تدرجات الرمادي: إعادة النظر في مجزرة الحولة

26-06-2012

تدرجات الرمادي: إعادة النظر في مجزرة الحولة

الجمل- ترجمة ديما السيد:
رصد موقع ميديا لينس كيفية تغطية الإعلام البريطاني لمجزرة الحولة. وإشار الموقع إلى أنه مباشرة بعد المجزرة, وقبل أن تتضح هوية مرتكبيها, حملت وسائل الإعلام الرئيسية الرئيس الأسد وحكومته مسؤولية  قتل الأبرياء في الحولة . لطالما استخدم مثل هذا النوع من الأزمات و المجازر (الحقيقية و المفتعلة و المتخيلة) حجة لتبرير التدخل العسكري الغربي, تحت غطاء إنساني, لقلب الأنظمة التي لا تعجبه و تمرير أجنداته. لقد كانت مجزرة ريشاك في كوسوفو الشرارة التي أشعلت حرب الناتو على صربيا. و تكرر الأمر في العراق, عام 2003, إذ اتخذت أسلحة الدمار الشامل المزعومة حجة لاحتلال العراق. ومؤخرا في ليبيا, شكل الخوف من وقوع مجزرة في بنغازي غطاء للهجوم الجوي على ليبيا. ومن الواضح أن الثوار السوريين كانوا يأملون أن تكون الحولة هي "بنغازيهم" لجر الغرب إلى تدخل عسكري في البلاد.
 ولكن تقرير الأمم المتحدة الذي أشار إلى أن القصف أدى لمقتل أقل من 20 شخص فقط, سرعان ما كذب التقارير الصحفية الأولية التي اتهمت القوات السورية بالمذبحة إثر قصفها للمنطقة. فتحول الاتهام إلى الميليشيات الموالية للحكومة التي قيل أنها قامت بعمليات ذبح وإعدام بإطلاق النار على الرأس. وعززت هذه الادعاءات المطالب بتدخل عسكري غربي مفتوح في سوريا.
في السابع من حزيران, ابتدأ محرر الأخبار الدولية في بي بي سي جون ويليامز تدوينته بما يمكن اعتباره نوعا من الاعتراف بالذنب: إذ أكد "تعقيد الوضع على الأرض في سوريا, وضرورة تحري الواقع من الخيال". كان هذا التأكيد مفاجئا, نظرا لأن المحطة لم يسبق لها أن أوحت ب"التعقيد" في اتهامها للحكومة السورية.
يتابع ويليامز في تدوينته: " أوردت التقارير الصحفية الأولية الواردة بعد مجزرة الحولة أن 49  طفلا و 38 إمرأة قد قتلوا ذبحا. ولكن بعض المسؤولين الغربيين في دمشق أخبروني بأن التحقيقات التالية نفت وجود مذبوحين بين القتلى. لقد قامت القوات السورية بقصف المنطقة قبل فترة قصيرة من وقوع المجزرة, ولكن لا توجد تفاصيل واضحة عمن ارتكب المجزرة ولماذا وكيف تم ذلك؟... اتهمت الميليشيات الموالية للنظام بارتكاب مجزرتي الحولة والقبير. ولكن عدى عن عدد القتلى, فإن الحقائق المتوفرة قليلة: ليس واضحا من أمر بالقتل ولماذا؟.... إن مايجري ليس أبيض أو أسود, بل هو تدرجات للرمادي. لمعارضي الرئيس الأسد أجندتهم. وقد وصف أحد المسؤولين الغربيين الاستراتيجية التي يتبعونها للتواصل عبر اليوتيوب ب"المذهلة". وقارنها بما يعرف ب "العمليات النفسية", وتقنيات غسل الدماغ التي تستخدمها  الولايات المتحدة لإقناع الشعب بأمور غير صحيحة دوما. يعتبر الشك من أهم صفات الصحفي, لا سيما عند تغطية النزاعات. إن التحديات كبيرة, ولا تبدو الأمور دوما كما هي عليه."
