آلية الدعاية في الإعلام الأمريكي وتشويه حقيقة الصراعات في الشرق الأوسط

06-11-2013

آلية الدعاية في الإعلام الأمريكي وتشويه حقيقة الصراعات في الشرق الأوسط

الجمل- جيسون هيرثلر- ترجمة: د. مالك سلمان:

من المفيد أن نتذكر ما قاله جورج أورويل عن الدعاية؛ إن ما يتم التعتيم عليه هو في الغالب أكثر أهمية مما يُقال. وإذا أخذنا عينة من مقالتين حديثتين نشرهما الإعلام الرسمي حول سوريا, نجد أن أورويل كان على حق. نص لمحطة "سي إن إن" كتبه جنيڤ عبدو, باحث في "معهد بروكينغز" ومتخصص في الشرق الأوسط, بعنوان "أسباب تفاقم النزاع السني – الشيعي"؛ ومقالة كتبها لصحيفة "نيويورك تايمز" روبن رايت الباحث في "معهد السلام" و "مركز ويلسون", بعنوان "تخيُل شرق أوسط جديد".
تظن وأنت تقرأ مقالين لأخصائيَين إقليميَين "متميزين" أنك ستحصل على المعلومات المطلوبة. وتتخيل أن هذين الأخصائيين سوف يوصفان بدقة مصادر النزاع المختلفة في المنطقة. لكنك تكتشف أنك كنت مخطئاً.
يقدم عبدو الشيخ المصري السني يوسف القرضاوي, الذي تقوم صورته الإيديولوجية ببث فقهه السني إلى الملايين في العالم العربي. فخلال الصيف شنَ القرضاوي حملات شعواء ضد الشيعة والعلويين, الغارقين في الرمال المتحركة لحرب الوكالة الأهلية الطائفية الإثنية. يريد القرضاوي من السنة الغاضبين أن يتدفقوا عبر الحدود السورية لتدمير حكومة الأسد. وإذا أخذنا بعين الاعتبار تكفير القرضاوي للعالم غير السني, يمكننا أن نتخيلَ "فردوس الشريعة" الذي يصوره للشرق الأدنى بعد مرحلة الأسد.
مقابل القرضاوي, يستعرض عبدو زعيم "حزب الله" حسن نصر الله, الذي أرسل مقاتلي حزب الله إلى سوريا للدفاع عن الأسد ضد أعدائهم الأبديين من السنة. ويقول عبدو إن نصر الله أيضاً عملَ على إذكاء الانقسام الطائفي بين الطائفتين الإسلاميتين. ثم هناك رئيس الحكومة العراقية نوري كمال المالكي, الذي وصف السنة بالإرهابيين وقام بتهميشهم على المستوى الفدرالي.
هذه هي الصورة التي نحصل عليها, أصل التشرذم في المنطقة. حتى أن القارىء الفطن يجد نفسه وهو يتساءل لماذا لا يجتمع هذان الطرفان ويعيشان في كيان جمهوري على غرارنا في الغرب. ثم يقلب القارىء الفطن الصفحة, ويقرأ بافتتان غبي عن إغلاق الحكومة دون أن يقارنَ بين الثقافتين اللتين تمزقهما الطوائف.
لكن المذهل في الموضوع هو أن عبدو لا يقول أي شيء حول الدور الأمريكي في أي من النزاعات التي يتحدث عنها, سواء في سوريا أو فلسطين أو العراق. وكأن الولايات المتحدة مجرد مراقب محايد يحدق بحكمة عبر فجوة التفوق الثقافي التي تفصلنا عنهم. ليس بمقدور أي مقالة تزعم توضيح مصدر تفاقم النزاع السني – الشيعي أن تتغافلَ عن العدوانية الأمريكية في توصيفها دون أن تفقدَ مصداقيتها.
لكن القارىء الذي لا يعرف تاريخ الإمبريالية لن يدرك ذلك. فالمرجح أن يحدث هو أن القارىء الليبرالي, الذي يتصفح الصحف, سوف يدخل إلى مقهى "ستاربَكس" في الصباح التالي ليشرب قهوة "اللاتيه" ويقرأ صحيفة "التايمز". وسوف يقع فيها على مقالة أخرى حول الفوضى الإقليمية كتبها أيضاً باحث "مميز" آخر هو روبن رايت. ويعد أن يدرك قارئنا بسرعة أن هذا ليس روبن رايت, الممثلة ونجمة الفيلم الخالد "برينسي برايد" ("الأميرة العروس"), يقوم بابتلاع السرد الذي يقدمه رايت بسذاجة مطلقة. ومن المؤكد أن اسم الكاتب يتمتع بالمصداقية. يقوم رايت بإغفال الأحداث التاريخية كما يغفل أعضاء "حزب الشاي" أسماءَ "الآباء المؤسسين".
