيث طرح جانباً كل ما كُتب عن هؤلاء المفكرين، مكتفياً فقط بما وصلنا من صحيح مؤلفاتهم. واندرج ذلك ضمن منحى أكاديمي ينادي بتغليب النصوص والمتون على التعاليق والتأويلات.
من هذا المنطلق ذاته، اعتمد الجابري في دراساته القرآنية فقط على ما ورد في النص القرآني، بوصفه «النص المرجعي للعقل والحضارة الإسلامية»، مُسقطاً تماماً تعاليق وتفاسير الأئمة والفقهاء. بالنسبة إليه، الأهم ليس تفسير أو تأويل النص القرآني، بل مقاربة هذا النص من مدخل مغاير من أجل فهم ما يكشفه أو يعكسه عن بنية وتركيبة العقل العربي...
بالطبع، هذه المقاربة المجدّدة الهادفة إلى دراسة النص القرآني من منظور العلوم الإنسانية الحديثة، وبأدوات البحث العلمي المتجرّد، بمعزل عن سلطة الفقهاء وتأويلات المفسرين، لم تمر من دون تأليب التيارات السلفية ضد الجابري. هكذا، اتُّهم كتابه «مدخل إلى القرآن» بأنه يهدف إلى «التشكيك في سلامة القرآن الكريم من التحريف». أما مسعاه الهادف إلى تأصيل العقلانية والحداثة من خلال ربطهما بالجوانب النيّرة في التراث الإسلامي، فقد رأى فيها السلفيون خطراً أكبر من مساعي غيره من «العلمانيين الفاشلين». يقول الداعية سليمان بن صالح الخراشي، على موقعه الإلكتروني «صيد الفوائد»، عن الجابري «يسعى إلى تحقيق الحداثة من خلال التراث لا من خارجه، كما يفعل العلمانيون الفاشلون، الذين لم تنجح دعواتهم إلى تغريب المجتمع المسلم، لأنها أتت من خارجه. أما هو (أي الجابري)، فيلجأ إلى أسلحة التراثيين، ويجعلها ترتد إلى نحورهم، في محاولة خبيثة لإعادة تشكيل العقل والتاريخ والتراث حسب ما يريد، ومن هنا تأتي الخطورة»!

- نال الجابري العديد من الجوائز، من بينها جائزة «بغداد للثقافة العربية» (1988) «والجائزة المغاربية للثقافة» (1999) وجائزة «الدراسات الفكرية في العالم العربي» (2005) وميدالية ابن سينا في اليوم العالمي للفلسفة (2006). وفي عام 2008، حاز جائزة «ابن رشد للفكر الحرّ» التي خُصِّصت في تلك السنة لباحث عربي تقصّى في دراساته أسباب تعثّر النهضة العربية.

