كارل بولاني و العولمة

11-11-2008

كارل بولاني و العولمة

الجمل- ترجمة: مازن كم الماز:  إذا أراد المرء أن يفهم الطبيعة الحقيقية للعولمة الجارية التي تقوم على اتفاق واشنطن و مصيره الوشيك , يحتاج المرء لأن ينكب على كتاب كارل بولاني التحول العظيم الصادر عام 1944 . إن كتابات بولاني هي في الصميم اليوم أكثر من أي وقت مضى . فريد بلوك من جامعة كاليفورنيا محق تماما عندما يصرح أنه "بعد عدة عقود" يبقى كتاب التحول العظيم معاصرا . إنه ضروري بالفعل لفهم المأزق الذي يواجه المجتمع العالمي في بداية القرن ال 21 . تكمن استمراريته في حقيقة أنه "يقدم أقوى نقد أنتج حتى اليوم لليبرالية السوق – أي الاعتقاد بأن كلا من المجتمعات الوطنية و الاقتصاد العالمي يمكن و يجب أن تنظم عبر الأسواق ذاتية التنظيم . منذ الثمانينيات و خاصة مع نهاية الحرب الباردة في أوائل التسعينيات , أصبح هذا المبدأ , تحت لافتات "التاتشرية" , "الريغانية" , "النيو ليبرالية" , و "إجماع واشنطن" , هو السياسة العالمية المسيطرة .
بعد ظهور رائعة بولاني بفترة قصيرة , بدأت الحرب الباردة و كان أساس الصراع هو الرأسمالية ضد الاشتراكية على النمط السوفيتي و لم يكن كتابه وثيق الصلة بذلك النزاع . فقط بعد نهاية الحرب الباردة عندما بدأ صعود و فرض العولمة التي تستند إلى إجماع واشنطن على البلدان النامية , أصبح شديد الحضور . تذرع الليبراليون الجدد بأن التغييرات الثورية في مجال النقل و الاتصالات قد جعلت من الواضح أنه لا يوجد أي مخرج إلا بقبول النموذج الأنغلو أمريكي من رأسمالية السوق الحرة لدمج كل الاقتصاديات الوطنية في كيان كوني واحد لتسهيل التدفق الحر للبضائع و رأس المال . لقد أنتجت هذه الرؤية للعولمة قدرا كبيرا من المعارضة في كل مكان من العالم . سواء كان المرء مع أو ضد فيمكنه أن يتعلم الكثير من كتاب التحول العظيم .
قبل أن نواصل أبعد من ذلك لنلق نظرة على خلفية بولاني . هو من أصل مجري . رغم أنه ولد في فيينا عام 1886 فقد ترعرع في بودابست في بيئة من الالتزام الاشتراكي و الصدق الفكري . كان والده فيلسوفا معروفا في العلم و حاز أحد أولاد أخيه على جائزة نوبل في العلوم . في العشرينيات عمل بولاني كصحفي اقتصادي بارز و تعرف في سياق عمله على آراء و محاججات لودفيغ فون مايز و مناصره فريدريك فون حايك المشغول بمهمته لاستعادة الشرعية الفكرية لليبرالية السوق التي حطمتها الحرب العالمية الأولى و الانجذاب المتزايد صوب الاشتراكية بعد نجاح الثورة البلشفية . لا بد من ملاحظة أن كتاب بولاني التحول العظيم و كتاب حايك الطريق إلى العبودية قد صدرا في نفس السنة ( 1944 ) . كان لكل من بولاني و حايك أسبابهما لإصدار كتابيهما . بالنسبة لبلوك "فيما كان الأول يحتفي بالعقد الجديد في الولايات المتحدة خاصة لأنه وضع قيودا على تأثير قوى السوق , أصر كتاب الأخير أن إصلاحات العقد الجديد قد وضعت الولايات المتحدة على منحدر مضطرب سيقود إلى خراب اقتصادي و نظام شمولي معا" . رغم أنه كان لمايز و حايك نفوذ محدود لوقت طويل فقد استمرا في التأكيد على آرائهما . من الثلاثينيات و حتى الستينيات سيطر التفكير الكينزي ( نسبة للاقتصادي كينز ) على مقاربة الحكومات الفعالة للاقتصاد في الغرب و استمر تنظيم السوق من قبل الدولة .
