الشهيدة الحيّة في تفجيرات جبلة.. زينب محمد: عندما قرأتُ الشهادتين مرتين عن روحي

04-06-2016

الشهيدة الحيّة في تفجيرات جبلة.. زينب محمد: عندما قرأتُ الشهادتين مرتين عن روحي


سيبقى يوم 32 أيار, ولسنين طويلة قادمة, يوماً أسود في ذاكرة أبناء سوريا عامة وسكّان الساحل السوري خاصّة, فكيف سيكون بالنسبة لمن شاءت الأقدار أن يكون في قلب الحدث في ذلك اليوم الدامي, وكُتبت له الحياة من جديد؟!زينب

قلّة هم الذين نجوا ممن كانوا في مواقع تفجيرات جبلة وطرطوس (4 تفجيرات متتالية في الأولى, و3 في الثانية), من هؤلاء القلّة الذين أحاطتهم العناية الإلهية بلطفها هي الآنسة زينب محمد (مدرسة مقرر اللغة الانكليزية بكلية الاقتصاد بجامعة تشرين باللادقية), التي زرناها, في منزلها ببانياس, لتهنئتها بالسلامة, والسماع منها لبعض ما جرى معها..

تقول زينب: "قصدتُ ميكرو (سرفيس) اللاذقية في كراجات جبلة, كان ثمة مقعدان شاغران, صعدت وجلست في أحدهما, تصادف وجود مقعدي من جهة النافذة المشرّعة للغرب.. كنتُ أمسك جهازي الخليوي بيدي فيما سماعاته في أذني أستمع إلى شيء ما, وجزداني معلّق على كتفي بطريقة طوّق بها جانباً من رقبتي.. لم يكن السرفيس قد باشر بالإقلاع بعد.. بالكاد مضت دقيقتان على ركوبي السرفيس حتى سمعتُ صوتاً دوى في المكان.. زجاج الميكرو, الذي ارتج من قوة الصوت, تناثر.. السمّعات سقطت من أذني وكذلك الجوال من يدي, لم أستوعب ما جرى.. الكلّ نزل من الميكرو بسرعة البرق, بقيت فيه للحظات لاعتقادي أنّ عملاً إرهابياً وقع وإنّه في هكذا حالة يتوجّب عليّ الانتظار قليلاً.. كنتُ آخر راكب ينزل من الميكرو, لم أفكّر لحظتها إن كنتُ مصابة أم لا.. نزلتُ بتثاقل, وجلست على الأرض قرب الميكرو, استحالة عليّ الرؤية من خلال عيني اليمنى, لم أستطع تحديد ما أصابني, ولم يكن لديّ قدرة على التفكير سوى بـ: هل مازلتُ أنا حيّة أرزق أم لا؟!".

نسأل زينب, ماذا خطر ببالها, بُعيد اعتقادها إن ماجرى لحظتها هو عمل إرهابي؟ تجيب: "ما أذكره جيداً أنّي قرأت الشهادتين عن روحي".

من بعد أن جلست زينب في أرض الكراج, فيما الدخان ورائحة المتفجرات يعبقان في المكان, وهي لا تعلم شيئاً عن هيئتها أو إن كان ألمّ بها مكروه, يتقدّم منها شاب يرتدي بزة عسكرية... تفيدنا: "حملني وذهب بي إلى سيارة خاصّة به كما فهمت, كانت مركونة خارج الكراج".. وضعها في المقعد الأمامي بجانب سيدة مُسنّة مصابة, كما كان في المقعد الخلفي بعض المصابين.

في الطريق إلى المشفى الوطني في جبلة, كانت تحاول النظر في مرآة السيارة لتتأكد ماذا أصابها؟ هل ثمة تشوهات حاقت بها, هل فقدت شيئاً من وجهها.. هل مازالت أذناها سليمتين وكذلك العين والأنف.. الخ, انتبهت –من خلال مرآة السيارة- إن عينها اليمنى مطبقة ولاتستطيع فتحها, ولم تكن تعرف إن كانت فقدتها أم لا.. كانت لون بشرتها شديدة البياض قد اكتسى لوناً مائلاً للسواد بفعل الهباب الناجم عن الانفجار, فيما شعر رأسها صار في هيئة أخرى..

