وفاة الفنان التشكيلي السوري رضا حسحس

02-08-2016

وفاة الفنان التشكيلي السوري رضا حسحس

ثمة فيلم تسجيلي لم ينل فرصته في العرض، حين أنجز رضا حسحس، (1939- 2016) مع عمر أميرالاي، فيلماً وثائقياً لمصلحة «وزارة الشؤون الاجتماعية» عام 1968؛ مستنديَن في ذلك إلى توثيق نشاط الوحدات الإرشادية الزراعية لصناعة السجاد اليدوي في أرجاء سورية. جولة مطوّلة قطعها وقتذاك كلّ من التشكيلي والسينمائي، ليتعرّف عبرها (حسحس) على غنى الجغرافيا النائية في بلاده، ويطلّ على حبكة لونية سيعززها الفنان الراحل بعد تخرّجه من «كليّة الفنون الجميلة» في دمشق ستينيات القرن الفائت، كأبرز الملوّنين الذين استطاعوا أن يرفدوا المحترف السوري المعاصر بحسٍ نقدي بصري، طبع مجمل تجربته الجوالة بين كلّ من رومانيا وإيران وألمانيا وفرنسا وأميركا.
مدن كثيرة خبرها حسحس عن قرب، مجرّداً لونيتها التي استقاها من سديمية سهول حمص وانفتاحها على هواء البحر، وعبر منخفضات ترابية كثيفة تصلها شرقاً بالبادية الشامية وبتراميها البصري نحو الجزيرة السورية، ففي معرضه «رسوم وثائقية عن قرية سورية» (1976) الذي أقامه بعد معايشة طويلة للبداوة في قرية «صدد» (65 كم شرق حمص) أنتج حسحس لهجة تشكيلية محلية غاية في الخصوصية والفرادة، دامجاً بين طينيات المنازل وبين وجوه أطفال ونساء القرية الحمصية.
من هنا كرّس الراحل شخصية لونية مختلفة؛ يقول عنها الفنان طلال معلّا متحدثاً للسفير: «الألوان الذائبة في لوحات رضا حسحس استقت طبيعتها من الإطلالة على البادية، فلا ترى لوناً واضحاً، بل تداخل أفقي حتى في أعمال التشخيص التي قدمها عن الأطفال، حيث نقل الإحساس بالمكان إلى الحياة التي يرسمها أحياناً، فكان لديه مسطحات كأنها سرابات تعيد تشكيل اللون، مقرونةً بشيء من الارتياب والبنفسجيات التي نلاحظها في أعماله بكثافة، كما معظم تجارب فناني مدينتي حمص وحماة، فسواء كان في التشخيص أو الانطباع أو التجريد، كانت (الملوانة) الخاصة بحسحس تصر على البحث عن الأشياء في عالم غائم كلياً، ليس فيه وضوح للأشياء، حتى في مفهوم اللون كان هناك بعد سيكولوجي محلي نفسي، أوغل في حساسيات خاصة به تنتمي للذهن، وكيفية تصوّر الفنان لألوانه، ليس اللون كما هو في حقيقته، بل اللون كتركيبة ثقافية».
أتت أعمال حسحس منسجمة مع ماورائيات اللون التي زادها ثراءً العالم الداخلي، للوحة - إن جاز التعبير - هذا العالم المحمول على هوسه بارتكاب ما دعي بـ «المنظر الخلوي» وبنزعة تسجيلية تجذّرت أكثر فأكثر بعد إيفاده إلى «مدرسة الفنون الزخرفية» في مدينة «أوسون» الفرنسية، ليتخصص هناك في فن السجاد الجداري، متابعاً دراسته بعد ذلك في بلغاريا في فن تصميم السجّاد، ولتصقله تعمقاته الأكاديمية هذه، فيقدم معرضه الأول عام 1968 بعنوان «رسوم من الفرات» بعد عودته إلى دمشق، ثم ليتفرغ لتدريس مادة الرسم في كلية الفنون الجميلة.
السينما
 ثمانينيات القرن الفائت، سافر رضا إلى الولايات المتحدة الأميركية ليعمل مدرّساً أيضاً في جامعة «كنساس» قبل أن يعود إلى عاصمة بلاده مشاركاً في تجارب نخبة من سينمائيي بلاده عبر تصميمه للمناظر في أفلامهم؛ فكانت أبرز مساهماته في هذا المجال مع كل من محمد ملص في فيلمي «الليل» و «أحلام المدينة» وأسامة محمد في شريطه «نجوم النهار» بالإضافة إلى عمله في فيلم «وقائع العام المقبل» لسمير ذكرى. عن هذه التجربة يتحدث الناقد التشكيلي عمار حسن ايضاً للسفير فيقول: «ينتمي حسحس إلى تلك النوعية من الفنانين الشموليين، ويأتي عمله في التشكيل محاكياً لأعمال فناني المدرسة الانطباعية الرومانسية التي كان البريطانيان (جوزيف تيرنر 1775- 1851) و(جون كونستابل 1776- 1837) أبرز مؤسسيها؛ إذ اشتغلا على الطبيعة كترجمة لمشاعرهم وعوطفهم وبشكل رومانسي حالم، جاء وقتها كرد على الكلاسيكية وللخروج من سيطرة المدرسة الواقعية، لكن ما ميز حسحس هي الرؤى الضبابية في لونيته التي مزج فيها بين الهوائي والسائل، مؤكداً في أعماله عن السجاد الجداري كجزء من انتمائه ومورثه الثقافي البصري والروحي».
عكس الفنان معارفَ عديدة في مختبره الشخصي، مطوّحاً في الأقاليم السورية والعالم، ومنغمساً إلى أقصى حد في تجريبية استخلصت علامتها الفارقة من فطرية البيئات المحلية لبلاده، مقدّماً إضافةً بصرية لافتة، لم ترضخ للنظرية بقدر إصغائها للمشاهدة والاستبطان العميق لترابيات الأرض وعفوية وجودها في الطبيعة.
هذا الانهماك في المكان جعله في فترات عديدة من حياته أقرب إلى ورشة بحث مستمرة، سواء في تدريسه لمادة علم الجمال في المعهد العالي للفنون المسرحية، أو بترجمته للعديد من الكتب النظرية في التشكيل، والتي كان أبرزها: «زيارة ماتيس الأولى والثانية إلى المغرب» لألفرد بار و «تقنيات الرسم» لفريد غيتنغز، ليكون بذلك فناناً مُلمّاً بحركة الفن في العالم، وذلك عبر إطلاعه الحار والمباشر واليومي بآخر صرعات التشكيل ومدارسه ونجومه، وصولاً إلى مفهوم خاص عن «اللون والخط والتكوين» ليستخدم في عمارته اللونية مواد متعددة كالزيت والأكرليك والرصاص والمائي.

سامر محمد اسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...