لكن مايز و حايك نجحا في جذب عدد من الأنصار , كان أبرزهم ميلتون فريدمان , رئيس مدرسة شيكاغو . عاش حايك طويلا بما يكفي ليرى سقوط الاتحاد السوفيتي و ليكون مصدر إلهام مارغريت تاتشر و رونالد ريغان ليتقبلوا وصفته الليبرالية الجديدة , التي تتألف من إلغاء التنظيم , تحرير الاقتصاد و الخصخصة .
رغم أن كارل بولاني قد مات في عام 1964 قبل بدء العولمة التي يقودها إجماع واشنطن بكثير فإنه قد تنبأ بالنتائج الكارثية لليبرالية الجديدة في وقت مبكر كعشرينيات القرن الماضي . كصحفي اقتصادي شهد الكساد العظيم و صعود الفاشية . و أجبر هو نفسه على أن يفر إلى إنكلترا و بعدها إلى أمريكا . رغم أنه قد عاش بقية حياته في الغرب فإن اهتمامه الأساسي كان ذلك القسم من العالم الذي أصبح يعرف فيما بعد بالدول النامية . في رسالة إلى صديق في 6 يناير كانون الثاني 1958 كتب : " كانت حياتي حياة "عالمية" – لقد عشت حياة العالم البشري ... إن عملي هو لآسيا , لأفريقيا , للشعوب الجديدة" . اليوم عندما يشكل العالم النامي الهدف الرئيسي لأبطال السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة باسم إجماع واشنطن , يوفر كتاب بولاني تحليلا و براهين لتحريك الجماهير في سبيل مقاومة قوية .
بالعودة إلى الكتاب فإنه يتألف من ثلاثة أجزاء . الجزء الأول و الثالث يمتدان على خمسة فصول , يتعاملان مع الظروف الآنية التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى , و الكساد العظيم , العقد الجديد , و صعود الفاشية . المعضلة التي أثارها بولاني هي : لماذا تراجعت مرحلة طويلة من السلام و الرخاء النسبيين , التي امتدت من عام 1815 عندما اختفى نابليون من المسرح و حتى 1914 , لحساب انهيار اقتصادي و كساد عظيم و حربين عالميتين ذات آثار عالمية ؟ يحاول الجزء الثاني من الكتاب بفصوله ال 16 أن يقدم هذا التفسير .
بعد الثورة الصناعية بفترة قصيرة طلع آدم سميث بفكرة أنه إذا أبقت الدولة نفسها مقتصرة بشكل صارم على ثلاث وظائف , و هي بالتحديد , الدفاع عن البلد من الأعداء الخارجيين , الحفاظ على القانون و النظام داخليا و توفير خدمات مثل الطرق , المستشفيات , المدارس , الخ التي تستهلك بشكل جماعي دون أن يكون أي فرد أو مجموعة أفراد في وضع ليقوموا فيه بتوفيرها وأن تجمع الموارد فقط لتلبية هذه التعهدات أو الالتزامات , فإن "اليد الخفية" لقوى السوق سوف تقود الاقتصاد بسلاسة . لقد حذر من تشكيل أي نوع من الاتحادات أو النقابات من قبل العمال , أو منتجي المواد الخام و البضائع , و إلا فإن أصحاب المتاجر و المستهلكين سوف يفسدون السير السلس للاقتصاد . بكلمات أخرى لقد استبعد التفاوض أو التعاقد الجماعي من قبل العمال و تشكيل احتكارات من قبل المنتجين . كانت هذه نظرية ليبرالية السوق التي كانت فكرتها الأساسية أنه على المجتمع أن يخضع لآلية السوق ذاتية التنظيم . و قد حاولت إنكلترا التي كانت يومها الاقتصاد المهيمن في العالم أن تفرضها كأساس لتنظيم الاقتصاد العالمي .
