غسان الرفاعي: الحلم الأخضر والمقصلة

16-08-2010

غسان الرفاعي: الحلم الأخضر والمقصلة

-1- حينما يغزوك الاكتئاب، من حيث لا تدري، ويستبد بك الملل، من حيث لا تتوقع، وحينما تشعر أن إنسانيتك منتهكة، وأن التضامن الدولي مع قضيتك مزور،. لا يوجد بلسم يريحك إلا الاستنقاع في كتاب، كنت تلقيته، أو أهداه إليك أحد زملائك أو اقتنيته من دكان أحد الوراقين، ثم أرجأت قراءته، بدافع السأم، وإلا الاستمتاع بحوار دافئ مع صديق يقاسمك الود ويشاطرك بعض هواجسك: ‏

هذان مفرجان يحرمانك من مشاهدة مجازر الأهل في العراق وفلسطين وأفغانستان، ويوفران لك التهرب من متابعة الندوات المتلفزة المبتذلة حول «السعير العربي الداكن» بين مثقفين امتهنوا الردح والمهاترة، يبدو أن الدراما الكونية المعاصرة، بما فيها من إحراج ووحشة قد فرضت على الإنسان العربي أن ينقلب إلى جامع «نفايات»، بعد أن ألزمته إلى التسكع العقلي العابث، وافتدته حتى البطولة الإغريقية التراجيدية في مواجهة الأقدار، وحرمته من الهزيمة المشرفة، كتلك التي حاقت بـ(هاملت) أو (دون كيشوت). وتزداد الحاجة إلى هذين المنفرجين، حينما يعاني الإنسان من فترة «نقاهة» بعد الخروج من المستشفى. ‏

2 ‏

يعطي الكاتب المغربي (الطاهر بن جلون) لكلمة «الرحيل» الرومانسية التي ارتبطت دوماً، في قصص العشق العربية، بمشاعر اللوعة والاشتياق معنى «كابوسيا» مثقلاً بالمرارة والإحباط، إن لم يكن بـ«الخيانة الوطنية». يقول في كلمة الإهداء التي وجهها لي، على الصفحة الأولى من روايته «الرحيل»: لكم أشعر بالعار، أنا الكاتب العربي الذي يكتب بالفرنسية، ويعيش في باريس، وأنا أروي في فصول هذه الرواية، ذات الأربعين فصلاً، مسيرة إنسان يفاخر بالفرار من «وطنه الحبيب»، ولا يتورع عن شتم أهله، مدفوعاً بدافع الحرص على إنسانيته؟ أليست سيرته نسخة ثانية عن سيرتنا، نحن الهاربين من جحيم الوطن إلى مبغى المهجر؟. ‏

«الرحيل» رواية فاجعة ومحرجة، وهي أكثر كتب (الطاهر بن جلون) الثلاثين قسوة ومرارة وشجاعة، إنها مجابهة ملوثة بين العالم العربي «الذي يعيش أسوأ حالاته، وأكثرها قذارة»، خاصة في مدينة طنجة /مدينة بن جلون الأم/ التي لا يفصلها عن القارة الأوروبية إلا مضيق صغير، هذه القارة التي لا تخجل من المجاهرة بأنها ستطرد «الأوباش» و«حثالة الناس» من أرضها «الطاهرة». ‏

3 ‏

تبدأ الرواية كما هو مألوف في معظم روايات (الطاهر بن جلون) في مقهى رث في مدينة طنجة، يحتشد فيه شبان مرد، يحتسون الشاي المنقوع بالنعناع، ويدخنون «الشيشة» بنهم وقلة أدب. إنهم فقراء معدمون لا يملكون إلا أسمالهم، بل لعلهم عاجزون عن دفع ثمن مشروبهم، وقد يتشاجرون في أية لحظة، هنا نلتقي بطل الرواية «عز العرب» المعروف بين رفاقه بـ«عازل». ‏