قال لها العسكري بعد أن انتبه إليها تنظر إلى نفسها في مرآة سيارته, فيما هو يقودها بمن معه من جرحى: "أنا عسكري, وهي وصلتي إجازة من الجبهة, وسأُسعفك أنت والآخرين.. لا تقلقي, فأنت بخير".

تذكر أنه قال لها اسمه, لكن ثقل السمع الذي أصاب أذنيها بسبب صوت الانفجار, والآثار المترتبة عليه, منعاها عن التركيز وحفظ الاسم, وإن كانت تذكر أنه كان يشجعهن ويحاول تخفيف المصاب عنهن بكلمات ودودة تتناسب والحدث وإن لم يعلق في ذهنها الكثير منها.

يساعدها العسكري في الدخول إلى المستشفى الوطني حتى باب الإسعاف حيث يتركها ويخرج.. الأرجح خرج كي يساعد بقية المصابين الذين معه بالدخول إلى الإسعاف..

تقول زينب: "قسم الإسعاف مكوّن من غرفتين مفتوحتين على بعضهما, مساحتهما ربما لا تتجاوز الخمسين متراً, استقبلتني إحدى العاملات بالقسم, أدخلتني إلى الغرفة الثانية, وهناك ساعدتني -من بعد أن أخذت مني جزداني ووضعته جانباً- بالاستلقاء على مقعد خشبي شبيه بالذي نراه في الحدائق العامة.. قلتُ لها: زمرة دمي (O) سلبي, أرجوك اتصلي بأهلي واخبريهم أنّي هنا, وهناك طلبتُ من عسكري متواجد في القسم أن يسمح لي بجواله كي أخبر أهلي, فقط قلت لهم إنّي في مستشفى جبلة طالبة منهم المجيء لعندي, وماهي إلّا لحظات حتى سمعتُ صوت انفجار على مدخل قسم الإسعاف.. للوهلة الأولى أيقنتُ أن هذه نهاية حياتي, فسرعان ما قرأت للمرّة الثانية الشهادة عن روحي"..

تكمل زينب:"في لحظة الانفجار وبفعله مال المقعد الخشبي إلى الحائط فملتُ معه بحيث التصقت به (بالحائط) وأنا مازلت مستلقية, حينذاك شعرت بألم الرضوض في كتفي وخاصرتي اليمنى التي ربما لحقت بي من التفجير الأول, بيد أنّي أحسست أنّ بإمكاني النهوض, وأعتقد أن ماساعدني في التغلّب عليها هو مزاولتي لبعض التمارين الرياضية طوال شهر مضى قبل الحادث, ما إن أبصرت عينيّ بركة الدم قرب المقعد الخشبي حتى صعقت, إذ اعتقدت أن هذه الدماء سالت مني وسرعان ماتساءلت في نفسي وأنا مصعوقة: دمي ذهب كله, وقد يستحيل عليهم في المشفى تعويض مافُقد منه! عندما نهضت تحاشيت المشي فوق الدماء, فكنت أضع رجليّ على بعض الركام الذي خلّفه الانفجار, ما إن خطوت بضع خطوات حتى أبصرتُ بعيني اليسرى أشلاء لجثث كانت قبل لحظات تضجّ حياة وعطاء لأنّاس كنتُ بينهم, كساق أو قدم واحدة ظاهرة من تحت ركام, أو رأس.. الخ, ومن ثمّ اكتشفت أن الدماء تملأ الأرض من حولي, وهي دماء الذين استشهدوا للتوّ في قسم الإسعاف.. كان يستحيل عليّ أن أتجنب المشي فوقها!".. تستطرد زينب, فيما عيناها تلمعان بدمع تكابر عليه: "كل من كان في القسم استشهد, وأظن أن العسكري الذي اتصلتُ من جهازه كي أخبر أهلي استشهد في ذلك التفجير.. وكذلك العسكري الذي أسعفني"..