بعد عدة مقاطع يتضح كل شيء. إن القوى الاستعمارية الأوروبية هي التي أشعلت الفتيل قبل قرن من الآن. تظهر صورة سايكس و بيكو وهما يحملان سكينيهما الطويلين و "يقطعان" جثة الإمبراطورية العثمانية المتفسخة. من هنا جاءت الفوضى السورية والعراقية والليبية واليمنية. يعتري المرءَ شعور بأنه يقرأ من منظور ما بعد التاريخ, وكأننا دفنا دوافعَنا الاستعمارية ودخلنا في عالم يشع بضوء الليبرالية الديمقراطية حيث نقوم بنشر قيمنا, بلطف شديد, في أمم الشرق المظلمة التي, بكلمات السياسي الهولندي بيم فورتشن الشهيرة, "لم تدخل بعد إلى غسالة التنوير الكهربائية".
بعد ذلك يقوم رايت برسم خريطة جديدة للشرق الأوسط, بمساعدة رسام الخرائط في صحيفة "التايمز", تظهر عليها عدة بلدان جديدة ساحرة تشمل "سنيستان" و "شيعستان" و "كردستان" و "علويستان" متوسطية و "طرابلستان" و "سيرينايكاستان" إفريقيتين. عليك أن تعترف – تيمناً بتقليد سايكس-بيكو – أن هذه الخارطة الجديدة تبدو معقولة. ففي نهاية المطاف, جميع هذه البلدان متحالفة تبعاً لانتماءات قبلية أو إثنية. وعلى المرء أن يرى كيف تعمل هذه التحالفات. لكن إعادة رسم هذه الخارطة بهذه السهولة تبعاً للهندسة الاستعمارية لا تنتبه, ولو بشكل عابر, إلى نفوذ القوة الاستعمارية الجديدة الكبرى التي تعيث فساداً في المنطقة: الولايات المتحدة. وكأن رايت, على غرار عبدو, يعاني من عمىً تاريخي يمنعه من رؤية العقوبات الوحشية, والتدخلات السافرة, والاحتلال الإمبريالي, والقصف المتواصل للمنطقة بالطائرات الآلية ("درونز").
لا يذكر رايت أو عبدو, ولو مرة واحدة, أن أمريكا استباحت العراق طيلة عشرين سنة, وألبت السنة على الشيعة في بلد تعايشت فيه الطوائف بمودة وسلام, حتى في ظل نظام صدام حسين البعثي. ولا يشير أيٌ منهما إلى أنه لولا الأسلحة الأمريكية والتدريب الأمريكي والمال الأمريكي – بالإضافة إلى مساعدة وكلاء أمريكا الإقليميين – لكانت الحكومة السورية قد أخمدت التمرد السوري, قبل إدخال كافة هذه المجموعات الأجنبية. كما يتم إغفال دور الناتو المدمر في زعزعة ليبيا بشكل كامل. هذا ناهيك عن قصف الطائرات الآلية في اليمن, الذي يتم تجاهله ورميه في سلة قمامة التاريخ.
رايت وعبدو مقيَدان, بالطبع, بمحرمات الناشرين الصامتة؛ وهما ركنان أساسيان من أركان الإعلام الرسمي الذي تهيمن عليه الدولة. فمن المرجح أنهما كانا سيواجهان بالرفض في حال تحليلهما للدور الأمريكي مهما كانت اللهجة النقدية ملطفة. وعلى الرغم من ذلك, يستنتج القارىء بنفسه أن محاولاتنا النبيلة الإنسانية في تهدئة المنطقة مجرد جهد عبثي. وأننا (بنفاذ صبرنا اللاتاريخي) لن نتمكنَ أبداً من تخفيف العداوات التي تلهب هذه القبائل الطائفية المتناحرة. يهز القارىء رأسَه بيأس, ويشرب ما تبقى من قهوة "اللاتيه", ويخرج إلى الضوء الساطع الذي يغسل المشهد المدني الغارق في الدعايات التجارية. في أمريكا, يفكر القارىء, لدينا قبائل من المستهلكين, مسالمة في ميولها, ولطيفة في منافساتها البريئة: "آبل" ضد "بي سي", "كوك" ضد "ببسي", "تارغيت" ضد "وولمارت". ثم يفكر أن الرأسمالية نظام مسالم لطيف. آه لو نستطيع تصديره إلى الشعوب الأخرى؛ كم كانت حياتهم ستتحسن. لكن هذه الرأسمالية نفسها هي التي تولد كل هذا الخوف من الأجانب في الشرق الأوسط. من المؤكد أنها ليست السبب الأول, لكنها المحرض الأخير. فإذا كان باحثونا هم عملاء العمى الجيوسياسي, أي أمل لدينا في الاستيقاظ على كل هذه المعلومات التي يسقطونها من تحليلاتهم؟


http://dissidentvoice.org/2013/11/whitewashing-the-middle-east/#more-51427

تُرجم عن ("ديسيدنت ڤويس", 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2013)

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...