في الجزء الثاني من الكتاب ( الفصول من 11 إلى 18 ) يكشف بولاني أن ليبرالية السوق قد أدت إلى ظهور رد فعل معاكس و حتمي من جانب المجتمع لحماية نفسه من الآثار الوخيمة للسوق و مقاومة محاولتها الهيمنة على المجتمع . نقتبس من بلوك : "عنت هذه الجهود أن ليبرالية السوق لا يمكنها أن تعمل كما خطط لها , و أن المؤسسات التي تحكم الاقتصاد العالمي قد خلقت توترات متزايدة داخل و بين الشعوب . أدى انهيار السلام إلى الحرب العالمية الأولى , و أدى انهيار النظام الاقتصادي إلى الكساد العظيم , التي ظهرت كنتيجة مباشرة لمحاولة تنظيم الاقتصاد العالمي على أساس ليبرالية السوق . "أما التحول العظيم" الثاني – صعود الفاشية – فهو نتيجة "للتحول العظيم" الأول – صعود ليبرالية السوق" .
رغم أنه اتفق مع كينز فيما يتعلق بنقده لليبرالية السوق , فقد كان لديه تفسيره الخاص لسيطرة ليبرالية السوق و للنتائج التي انبثقت عن هذه الهيمنة . فكرة التثبيت التي وضعها , هي مفتاح هذا التفسير . تذهب هذه الفكرة إلى أن الاقتصاد لم يكن , قبل بدء الثورة الصناعية , مستقلا بل كان جزءا متكاملا من المجتمع و كان خاضعا لسياساته و عاداته و تراثه و ممارساته الدينية و لعلاقاته الاجتماعية . مع الثورة الصناعية برزت مجموعة جديدة من الاقتصاديين ابتداءا من آدم سميث فصاعدا , لم تعتقد أنه من المنطقي الاستمرار بالنموذج القديم من إبقاء الاقتصاد في قبضة المجتمع بل أن يترك تحت نظام الأسواق ذاتية التنظيم . هكذا تعين على المجتمع أن يخضع لمنطق السوق . بالاقتباس من بولاني , "بالنتيجة , لهذا كانت السيطرة على النظام الاقتصادي من قبل السوق ذات أهمية حاسمة لتنظيم المجتمع ككل , لم تعن سوى إدارة المجتمع كتابع للسوق . عوضا عن أن يكون الاقتصاد منغرسا أو مثبتا في العلاقات الاجتماعية , أصبحت العلاقات الاجتماعية هي المنغرسة في النظام الاقتصادي . أعاقت الأهمية الحاسمة للعامل الاقتصادي لوجود المجتمع أية نتائج أخرى . هذه المرة جرى تنظيم النظام الاقتصادي في مؤسسات منفصلة , تقوم على دوافع معينة و تمنحها وضعية خاصة , أصبح من الضروري تكوين المجتمع بطريقة تسمح لذلك النظام بالعمل بحسب قوانينه الخاصة . هذا هو معنى التأكيد الشائع بأن اقتصاد السوق يمكنه العمل فقط في مجتمع السوق" .
يؤكد بولاني أن "الخطوة التي حولت الأسواق المعزولة إلى اقتصاد سوق , الأسواق المنظمة إلى أسواق ذاتية التنظيم , هي بالفعل حاسمة" . "إلا أنه من الخطأ القول بأن "تطورا كهذا كان نتيجة طبيعية لانتشار الأسواق . لم يجر إدراك أن تجهيز الأسواق في نظام ذاتي التنظيم ذا قوة هائلة لم يكن نتيجة لأي اتجاه فطري أو طبيعي في الأسواق نحو النمو , بل بالأحرى نتيجة تأثير مثيرات أو حوافز اصطناعية إلى حد كبير ركزت على الجسم الاجتماعي للنظام لتلاقي وضعا خلقته ظاهرة الآلة التي لا تقل اصطناعية" .