عثمان تزغارت- الأخبار

وريث المعتزلة في مواجهة حرّاس العقيدة
رحل محمد عابد الجابري فجأة، تاركاً إرثاً ثقافياً، عماده خوض أولى المعارك وأخطرها عبر مقارعته لثنائيات متعارضة، قامت برمّتها على جدلية التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، والباحثة عن تساؤل أساسي: كيف نقرأ تراثنا بعقل نقدي يتخطّى الانغلاقات الدوغمائية؟ أتى جواب الجابري بتأليف أمّهات المراجع بدءاً من أطروحته «نحن والتراث»، مروراً برباعيته «نقد العقل العربي»، وصولاً إلى «مدخل إلى القرآن الكريم». هذا العمل أثار جدلاً كبيراً داخل الأوساط الثقافية والإسلاموية في آن، بعدما قدّم مقاربات تأويلية كان أشدها وقعاً طرح تفسير جديد لأمّية الرسول. الجابري المنتمي إلى الجيل الثالث للنهضويين العرب، أمثال أنور عبد الملك وياسين الحافظ ومحمد أركون وعبد الله العروي، أمضى جهده الفكري في مُساءلة الذهنية العربية الإسلامية التي آثرت ـــــ منذ إغلاق باب الاجتهاد ـــــ المضي في دروب الماضوية، بكل ما تحمله العبارة من حروب خاضها هو وغيره، ممن كانت لهم الأسبقية التاريخية في الثورة على حرّاس العقيدة. ولعل محنة ابن رشد داعية الفلسفة العقلانية، والقائل بحرية الفكر إزاء العقيدة الدينية، تعبِّر بصورة صارخة عن أبرز الأفكار التي هجس بها الجابري.
جادل صاحب «ابن رشد، سيرة وفكر» معضلات التراث في المجال العربي الإسلامي بعين ثاقبة لا ترى إلّا في العلم سبيلاً لخرق المسكوت عنه. طبعاً لم يتقدّم بخلاصته إلّا بعد استناده إلى التجربتين الفكريتين اليونانية في العصر القديم، والأوروبية في العصر الحديث. تتحدد أبرز خلاصات الجابري في تجديد الفكر الإسلامي المتناثر في سياق جدلية الأصالة والمعاصرة، أي إنّ تأويل النصوص التأسيسية في الإسلام يقتضي رؤية تنويرية تُحيل على تفسير التراث من جديد. من هنا يمكن أن ندرك حجم المخاض الفكري الذي مرّ به الجابري، المسكون بأسئلة النهضة، والداعي إلى إعادة كتابة «تاريخنا». التاريخ الثقافي العربي السائد، بالنسبة إليه، مجرد اجترار وتكرار رديء للتاريخ الثقافي نفسه الذي كتبه «أجدادنا». لكن إذا كان العلم مصدر الوعي، وإذا كانت النهضة العلمية في أوروبا هي أساس التقدم الحضاري، فما الذي عرقل مسيرتها في الحاضرة العربية؟ يخلص الجابري الى أنّ الدور الذي قام به العلم عند اليونان، وفي أوروبا الحديثة في مساءلة الفكر الفلسفي ومخاصمته، قامت به السياسة في الثقافة العربية الإسلامية، معتبراً أن اللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحددها العلم، بل كانت تحددها السياسة، فظل علم الخوارزمي وابن الهيثم خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية.
الخلاصات التي تطرق إليها الجابري من نقد التراث، إلى ماهوية العقلية العربية بأجزائها الأربعة، وسطوة القبلية، ومسألة الهوية، ونكبة ابن رشد، والعصبية والدولة عند ابن خلدون، وتفسير القرآن بنكهة علمية، تستحق كلها قراءة القراءات، لأنها تعبِّر عن أبرز الإشكاليات التي نعاني منها، وتمثّل امتداداً لأزمة المعتزلة وورثتهم من العقلانيين العرب في زمن تسيطر عليه محاكم التفتيش ومشايخ التكفير.

ريتا فرج- الأخبار

المرض شغله عن معاركه... و«مقبرة الشهداء» تحتضن جثمانه اليوم
عن 75 عاماً، رحل أمس محمد عابد الجابري في منزله في الدار البيضاء، بعد صراع طويل مع مرض الكلى وضغط الدم. وسيوارى جثمانه في ثرى «مقبرة الشهداء» في الدار البيضاء بعد ظهر اليوم.
صاحب «مدخل إلى القرآن» خضع أخيراً لسلسلة عمليات، فقلّ ظهوره وندرت أخباره. طيلة المدة التي شغله فيها المرض، تعثّر صدور مجلته الرائدة «فكر ونقد» التي أسّسها عام 1997، بسبب أزمات مالية متلاحقة، وخصوصاً أنّه كان يموّلها من جيبه الخاص. ولد الجابري في فكيك شرق المغرب عام 1935، ثم غادرها إلى الدار البيضاء، ومنها إلى دمشق لإكمال دراسته في الفلسفة. عاد إلى الرباط لينال دكتوراه في الفلسفة عام 1970 من «كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة» في «جامعة محمد الخامس»، ثمّ درّس فيها مادتي الفلسفة والفكر العربي الإسلامي. المفكّر الذي نشط مطلع الخمسينيات في خلايا العمل الوطني ضد الاستعمار الفرنسي لبلاده، كان قيادياً في «حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» قبل تفرغه للشؤون الفكريّة.
في الجزء الثالث والأخير من مذكراته الذي صدر مطلع العام الحالي بعنوان «في غمار السياسة: فكراً وممارسة» (الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر)، يسرد الراحل أهم الأحداث التي عاصرها. نصوص تعكس مراحل تطوّر العقل العربي منذ الخمسينيات حتّى اليوم. رغم أثره الكبير في الفكر العربي المعاصر، كان الجابري محطّ هجوم الجمعيات الأمازيغيّة في بلاده التي اتهمته بـ«الترويج المبالغ فيه للأيديولوجيا العُروبية...»، علماً بأن الجابري من أصول أمازيغيّة.
رحيل صاحب «في تعريف القرآن» كان مفاجئاً للمثقفين المغاربة. في اتصال مع «الأخبار»، رأى وزير الثقافة بنسالم حميش رحيل الجابري «غياباً لعقل كبير حاول بناء نسق تشريحي للعقل العربي». بينما رأى المفكر كمال عبد اللطيف أنّ صاحب «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» هو «علامة أساسية في تأسيس الدرس الفلسفي في الجامعة وفي الثقافة المغربية مع زميله الفيلسوف الراحل محمد عزيز الحبابي». وذكّر عبد اللطيف بتأسيس الجابري لـ«أقلام»، أول مجلة عقلانية تنويرية في المغرب جمعت حولها عدداً مهماً من الفلاسفة المغاربة بينهم عبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت ومحمد سبيلا. أما الشاعر والروائي والرفيق السياسي للجابري، محمد الأشعري، فقال إنّ الجابري سيظلّ في ذاكرة المغرب المعاصر «رمزاً للمثقّف المنخرط في قضايا أمته والمنكبّ على فهم حاضرها من خلال البنى الثقافية العميقة التي أنتجها هذا العقل العربي على مرّ العصور».