قبل أن تخرج من قسم الإسعاف, رأت جزدانها الذي يحوي بعض حاجياتها (كالبطاقة الشخصيّة, ونقوداً, وأوراق.. الخ) مفتوحاً من شدّة الانفجار, فتناولته, قاصدة الخروج.

ستعلم, لاحقاً, من ضابط قريب لها إن التفجير الذي أصاب قسم الإسعاف كان بحزام ناسف, وآلية انفجاره تصيب بآذاها من يكون مستواه أعلى من مستوى مكان وجود الحزام في جسم الإرهابي و من في مستواه.. تُعقّب زينب: "من لطف الله أنّي لحظة تفجيره كنت مستلقية على المقعد الخشبي, وإلّا لكان مصيري الاستشهاد مع من استشهد".

بعد مضي قليل من الوقت, تأتي سيارات إسعاف (تلحظ هي سيارة واحدة منها), وسيارات أخرى (الأرجح أنّها لمواطنين متطوعين) كي تُسعف المصابين بتفجير مشفى جبلة إلى المشفى الوطني في مدينة اللاذقية.. كانت الأوليّة في إسعاف الجرحى بحسب درجة خطورة المُصاب.. كان حظّ زينب أن تُسعف مع العشرات غيرها بباص للنقل الداخلي.. أرضية الباص كانت مكتظة بالمصابين (على مختلف درجات إصابتهم) فيما تعلو في فضائه أنّاتهم وآهاتهم.

تفيد زينب: "تصادف مقعدي بالقرب من السائق, وأظن أنّي استعنت بجواله أو جوال أحد ما يجلس قربنا, كي أخبر أهلي أنّي في طريقي إلى المستشفى الوطني في اللاذقية... فُتحت الحواجز عبر الأتوستراد للإسراع بنقل المصابين, وربما كنّا في الساعة العاشرة أو بعدها بقليل في قسم الإسعاف في المشفى المذكور, وكانت الأوليّة بالإسعاف تخضع لدرجة الإصابة..".

تتابع: "فيما كان ينقلني المسعفون إلى الطابق الرابع, وعبر مرآة المصعد الكهربائي, رأيت هيئتي للمرة الأولى, فصعقتُ, إذ أنكرتُ نفسي, فكيف سيكون موقف من يراني من أهلي؟ وأي صدمة قد يتلقونها وأنا في هذه الهيئة؟! إذ لم أكن أنا!".. في الغرفة التي وُضعت فيها (في الطابق الرابع), طلبت من أحد عناصر الكادر الطبي أن يمسح لها فقط وجهها كي يتعرّف أهلها عليها حال وصولهم.. كان يرقد على سرير بجانبها أحد المصابين في التفجير الذي ضرب إحدى المؤسسات التابعة لشركة الكهرباء في جبلة, ومن خلال صراخه استنتجت زينب إن إصابته خطرة.. (علمنا, إنّ جميع عمّال الكهرباء الذين أصيبوا بالتفجير قرب مؤسستهم في مدينة جبلة ارتقوا شهداء)..موقع تفجير كراجات جبلة الصورة ملتقطة الثلاثاء 31 ايار 2016

إحدى طبيبات المشفى الوطني, تمسح لزينب وجهها وتطمئنها أنّها بخير.. بعد وصول أهلها (الأب والأم).. أبصرت من زجاج الغرفة أقارب لها (يقطنون اللاذقية) يقتربون من غرفتها ليلقوا عليها نظرة عجلى ثم يخرجون دون أن ينبسوا بكلمة, مازاد خوفها وقلقها أنّ شيئاً ما ألم بها, من غير أن تعلم أنّهم كانوا يريدون من هذه النظرة العجلى أن يتأكدوا فقط أنّها بخير.. بعد إجراء الفحوصات الطبيّة اللازمة, والاطمئنان أنّها –بشكل عام- بخير, تنتقل إلى مشفى العثمان لإجراء فحوصات أخرى, وكانت كلّها جيدة.