يؤكد بولاني أن السوق ذاتي التنظيم بالكامل , التي انتزعت بكل معنى الكلمة من المجتمع ليست إلا خرافة . لا يمكن تحقيقها في الواقع . بكلماته "إن أطروحتنا هي أن فكرة السوق ذاتية التكيف تفترض يوتوبيا ( خيالا ) صارخا . لا يمكن لمؤسسة كهذه أن توجد لأي فترة من الوقت دون أن تدمر الجوهر الإنساني و الطبيعي للمجتمع , إنها ستدمر ماديا الإنسان و ستحول محيطها إلى قفر . حتما سيتخذ المجتمع إجراءات لحماية نفسه , لكن مهما كانت هذه الإجراءات التي سيتخذها فإنها ستضعف التنظيم الذاتي للسوق , ستشوش الحياة الصناعية , و بالتالي ستنتج المجتمع بطريقة أخرى . كانت هذه هي المعضلة التي دفعت تطور نظام السوق إلى أزمة أكيدة و أخيرا مزقت التنظيم الاجتماعي الذي يقوم عليه" .
إن مهمة خلق اقتصاد سوق ذاتي التنظيم بالكامل قد استندت إلى افتراض أن كلا من الكائنات البشرية و البيئة الطبيعية قد حولت إلى سلع فقط , أي أنها تباع و تشرى بحرية . إذا حدث هذا فإنه سيؤدي إلى تدمير كلا من المجتمع الإنساني و البيئة الطبيعية . إذا نظرنا حولنا يصبح من الواضح أن مريدي العولمة الجارية التي تقوم على إجماع واشنطن كانوا يدفعون المجتمعات البشرية باستمرار نحو حافة النهاية . إن ظاهرة الاحتباس الحراري الكونية ونتائجها الحتمية هي نموذج شديد الوضوح . المتاجرة بالبشر و التجارة النامية بالأعضاء البشرية تؤشر على أن الكائنات البشرية قد اختزلت إلى مجرد سلع فقط . إن الجهود لزيادة استقلالية السوق تصل إلى حد الكيد . إن مقاومة العولمة الجارية تكتسب الزخم اليوم . يرفض الناس أن يتم إغراءهم بالمزامير المبرقعة الجديدة و الخضوع لتدمير المجتمع و الطبيعة .
لفهم البند الأساسي لحركة المقاومة هذه دعونا نعود إلى ما قاله بولاني . لقد عبر عن الشيء الذي ينتج بغرض البيع في سوق ما بالسلعة . من هذه الزاوية ميز بين سلعة حقيقية و وهمية . فقد اعتبر الأرض , العمل , المال , سلعا غير حقيقية بل وهمية لأنها لا تنتج كي تباع في السوق .
فيما يخص العمل فقد ثبت أن تحويله إلى سلعة كان كارثيا . "أن نفصل العمل عن بقية فعاليات الحياة و أن نخضعه لقوانين السوق عنى تدمير كل الأشكال العضوية للوجود و أن يستبدل بنمط مختلف من التنظيم , نموذج متنافر الأجزاء و فردي" .
"كان أفضل ما خدم برنامجا كهذا للتدمير هو تطبيق مبدأ حرية التعاقد . عنى هذا في الممارسة أنه يجب تصفية التنظيمات غير التعاقدية للقرابة , الجوار , المهنة , و العقيدة حيث أنها كانت تدعي ولاء الفرد و تقيد حريته . تمثيل هذا المبدأ على أنه مبدأ عدم التدخل , كما تعود الليبراليون الاقتصاديون أن يفعلوا , كان محض تعبير عن التحامل المتأصل لصالح نوع محدد من التدخل , أي بكلمة أخرى , تلك التي ستدمر العلاقات غير التعاقدية بين الأفراد و تمنع إعادة تشكيلها العفوي" .