محمود عبد الغني- الأخبار

بين العلمانية والسلفية
رحل محمد عابد الجابري بعد رحلة طويلة نجح خلالها في خلع هالة القدسية عن الموروث الفلسفي واللاهوتي العربي ووضعه في دائرة الضوء النقدي. لم يبتدع الجابري الدراسة النقدية للتراث. هي من مكوّنات الفكر العربي منذ مطلع القرن العشرين، مع أعمال مثل «في الشعر الجاهلي» لطه حسين و«الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق. لكنّ هذا التوجّه النقدي أخذ منحىً مختلفاً في السبعينيات والثمانينيات، بفضل أعمال الجابري ومنجزات باحثين آخرين.
زاوج المنحى الجديد بين الحس النقدي والرغبة في اكتشاف «خصوصيات الفكر العربي»، نائياً عن وهم تمثيل الحركات الفلسفية الأوروبية الحديثة. يمكن تلخيصُ مشروع الجابري في هذه الكلمات التي نقرأها في «التراث والحداثة»: «ما لم نمارس العقلانية في تراثنا، وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث، لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة «العالمية» كفاعلين لا كمجرد منفعلين». هنا، يدافع الراحل عن ضرورة «حداثة عربية» خاصة، منتقداً المشاريع السلفية والليبرالية والماركسية التقليدية للاندماج في العالم المعاصر.
تبدو «وسطية» الجابري محاولةً للتموضع بمعزل عن الصراعات الدائرة بين التيارات العلمانية والتيار الديني بعد انحسار المد «التقدمي» في العالم العربي. محاولةٌ جاءت تؤدي دور الحَكَم بين اليسار الماركسي المتراجع واليمين الإسلامي الصاعد. وتجلّت هذه الوسطية في جرأة دراسته للنص القرآني من ناحية، وفي رفض العلمنة من ناحية أخرى.
ويلاحظ أن الجابري برر استحالة تطبيق نظام علماني في العالم العربي بنفس تبريرات الإسلاميين. فهو مثلهم كان يرى «العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام، لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة». وقد عدّ كثيرٌ من العلمانيين العرب هذا الموقف تنازلاً إرادياً للحركة الإسلامية.
ورغم أن مشروع الجابري لرصد تكوين العقل العربي كان قطيعة نسبية مع ماضي الفكر الليبرالي في المنطقة العربية، فإنه بقي مطبوعاً بطابعه المثالي ذاته. قلّما كان هذا الفكر يعدّ التراث نتاج ظروف تاريخية أدى فيها الاقتصاد دوراً حيوياً. وهو حتّى إن ألقى عليه هذه النظرة المادية، فإنّه كان يعدّ «النهضة» أساساً عملية «تراكم فكري» سيقدّرُ لها يوماً أن تغيّر الواقع السياسي والاقتصادي.
صحيح أن في استخدام مصطلح «العقل المستقيل» لوصف جزء من الإنتاج الفكري واللاهوتي العربي تنويهاً بتباين هذا الإنتاج وتنوّعه، لكن ألا تشير عبارةُ «العقل العربي» في حدّ ذاتها إلى أن موضوعها معطى ثابت عبر العصور؟ ألا يعني ذلك افتراض تمايز جوهري بين «عقل عربي» وعقل آخر «غربي» يختلف عنه جذرياً؟ أما الدعوة إلى بناء «حداثة عربية فعّالة لا منفعلة»، فتحمل في طيّاتها الإيمان بأنّ بلورة فكر حداثي هي أولى مراحل الحدثنة العربية، وهو ما يفترض للفكر استقلاليةً كبيرةً عن سياقه التاريخي ودوراً جوهرياً في تغييره.

ياسين تملالي- الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...