في اليوم نفسه, نشرت البي بي سي على موقعها ما يعزز فكرة "تدرجات الرمادي". إذ كتب مراسلها بول داناهار: " يشترك العديد من الدبلوماسيين في دمشق, والمسؤوليين الدوليين, والمعارضين للرئيس الأسد في رأي مفاده أن النظام لم يعد يملك السيطرة المطلقة على بعض الميليشيات المتهمة بارتكاب مجازر ضد مدنيين. خلال ال15 شهرا الماضية, كان العالم ينظر إلى سوريا بمنظار الأبيض والأسود. وعليه الآن أن يبدأ برؤية التدرجات الرمادية التي بدأت بالظهور...قال أعضاء من المجتمع الدولي في دمشق أنه خلافا للتقاريرالأولية, فإن معظم الوفيات في الحولة نتجت عن زخات رصاص أطلقت في الغرف, وليس  جراء الإعدام بإطلاق النار على الرأس أو بحز الأعناق."
هذه الادعاءات الجديدة والهامة تناقض جوانب هامة من الإجماع الذي صنعته وسائل الإعلام حول الحولة. فكلها مثلا نقلت "حقائق مؤكدة" عن ذبح مروع للأطفال. ويبدو الآن أن هذا ليس صحيح. ولكن الأهم من ذلك, أنها أوحت بما لا يقبل الشك بأن الحكومة السورية تتحمل مسؤولية الفظائع المرتكبة وأن هذا يبرر تدخلا عسكريا.
تستحق تقارير ويليامز و داناهار من سوريا أن تكون عناوين رئيسية, ولكنها لم تكن. فآراء ويليامز نشرت على مدونته, أما تعليق داناهار فنشر في مستطيل صغير إلى جانب المقال الرئيسي الذي يتحدث عن مجزرة القبير. وقد عدل المقال 16 مرة. وظهرت فقرة " التدرجات الرمادية" في التعديل الثاني, ثم نقلت إلى نهاية المقال الطويل قبل أن توضع في التعديل العاشر في مستطيل جانبي. وقد تناقلت عدة صحف تقرير داناهار عن مجزرة القبير, ولكن لم تشر أي منها إلى ما كتبه بخصوص ضرورة أن يعترف العالم بظهور تدرجات رمادية.

الغارديان:" يبدو التقرير قيل عن قال"
وفقا للتقرير الذي نشرته صحيفة الفرانكفورتر الألمانية المعروفة في 7 حزيران, فإن معظم ضحايا مجزرة الحولة هم من الطائفتين العلوية والشيعية, وقد تم قتلهم من قبل ميليشيات سنية معادية للأسد. كتبت ناشيونال ريفيو: " إن تقرير الفرانكفورتر يتضمن روايات منقولة عن شهود عيان هاربين من الحولة ألتجأوا إلى دير سانت جيمس في قارة. وفقا لمصادر الدير التي نقلها مارتن جانسن, وهو خبير ألماني في شؤون الشرق الأوسط, فإن مجموعات مسلحة معارضة قتلت عائلات بأكملها من الطائفة العلوية في قرية تلدو في منطقة الحولة."صورة تناقلها رواد الفايسبوك
لم نجد إي أثر لتقرير الفرانكفورتر في الصحف البريطانية. وعندما استوضحنا الأمر من ماثيو ويفر في الغارديان قال:" يبدو التقرير قيلا عن قال, وهو يناقض ما نقله "مراسلونا". لكن باتريك سيل, الخبير في شؤون المنطقة و الكاتب في الغارديان, له رأي آخر. إذ تحدث عن التقرير في 12 حزيران على موقع ميدل إيست أونلاين, مذكرا بأن الصحيفة الألمانية التي نشرته هي صحيفة جادة, وختم بأننا "بحاجة إلى تحقيق مستقل لتحديد أي من الروايتين هي الرواية الصحيحة."