إن عملية اغتراب الكائنات البشرية عن وسائل الإنتاج أجبرهم على بيع قوة عملهم أو أن يجوعوا . هكذا أصبح عملهم سلعة . إن تدمير المجتمع البدائي مع كل أعمدته أصبح ضروريا لتسليع العمل لأن في المجتمع البدائي لم يوجد الخوف من الجوع . في الهند وفر مجتمع القرية و العائلة المشتركة الحماية من الجوع . مما كانت نقائص المجتمع قبل الرأسمالي في الهند , فقد كان نظام الجاجماني jajmani شكلا مستقرا لتوزيع الإنتاج الاجتماعي . بالنسبة لبولاني "لقد كان غياب التهديد بالجوع الفردي هو الذي صنع المجتمع البدائي , الذي كان أكثر إنسانية إلى حد ما من اقتصاد السوق , و في نفس الوقت أقل كلفة" .
فيم يتعلق بالأرض فهي عنصر من الطبيعة , التي كانت مرتبطة بشكل وثيق بالمؤسسات الإنسانية . فإن عزلها و تحويلها إلى سلعة قد عاد بنتائج بعيدة الأثر نشاهدها اليوم في الكثير من بقاع الهند . لاحظ بولاني : "تقليديا لم ينفصل العمل و الأرض عن بعضهما , شكل العمل جزءا من الحياة , بقيت الأرض جزءا من الطبيعة , و شكلت الحياة و الطبيعة كلا موحدا . هكذا فقد ألحقت الأرض بتنظيمات القرابة , الجوار , المهنة و العقيدة – بالقبيلة و المعبد , القرية , النقابة و الكنيسة . إن سوقا كبيرة واحدة هو , من جهة أخرى , تنظيم للحياة الاقتصادية يتضمن الأسواق كعناصر للإنتاج . و لأنه اتفق أن هذه العناصر لم يمكن تمييزها من عناصر المؤسسات الإنسانية , الإنسان و الطبيعة , يمكننا حالا أن نرى أن اقتصاد السوق يتضمن مؤسسات مجتمعية تخضع لمتطلبات آلية السوق .
"إن الاقتراح فيما يتعلق بالأرض هو خيالي تماما كما هو بالنسبة للعمل . إن الوظيفة الاقتصادية ليست إلا واحدة من الوظائف العديدة الحيوية للأرض . إنها تمنح الاستقرار لحياة الإنسان , إنها مكان سكناه , و هي شرط سلامته الجسدية , إنها المشهد و أوقاته . يمكننا أن نتصور كذلك ولادته دون أيدي أو أرجل عن أن يستطيع مواصلة حياته دون أرض . و أيضا فإن فصل الأرض عن الإنسان و تنظيم المجتمع بطريقة مكرسة لتلبية متطلبات سوق العقار كجزء أساسي من المفهوم الخيالي لاقتصاد السوق " .
لتحويل الأرض إلى سلعة بذل المستعمرون كل ما بوسعهم لتدمير النظام الاجتماعي و الثقافي للشعوب المستعمرة . "كانت المرحلة الأولى هي تسليع الأرض , محركين الدخل الإقطاعي للأرض . كانت المرحلة الثانية أن يفرض على إنتاج الغذاء و المواد الخام العضوية خدمة حاجات السكان الصناعيين الذين يزدادون بسرعة على مستوى قومي . كانت الثالثة هي توسيع نظام إنتاج فضل القيمة هذا إلى ما وراء البحار و البلدان المستعمرة . بهذه الخطوة الأخيرة أصبحت الأرض و إنتاجها متلائمة مع مشروع سوق عالمي ذاتي التنظيم" . من الواضح أن هذه التصفية كانت مرادف لتسليع الأرض أو جعلها سلعة . هكذا أصبحت الأرض واقعة في نطاق السوق . كانت الخطوة التالية هي في جعل الأرض تنتج المواد الخام و الغذاء لإطعام المصانع حديثة الإنشاء و العمال الذين يعملون هناك .
