باصات المطار.. إسعفيني يا عين

05-03-2016

باصات المطار.. إسعفيني يا عين

الجمل ـ فراس القاضي:

المشهد برمّته مدعاةٌ للاكتئاب، بدءاً من مكان انطلاق باصات مطار دمشق الدولي، المجاور لعقدة مرورية يقف عند منعطفها عشرات المنتظرين لوسائل النقل وما على وجوههم من تعب وأسى، وانتهاءً بالوجوم الواضح على وجوه ركاب باصات المطار المسافرين إما إلى بيروت ومن ثم إلى تركيا بشكل نظامي، ومن ثم إلى أوروربا عن طريق مهرّبي الموت، أو إلى القامشلي ومن ثم تهريباً إلى تركيا، ثم إلى أوروبا بالطريقة ذاتها.
ويزيد المشهدَ كآبةً، أنك لا تستطيع النظر إلى أي من الأطفال المتوجهين مع أهاليهم إلى المطار، دون أن تتخيل (إيلان) جديد، إيلان الطفل السوري الذي شغلت صورته - وهو مرمي على وجهه - العالم لأسابيع، وهو يحاول الوصول مع أهله إلى أرض الحلم المفترض.
تقترب من المسافرين، تحاول استنطاقهم فلا يستجب أحد.. تخبرهم بأنك صحفي، فيكون الجواب ابتسامة عريضة. والابتسامة هذي لها معنى واحد، وهو أنهم يظنونك رجلَ أمن.. ومن يستجب يطلب البطاقة الصحفية، فتخبره بأنك لا تعمل لجهة معينة، وليس لديك بطاقة، فتكبر الابتسامة.. أي: إذاً أنت رجل أمن وبكل تأكيد.
أحدهم استجاب بعد الإلحاح، وقال إنه سيتحدث من باب تضييع الوقت حتى يحين موعد الانطلاق إلى المطار، لكن الغريب أنه أجاب عن السؤال وكأنه ينتظره منذ سنين، وكان جوابه نوع من أنواع الاعترافات التي تجلب الراحة لمن يظن أو لمن يُقرُّ بأنه مذنبٌ بطريقة ما:
(لم يعد يربطني بهذا البلد أي شيء.. فقدت منزلي في مخيم اليرموك، وسيارة أجرة كانت تعينني على تكاليف الحياة، وصارت الأوضاع المعيشية تزداد سوءاً كل يوم، ولا نحصل على مساعدة من أحد. إذاً علي البدء من جديد، فلما لا أبدأ في مكان جديد، أضمن فيه - على الأقل - أن أولادي سيأكلون ويتعلمون، ولن أخشى عليهم من جوع ولا تشرد ولا قذيفة أو غير ذلك من مفرزات الحرب.
أنا مدرّس، وبكل صراحة، ما عدت أعرف بماذا سأجيب طلابي عندما يسألونني عن المستقبل، أخشى أن أجيبَ بما يحرضهم على البلد، أو بما يزيد تفاؤلهم بأمور أرى أنها بعيدة جداً، وفي الحالة الأولى سأكون متجنيّاً، وفي الثانية سأكون كاذباً، وصدقاً يسبب لي هذا الأمر أرقاً وخوفاً كلما دخلت إلى أحد الصفوف).
ثم يستدرك، فتتغير نبرةُ صوته ونظرةُ عينيه: (نعم تعلمتُ بالمجان، وحصلت على الرعاية الطبية بالمجان من الدولة، وعشت أجمل أيام حياتي هنا، لكنني الآن عاجز عن تأمين مستقبل أولادي.. لا أنكر أن ما تتعرض له سورية كبير جداً، لكن القليل من المحاسبة العلنية والحقيقية للفاسدين كان سيغير الأوضاع كثيراً، لو رأيت فاسداً واحداً في السجن لما فكرتُ ولو للحظة بالسفر، لكنني فقدت الأمل).
وتابع: (من المجحف ألا نعترف بأن الدولة صمدت صموداً عظيماً، لكن من المجحف أيضاً ألا نقول بأنها صمدت بصمودنا، نحن الذين نسمع الأخبار عن إمطار دمشق بالقذائف ولا نهاب ولا نختبئ في المنازل، ونحن الذين نغسل الشوارع من الدم ونعود لأعمالنا بعد دقائق، ونحن الذين ندفع سعر السلعة ذاتها مختلفاً في كل مرة بحجة ارتفاع سعر الدولار، ونحن الذين رفضنا ونرفض الانجرار إلى كل ما يضرُ ببلدنا، أنا لا أبيع مواقف، لكن أليس من حقنا أن نحصل على بعض المساعدة في هذه الأوضاع الصعبة؟)
ويشير بيده إلى ابنه ذي الأعوام الثلاثة ويتابع: (ما الذي يجبرني على ركوب (البلم) مع هذا الطفل في هذا الشتاء القاسي لولا أنني فقدت الأمل بكل شيء).
تناديه زوجته لتخبره بأن الركاب بدؤوا بالصعود إلى الباص، فيدير ظهره ويمشي دون أن ينطق بأي كلمة.
عندما تسمع ما قاله هذا المسافر، يخالجك للحظات شعور باليأس.. اليأس من محاولة إقناع سوري آخر بعدم الهجرة، فكل ما ستقوله، ستجد له عنده جواباً فيه الكثير من الحقيقة والإقناع، وستبدو أنت بمظهر المُنظّر، وستُتّهم بالحديث عن هموم الناس من برج عاجي، ولن يخطر ببالهم أنك تعيش ذات المعاناة، وربما بقسوة أكبر.
نعم.. ما قاله المهاجر المغامر صحيح، والكثير الكثير من تصرفات وقرارات الحكومة تدفع السوريين دفعاً إلى الهجرة، وقلة الدخل تدفع إلى الهجرة، والكهرباء تدفع إلى الهجرة، والدولار يدفع إلى الهجرة، والفساد يدفع إلى الهجرة، والقذائف والموت يدفعان إلى الهجرة، وجشع التجار يدفع إلى الهجرة، وآجارات المنازل في المناطق الآمنة حتى اليوم تدفع إلى الهجرة، وهروب أبناء المتنفذين والأغنياء من الخدمة الاحتياطية في الجيش وملاحقة الباقين على الحواجز تدفع إلى الحنق والهجرة، والحلم بمستقبل مختلف لأبنائنا يدفع إلى الهجرة.
كل ما سبق والكثير مما لم نذكره يدفع إلى الهجرة، لكن ملايين السوريين الباقين هنا يعيشون ذات الظروف، وذات المعاناة، ولم يهاجروا.
أردت تذكيره بأن ذكرياتنا هنا لن تتسع لها كل حقائب الدنيا، وأن هذا البلد الذي أعطانا الكثير ينتظر أن نردّ له بعض ما أعطانا، لكن وجهه البائس، وشعوره الواضح بالذنب منعني.
البعضُ يرى في الهجرة خيانة أو نصفُ خيانة، والبعض يراها الدواء الوحيد لدائنا السوري.. لن نفرض رأينا على أحد، لكننا وبكل تأكيد.. هنا باقون ما بقيت الشام.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...