ما يثير الاستغراب هو أن الغارديان قد سبق لها أن نشرت العديد من تقارير "القيل عن قال" عن سوريا مصدرها نشطاء المعارضة السورية في بريطانيا. فمثلا, في 7 حزيران نشرت الغارديان تقريرا عن مجزرة القبير:" قال المرصد السوري لحقوق الإنسان, ومقره بريطانيا, أن المجزرة ارتكبتها ميليشيات موالية للنظام مستخدمة البنادق والسكاكين, بعد أن قصفت القوات النظامية المنطقة." لقد نقلت الغارديان أخبارا عديدة عن المرصد السوري لحقوق الإنسان, علما أن المرصد, وفقا لرويترز, يتألف من شخص واحد هو رامي عبد الرحيم. ومرة أخرى, يناقض باتريك سيل الغارديان بخصوص مجزرة القبير, فيكتب: " صرحت الناطقة باسم المراقبين الدوليين الذين زاروا القبير بأن الظروف المحيطة بالحادثة غير واضحة."
في السياق نفسه, يبدو أن الغارديان و صحفا أخرى لا تتردد في الحديث عن احتمال "فبركة" النظام للهجمات على سوريا لاتهام الثوار بها. إذ عنونت " سوريا تتهم القاعدة بالوقوف خلف تفجيري السيارتين المفخختين الذين قتلا العشرات في دمشق. نشطاء المعارضة يرفضون الرواية الرسمية متهمين نظام الأسد بترتيب الانفجارين تزامنا مع زيارة المراقبين العرب." في مقابل ذلك, فإن ما نقلته الصحيفة الألمانية من تدبير الثوار السوريين لمجزرة الحولة لم يجد له مكانا في الإعلام البريطاني.
يفترض مراسل القناة الرابعة أليكس تومسون بعد زيارته للحولة, احتمال ارتكاب ميليشيات موالية للمجزرة, و لكنه ينبه إلى أن "الجدل يستمر حول هوية الفاعلين, ولكني أعتقد بأننا لن نتمكن أبدا من معرفة الفاعل". و يشير تومسون إلى أن الجيش السوري الحر نصب له و لصحفيين آخرين فخا بإرساله إلى خط النار ليقتل : " أنا متأكد من أن الثوار قاموا عمدا بالإيقاع بنا ليقوم الجيش السوري بإطلاق النار علينا. فقتل الصحفيين يسيء إلى دمشق...أرجوكم, لا تعتقدوا أن تجربتي مع الثوار في القصير كانت حادثة فريدة. إذ تلقيت هذا الصباح رسالة عبر تويتر من نواف آل ثاني, وهو محام في حقوق الإنسان وعضو في لجنة المراقبين العرب, مفادها أنه تعرض لتجربة مماثلة خلال جولة للمراقبين في الزبداني. وهذا يجعلنا نتساءل إن كان غيرنا قد تعرضوا لأمر مشابه أثناء تغطيتهم لما يحدث في مناطق الثوار في سوريا."
وقد ربطت الديلي ميل بين تجربة تومسون وما حدث لماري كولفن, مراسلة الصاندي تايمز, التي قتلت في قصف للقوات السورية, وتساءلت الصحيفة إن كان الجيش الحر قد أوقع بها أيضا. " إن ما يسمى بالربيع العربي, الذي تمثل الحرب الأهلية السورية جزءا منه, هو حدث معقد أكثر مما يتصور المتابعون الغربيون الساذجون والأبرياء. فهو ليس مجرد انتفاضة فلاحين مسحوقين على قمع الطغاة. بل هو عملية نقل للسلطة إلى جماعات مناهضة أو مجوعات إسلامية, في إطار استكمال للحرب الباردة بين روسيا و الولايات المتحدة."
وتكتب ماري دجيفسكي بقليل من التشكك في الإندبندنت : "إن الصورة خادعة على كل المستويات. فحتى على أصغر المستويات وأكثرها محلية, تبدو الأمور أقل بياضا و سوادا مما يهيء لنا. حتى أن الافتراض بأن قوات الأسد هي المسؤولة عن المذبحة ليس صحيحا تماما. ففي الحولة كما في القبير, يتهم الشبيحة بالمجزرة."