كشفت أزمة نظام السوق ذاتي التنظيم عن نفسها في الحرب العالمية الأولى , انهيار الذهب كمعيار و الكساد العظيم . أي أن القانون الذي يقول أن العرض يخلق الطلب الخاص به و عقيدة السوق ذاتية التنظيم , المنفصلة تماما عن المجتمع , قد انهار . بينما كان العقد الجديد مجرد محاولة للتعامل مع هذا الوضع , كانت المحاولتين الأخريين هي التخطيط و تدخل الدولة , و الفاشية .
ما الذي عرضته الفاشية لمعالجة الأزمة , التي سببتها الرأسمالية الليبرالية ؟ لقد وضعت وصفتها في "إصلاح اقتصاد السوق الذي سيتحقق على حساب استئصال كل المؤسسات الديمقراطية , سواء في المجال الصناعي و السياسي . النظام الاقتصادي الذي كان عرضة لخطر التمزق سيتم تجديده هكذا , فيما سيكون الناس أنفسهم عرضة لإعادة التعليم المصمم لتجريد الفرد و جعله غير قادر على العمل كجزء مسؤول من الجسد السياسي . إعادة التعليم هذه , التي تشمل وصايا سياسة تنكر أفكار الأخوة بين البشر بكل أشكالها , جرى إنجازها من خلال فعل التحويل الجماعي المفروض ضد العصاة بواسطة الطرق العلمية للتعذيب" .
من الممتع ملاحظة أن كلا من الاشتراكية و الفاشية "تستمد جذورها في مجتمع السوق الذي يرفض أن يعمل بنجاح" . أكثر من ذلك كانت الفاشية موجهة ضد نظام السوق ذاتي التنظيم بالإضافة إلى منافسه , الاشتراكية . أشار بولاني إلى أنه "في الواقع فإن الدور الذي لعبته الفاشية قد تحدد بعامل واحد : شرط نظام السوق" .
لقد تعلقت هيمنة الفاشية مباشرة بصحة نظام السوق . بين عامي 1917 – 1923 عندما كان نظام السوق في وضع جيد , لم تكن هناك حاجة لمساعدتها لضبط الأمور . لقد بقيت غير متطورة رغم أن الحكومات قد نشدت خدماتها أحيانا للحفاظ على القانون و النظام بسحق القوى التي تهدف إلى تغيير النظام الاجتماعي الاقتصادي القائم . "في فترة 1924 – 29 عندما بدا أن استعادة نظام السوق غير مؤكد , تراجعت الفاشية كقوة سياسية على الإجمال .
"بعد عام 1930 كان نظام السوق في أزمة عامة . أصبحت الفاشية خلال عدة سنوات قوة دولية" . في تلك الفترة طرحت بديلا عن النظام الصناعي , يقوم على التخلي عن السوق ذاتية التنظيم . هكذا "فإن الأنظمة الناشئة للفاشية و الاشتراكية و العقد الجديد , كانت متشابهة فقط في التخلي عن مبادئ سياسة عدم التدخل" .
أدت مجتمعات السوق إلى ظهور اتجاهين متناقضين , أعني اتجاه سياسة عدم التدخل إلى توسيع حدود السوق و التيار المضاد الوقائي للحد من مجالها . ليس فقط العمال , بل الرأسماليين أيضا , انضموا أحيانا إلى المقاومة بسبب الخوف من الغموض و التذبذبات التي قد تؤدي إليها الأسواق ذاتية التنظيم .