إنه شاب في ربيع العمر، متخرج من جامعة الرباط منذ أكثر من سنتين، ولكنه عاطل عن العمل، كآلاف الشبان من أمثاله، ويعيش على الصدقات التي ترشقه بها أخته (كنزا) والتي لا يعرف أحد من أين تحصل على بعض القطع النقدية الصغيرة، ولكنه مسكون بحلو واخز داعر، حلم «الرحيل» عن بلده، والفرار من مدينته البخيلة التي لا توفر له العمل، ولا السكن، ولا قوت يومه. نعم الرحيل، مغادرة هذه البلاد الزاهدة في أبنائها، الجاحدة لمؤهلاتهم وقدراتهم، ثم العودة بعد الثراء والنجاح في الخارج، وبعد استعادة الرجولة والكرامة... ‏

4 ‏

كان عازل يحلم، وهو جالس في المقهى الرث في طنجة أن يصبح قادراً على الوقوف على قدميه، أن يكون رجلاً ليس بحاجة إلى أن تتصدق عليه أخته بثمن سجائره، إنساناً لا يخاف الحياة، ولا من المغامرة، والمجازفة، إنه لا يجهل المخاطر التي يتعرض لها المرشحون للرحيل على عبور المضيق، والارتماء على الشواطئ الإسبانية والفرنسية، لقد رأى بنفسه وبعينيه، جثث أصدقائه، وقد غرقوا في لجج البحر ونهشتهم أسماك القرش، قبل الوصول إلى شواطئ الفردوس الموعود، إن ابن عمه /نور الدين/ كان ضحية أحد المحتالين الذين يتعهدون بتأمين وصول الفارين إلى الشواطئ الموعودة لقاء مبلغ فاحش، كان «يحشر» الحالمين في زورقه المتخلع، ولا يهمه أن يكون عدد المحشورين ضعف العدد الذي يتحمله الزورق، وحينما ينقلب الزورق، ويغرق الحالمون، كان يفر بعوامة مطاطية، تاركاً وراءه جثث الضحايا من دون أن يرف له جفن، بل لعله كان يضحك في سره. ‏

5 ‏

ولكن (عز العرب) ينجو من الهلاك، وأنياب سمك القرش، ويصل إلى الشواطئ الإسبانية، ويحقق حلمه الأخضر الذي يتغلغل في تلافيف دماغه، كان عليه أن يختار بعد وصوله إلى إسبانيا بين أمرين: إما الانخراط في العمل الإرهابي وإما أن يشق طريقه في أزقة الفساد واللاشرعية، ولم يشأن أن يكون إرهابياً، لا عن جبن، ولا عن جهل، وإنما لأنه كان مصمماً على النجاح، وعلى الوقوف على قدميه، والرجوع إلى وطنه بكبرياء وتحد. لقد تعرض لمآزق وأزمات كادت تفقده اتزانه، وذات يوم أرغم على المشاركة في مشاجرة مع عمال إسبان، فجرح في وجهه وأهين، وبصق عليه أحد المعتدين، إلى أن التقطه /ميكائيل/، تاجر الخردة الإسباني الفاسق الذي يحب الغلمان، وبعد تردد قبل أن يكون عشيقه لقاء تخليصه من المحنة التي تعرض لها، ثم تعرف على امرأة متسلطة «فاستأجرته» كزوج لتسهيل حصوله على إجازة إقامة، وهكذا يصبح (عز العرب) مرذولاً من جهتين: إنه غلام لتاجر الخرداوات من جهة، وزوج مستأجر لعاهرة من جهة ثانية، وبدأ يطرح على نفسه أسئلة: (إلى أي حد يمكن أن ينحدر الإنسان لتحقيق حلم (الرحيل) هل هناك أمل في أن يصحو، وأن يفكر بالعودة إلى (الوطن الحبيب) وإذا بقي في المهجر أو المنفى، فهل من الممكن أن يحافظ على إنسانيته، وأن يتمتع بكرامته وشرفه؟! ‏