على هامش بعض ما حدث لزينب:

-وجد رجل عجوز في كراجات جبلة, الهاتف النقّال الخاص بزينب, ولأنّه لم يعرف التعامل معه أعطاه لفتاة تقربه تتقن العمل عليه, فكان أصدقاء زينب يتصلون بها على رقمها فتردّ عليهم تلك الفتاة دون أن تعرف بماذا تجيبهم, إلى أن اتصل أهل زينب بالرقم وأخبروا الفتاة بالقصّة على أن يروها لاحقاً كي يأخذوا الجوال ويشكروها, من بعدها صارت الفتاة تُطمئن المتصلين على رقم زينب من معارفها أنّها بخير.

-أكثر شيء أثّر بزينب, هو العسكري الذي أسعفها من الكراجات إلى المستشفى الوطني بجبلة.. حال استشهد, تطلب له الرحمة, وتتمنى التعرّف بأهله, وإن كان حيّاً يُرزق –وهو ما ترجوه- فأمنيتها أن تراه كي تشكره وتعبّر له عن عميق امتنانها.

-أخيراً: تطمئن زينب معارفها وأصدقاءها أنّها تتماثل للشفاء مما أصابها من حروق وجروح كلّها كانت سطحية, وتشكر كلّ من سأل عنها ووقف معها, ولم يفتها طلب الرحمة للشهداء والشفاء العاجل للجرحى والمصابين.

تذييل: علمنا, أن نحو 25 طبيباً من جبلة, هرعوا, عقب سماعهم بتفجير الكراجات, باتجاه المشفى الوطني بغية إسعاف القادمين من الجرحى والمصابين, وشاءت الأقدار أن لا يصل أيّ منهم قبل ولحظة التفجير الذي لحق بقسم الإسعاف في المشفى.

حصل أوّل تفجير بكراجات جبلة من خلال حزام ناسف (البعض يقول عبوة مفخخة), وعندما اجتمع المواطنون دخلت السيارة المخففة, وكانت تبعد عن مكان تواجد ميكرو اللاذقية الذي فيه زينب نحو 15 متراً. أحد المواطنين من أصحاب الكولبات المتواجدة أسفل الكراج من جهة الغرب, أراد الذهاب إلى مكان التفجير بعد سماعه له (وكان حزاماً ناسفاً أو عبوة مفخخة) فمنعه عسكري يجلس عنده وسبق أن قُطعت رجله خلال الحرب في دير الزور, إذ قال له: "أنا بعرف هذه الأمور, لن تذهب الآن, لأن تفجيراً آخر سيعقبه بعد التفاف الناس حول التفجير", وهكذا كان.

يذكر آهالي جبلة, بطولة الشهيد وفيق عيسى "أبو نسيم" من قرية كفردبيل, بائع القهوة, على زاوية طريق قبالة محل "كوماندوس", إذ تصدى لإرهابي يحمل حزاماً ناسفاً كان في طريقه إلى مشفى "الأسعد" (وفق ما ذكرت مصادر خاصة).

من خلال الجولة التي قمنا بها  في مدينة جبلة, بعد التفجيرات, لاحظ أنّه لا توجد أية تطورات جديّة في مسألة التفتيش, ولم تتم إدخال أية أجهزة تقنية حديثة للمساعدة في ذلك, ناهيك عن انعدام التفتيش للداخلين إلى الكراجات, وطبعاً لاوجود لأي جهاز (كشف متفجرات) يعبر من خلاله الداخلون إلى الكراج, وقل الأمرّ ذاته في دوائر أخرى للدولة تشهد عادة اكتظاظاً بشرياً كالمقر الجديد للقصر العدلي, والكراجات القديمة.. الخ.

المصدر: فينكس

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...