لم تفقد كتابات بولاني صحتها في حقبة العولمة الحالية . كلا , لقد ازدادت أهميتها . يجري إخبارنا منذ نهاية الحرب الباردة ليلا ونهارا أن حقبة غير عكوسة في التاريخ الإنساني قد بدأت . لقد بدأت بجعل الحدود القومية إضافة إلى الدول القومية باطلة بالتقادم . ما أن قبلت الشعوب بمنطق السوق العالمي , لم يعد أمامها خيار سوى أن تفتح أبواب اقتصاداتها للتدفق الحر للبضائع و رأس المال . هذا سيفتح الطريق لاستبدال النزاعات و المنافسين القدامى بمودة و تنافس ودي في إنتاج البضائع و الخدمات و ابتكار تقنيات أفضل و أشكال تنظيم العمل . مثل أسلافهم يصر النيو ليبراليون على أنه يجب على كل الشعوب أن تملك ثقة كاملة في فعالية الأسواق ذاتية التنظيم .
أن الحقبة الحالية من العولمة قد وضعت بشكل أفضل من سابقاتها . و أن النظام المالي العالمي الحالي أكثر فاعلية و خال من المشاكل من المعيار الذهبي ( السابق الذي انهار في القرن الماضي – المترجم ) . "أسعار الصرف و العملات الوطنية لم تعد ثابتة في مقابل الذهب , يسمح لأغلب العملات بالتأرجح في القيمة في أسواق البورصات الخارجية . هناك أيضا مؤسسات نقدية أو مالية عالمية قوية مثل صندوق النقد الدولي و البنك الدولي تلعب دورا كبيرا في الإشراف على النظام العالمي . لكن وراء هذه الاختلافات الهامة هناك القول الشائع – الاعتقاد بأنه إذا منح الأفراد و الشركات أقصى حرية للسعي وراء مصالحهم الخاصة الاقتصادية , فإن السوق العالمي سيجعل الجميع في حالة أفضل .
"إن هذا الاعتقاد الأساسي هو الذي يكمن خلف الجهود المنظمة للنيو ليبراليين لتفكيك القيود على التجارة و تدفق رأس المال و الحد من "التدخل" الحكومي في تنظيم الحياة الاقتصادية" .
توماس فريدمان المحرر في النيو يورك تايمز و البطل الذي لا يكل للعولمة الجارية قد أكد : "عندما تعترف بلادك ... بقواعد السوق الحرة في الاقتصاد العالمي اليوم , و تقرر الالتزام بها , فإنها تلبس ما أسميه "لباس المجانين الذهبي" . إن لباس المجانين الذهبي هو رداء سياسي اقتصادي محدد لحقبة العولمة . امتلكت الحرب الباردة بزة ماو , سترة نهرو , الفراء الروسي , أما العولمة فلديها فقط لباس المجانين الذهبي . إذا لم توافق بلدك على واحدة حتى الآن , فإنها ستفعل قريبا" .
يتطلب لباس المجانين الذهبي أن يجري تحجيم دور الدولة و وظائفها بشكل كبير , و أن تحرر حركة التجارة و رأس المال من كل القيود , و أن يجري إلغاء تنظيم الأسواق الرأسمالية . في حقبة العولمة الراهنة ليس أمام الدولة أي خيار سوى أن تلبس الرداء الجديد لأنها مكرهة على ذلك من قبل "القطيع المكهرب" للمتاجرين الدوليين في الأسواق المالية و البورصات الأجنبية . السؤال : هل يمكن إنجاز هذه الرؤية ؟
إذا تذكرنا تحليل بولاني للسلع الوهمية الثلاثة سيصبح واضحا عندها أن "النسخة النيو ليبرالية لتكيف السوق الآلي على مستوى كوني هي وهم خطير . تماما كما تعتمد الاقتصاديات الوطنية على طور حكومي فعال , كذلك يحتاج الاقتصاد العالمي إلى مؤسسات تنظيمية قوية , بما في ذلك صاحب المرجع الأخير . من دون مؤسسات كهذه فإن اقتصادات معينة – و ربما مجمل الاقتصاد العالمي – ستعاني من أزمات اقتصادية معيقة .