أما التايمز فهي تميل إلى الحقيقة عندما تقول "إن المعلومات الممكن التحقق منها نادرة, لأن نظام الأسد أراد لها أن تكون كذلك." ولكن يبدو أن عقبة كقلة المعلومات المؤكدة لن تقف في وجه التايمز إذ تتابع " تظهر المجازر فساد النظام. و تقر الدبلوماسية الدولية بضرورة التطلع إلى مستقبل ما بعد الأسد, بالرغم من الانقسام الدولي."
" هل سيخطو العالم باتجاه أيقاف المذبجة العراقية؟" 
بالنسبة للغارديان فإن مرتكبي المجزرتين معروفون :" هناك تشابهات كثيرة: فكلا الهجومين وقعا بعد قصف بالمدفعية,  وكان عدد النساء والأطفال مرتفع بين الضحايا, كماعملت الميليشيات الموالية يدا بيد مع الجيش.." أما المنطق الذي يقف خلف ذلك وفقا للصحيفة:" الطائفية هي وسيلة النظام  للبقاء "
نذكر هنا بتحليل لمجموعة ستراتفور لتحليل المخاطر تستبعد فيه تورط الحكومة السورية في مذابح ضد المدنيين, ذلك أن قوات النظام تحاول تجنب ارتفاع عدد الضحايا الذي يمكن أن يقود لتدخل بذرائع إنسانية. في مقابل ذلك, وفق وثيقة سربتها ويكيليكس, يعتقد البنتاغون بأن " التدخل الجوي لن يحدث مالم يكن هناك تركيز إعلامي على مجزرة, كما حدث عندما تحرك القذافي ضد بنغازي."
في مقالة نشرتها الإندبندنت بعنوان" هل سيخطو العالم باتجاه أيقاف المذبحة السورية؟", تتساءل الكاتبة إن كان هناك رد عسكري يلوح في الأفق. ولكن الإندبندنت لم تتساءل قط " هل سيخطو العالم باتجاه أيقاف المذبحة العراقية؟" بل إن نفس الكاتبة نشرت في 2004 بهذا الخصوص عنوانها " الولايات المتحدة تبدأ هجوما طال انتظاره في الفلوجة, هو الأكبر لها منذ حرب فييتنام."
ارتأى محررو الأوبسرفر في افتتاحية الصحيفة عن سوريا أن " الغضب هو أسهل ردود الفعل...الصعوبة تكمن في أن العالم بات أكثر حذرا بعد عقد من التدخل العسكري الغربي الملتبس, والمستند إلى افتراضات منها الجيدة ومنها السيئة."
بهذه الطريقة, بكلمة "ملتبس", تصف الصحيفة ذات الميول اليسارية مقتل أكثر من مليون عراقي, وتخريب حياة 4 ملايين لاجئ, وتدمير بلد بأكمله. ولكن الصحيفة تكمل:" أقل ما يقال عن نتائج هذه التدخلات أنها كانت مخيبة للأمل." هي مخيبة يالنسبة لللأحياء بلا شك, وبنسبة أقل للأموات. وتحذر الصحيفة بأن الحروب في المنطقة تخاض بصعوبة " كما اكتشفت اسرائيل من خلال مغامرتها الطويلة في لبنان..."
لقد كانت حرب لبنان "مغامرة", وهي طبعا "مخيبة" بالنسبة للمدنيين اللبنانيين, و ربما كانت فوق ذلك "ملتبسة". أما بالنسبة لسوريا, فإن الغرب غير قادر حاليا على مجاراة شهيته الطبيعية للتخريب: "إّذا كان التدخل العسكري على الأرض للإطاحة بالأسد أو لحماية المدنيين غير وارد حاليا على قائمة الخيارات, فإن الخيار الآخرالمتمثل بتدريب وتسليح الثوار السوريين لا يقل التباسا عن الخيار الأول."
بكل كياسة, يسقط الوحش الغربي القصف والغزو من "قائمة الخيارات", و يستمر في بحثه الحثيث عن بدائل. وكالعادة, فإن الخيار الدبلوماسي للبحث عن حل سلمي ورحيم ليس واردا عندما يكون الهدف هو تغيير النظام.

الجمل: قسم الترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...