لم يكتف (بن جلون) بإيصال (عز العرب) إلى هذه (الحفرة المتسخة من الابتذال والانحلال) بل استجر اخته (كنزا) إلى مصير مشابه، إذ تنجح هي الأخرى في الرحيل، وتحقق حلمها الأخضر وتلتحق بأخيها الذي يتعايش مع اللوطي الإسباني، وكم كانت دهشتها كبيرة عندما عرض عليها هذا الإسباني الداعر أن يستأجر لها غرفة في زقاق سيئ السمعة، وأن يجعل منها مومساً تعمل لصالحه، ولم تجد مفراً من قبول هذا العرض القذر. ‏

في آخر فصول الرواية تصحو (كنزا) فجأة بعد أن غاصت في العهر حتى أذنيها، فتقول لأخيها، بادية التعب والإرهاق: ‏

(ألم يحن الوقت للعودة إلى طنجة؟). ‏

ولا يجرؤ (عز العرب) على رفع رأسه، ومجابهة أخته، وإنما يكتفي بأن يتمتم وكأنه يحدث نفسه: ‏

(طنجة؟ العودة إلى المقهى؟). ‏

ويرتمي على كتف اخته وهو يبكي ويقول: ‏

(لقد اشترينا وطناً آخر، ودفعنا الثمن غالياً!). ‏

يتساءل (بن جلون) ماذا لو أن الزورق الآثم الذي أنزل بضاعته الإنسانية على الشواطئ الإسبانية لم يكن أكثر من أسطورة؟ ماذا لو لم يكن أكثر من شبح يطفو على الأمواج؟ لقد تم اغتيال الحلم الأخضر، وتدرج (عز العرب) ومعه اخته من الصعلكة إلى الاتساخ، من الخجل إلى الوقاحة، من الاعتزاز برجولته إلى بيع جسده للوطي إسباني، وتأجير رجولته لامرأة ساقطة والرضوخ لأن تكون أخته مومساً على الرصيف، ألم يكن من الأفضل له ولكرامته أن يغرق في البحر، وأن تبتلعه الحيتان وأسماك القرش؟ ‏

يحق لنا أن نكاشف (بن جلون) بعتبنا، إن لم يكن بغضبنا: ألا يوجد خيار للإنسان العربي العادي إلا الاستنقاع في مقهى وتدخين (الشيشة) أو التعهر في المهجر الأوروبي؟ هل أصبحت الحداثة والإصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، في الوطن العربي، ضرباً من المستحيل؟ من المؤكد أن الإنسان العربي يستحق مصيراً آخر، يليق بماضيه، وقدراته وطموحاته؟ ‏

لقد تحول الحلم الأخضر إلى مقصلة وأصبحت الشواطئ الأوروبية التي كانت تضخ الآمال الكاذبة في عقول بعض السذج أفخاخاً لاصطياد المساكين من شرقي البحر الأبيض المتوسط، فجأة تورمت عضلات الحكم في فرنسا، وأخذ مسؤولوه يهددون بالبتر، وسحب جنسية كل من كانت له جذور غير فرنسية، إذا ما تظاهر أو عارض قوى الأمن، فجأة تصدر لجنة حقوق الإنسان في جنيف بياناً قاسياً يتهم فرنسا بالعنصرية، والتمييز الاثني والتعصب العرقي، فجأة تتصدر صور (ساركوزي) الاسبوعيات الفرنسية وهي تحمل عنوان (الرئيس الأزعر) ولكن (الرحيل) مستمر، وأمواج البحر لا تزال تلتهم جثث الحالمين، وأسماك القرش تقتات من لحومهم، و(الوطن الحبيب) لا يتوقف عن ارغام مواطنيه على الجلوس في المقاهي ومضغ اليأس والسأم.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...