"لكن النقطة الأكثر جوهرية التي نتعلمها من بولاني هو أن ليبرالية السوق تفرض متطلبات ما على الناس العاديين , متطلبات لا يمكن أن تطاق بكل بساطة . العمال , المزارعون , أصحاب الأعمال الصغيرة , لن يتحملوا و لا لأي فترة من الوقت نموذجا من التنظيم الاقتصادي سيكونون فيه عرضة لتذبذبات دورية دراماتيكية في أوضاعهم الاقتصادية اليومية . باختصار إن الوهم النيو ليبرالي عن عالم آمن و بلا حدود يتطلب أن يكون لدى ملايين الناس العاديين على امتداد العالم الاستعداد لتحمل ... فترة طويلة سيكون عليهم خلالها أن يعيشوا على نصف أو حتى أقل مما كانوا يكسبونه في السابق . اعتقد بولاني أن المطالبة بمثل هذا النوع من الاستعداد هو خاطئ أخلاقيا و غير واقعي بشدة . بالنسبة له من الحتمي أن الناس سوف يتحركون ليحموا أنفسهم من هذه الصدمات الاقتصادية" .
يؤدي الاستياء المتزايد إلى احتجاجات في أشكال مختلفة ( بما في ذلك انتحار المزارعين في الهند كما نشاهده في أوقاتنا الحالية ) التي تحاول الجماهير بواسطتها أن تقاوم العولمة النيو ليبرالية . إذا أصبح الاستياء أكثر قوة و انتشارا , فقد تلجأ الطبقات الحاكمة إلى الطائفية , النظام الطبقي المتحجر , العنصرية , الإقليمية , الخ لشق وحدة الشعب و بذر الخلاف بينهم . من الواضح أن النسخة الوهمية للنيو ليبراليين تؤدي إلى نتائج كارثية .
من غير الصحيح أنه لا يوجد بديل عن العولمة الجارية التي تستند إلى إجماع واشنطن أو النيو ليبرالية . من قراءة كتاب بولاني يتجلى أن البديل يكمن في مزيج من الاشتراكية و الديمقراطية . "تعتمد رؤية بولاني على توسيع دور الحكومة سواء محليا أو عالميا . لقد تحدى الآراء الدارجة الآن أن المزيد من تدخل الحكومة سيؤدي حتما إلى نتائج اقتصادية سيئة و سيطرة مفرطة على الحياة الاجتماعية" .
وصل العمل على الإصلاح في الولايات المتحدة إلى نهايته أناء الحرب الباردة . فقط في الدول الاسكندينافية بقيت رؤية بولاني مؤثرة و أدت إلى نشوء دول الرفاه" . لكن في البلاد الأكبر هجرت رؤية بولاني , واكتسبت الآراء المعارضة لليبراليي السوق مثل حايك القوة باطراد , محققة النصر في الثمانينيات و التسعينيات" .
عندما أصبحت الحرب الباردة مجرد تاريخ احتلت رؤية بولاني مكانتها من جديد . إنها توفر بديلا حقيقيا للعولمة التي تقوم على ليبرالية السوق التي لا تطاق و التي تؤدي إلى ظهور أزمات اقتصادية و أنظمة تسلطية . "البديل هو في مشاركة الناس العاديين من كل شعوب العالم في الجهد المشترك لإخضاع الاقتصاد للسياسات الديمقراطية على أساس التعاون الدولي" .
في النهاية "بالنسبة لبولاني فإن النقيصة الأعمق في ليبرالية السوق هي أنها تخضع الأهداف الإنسانية لمنطق آلية سوق غير مجسدة . إنه يدعو عوضا عن ذلك إلى أنه على الكائنات البشرية أن تستخدم أدوات الحكم الديمقراطي للسيطرة على الاقتصاد و توجيهه لتلبية حاجاتنا الفردية و الجماعية" .

بقلم: د.غيريش ميشرا
gmishra@girishmishra.com

نقلا عن   www.zmag.org/znet/viewArticle/19083  


  
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...