من دفاتر جبران مخطوطات لم تُنشر

28-07-2010

من دفاتر جبران مخطوطات لم تُنشر

كان جبران يذيّل صفحات دفاتره الخاصة التي تحتضن مخطوطاته بعبارة "اقلب الصفحة يا فتى". لذا، اعتُمدت العبارة الطريفة عنواناً للكتاب الجديد الذي أصدرته لجنة جبران الوطنية وضمّنته "مخطوطات لم تنشر". ولأن جبران هو المؤلف، والمخطوطات غير منشورة، فالقارئ سيقلب الصفحة بسرعة وبدون إيعاز جبراني. واذا فعل ذلك فسيجد، اضافة الى المقدمة الصغيرة الاولى الممهورة بتوقيع وزير الثقافة سليم وردة، والمقدمة الثانية المستفيضة بتوقيع الرئيس السابق للجنة جبران الوطنية انطوان الخوري طوق، دزينة من المحاور متفاوتة الحجم والأهمية والمتوّجة بالعناوين الآتية: مَن أنت يا جبران، وجدانيات، مناجاة، تأملات، لست بسياسي، الحلقات الذهبية، رسائل، أيها الفن، لكم لغتكم ولي لغتي، آراء، أقوال بين جزر الليل ومدّ الصباح، لست بالله ولست بإنسان، وكلمة أريد أن تُكتب على قبري. أما إذا لم يكتفِ الفتى بقراءة العناوين كما يفعل بعض الزملاء في الصحف والفضائيات، وقرأ النصوص، فسيجد عدداً من المخطوطات سبق ونشر بعضها جبران في الصحف وأعاد بعض الجبرانيين نشرها في الكتب. على سبيل المثال، فإن مقال "الويلات" المنشور في الصفحة 123 والمؤلف من عشرة أقوال مأثورة حيث يقول كاتبها في عاشرها: "ويل لأمة كل قبيلة فيها أمة"، سبق ونشر في جريدة "السائح"، ثم أعيد نشره في كتاب "كلمات" في الصفحتين 25 و26، باستثناء القول المأثور "ويل لأمة لا يفكّر علماؤها إلا بكيفية أكل السمكة حتى رأسها، ولا ينصرف ولاتها الى غير جمع الفلوس". وحسناً فعل جبران عندما حذف هذا "الويل" لأنه دون مستوى الويلات التسع صياغةً وبلاغة.
هناك ايضاً مخطوطة نشرت في الكتاب (ص121 و122) تحت عنوان "النكبة تكشف خفايا النفوس". هذه المخطوطة نشرها جبران في جريدة "مرآة الغرب" في 5 آب 1916، وأعدتُ نشرها في الصفحتين 276 و277 في كتابي "عقيدة جبران". وكعادته في التنقيح وتنقيح التنقيح، فقد شطب جبران من المخطوطة العبارة الآتية قبل نشرها في "المرآة": أما الذين يقفون في سبيل اعانة المنكوبين لأغراض خبيثة في نفوسهم، فلهم أقول: ان مفرزات الجحيم لأفضل من أفكارهم وثرثرة الشياطين لأعذب من بلبلتهم، وسمّ الأفاعي لأقل ضرراً من ارتعاش ألسنتهم". وعلى رغم ان قلم جبران الأحمر قد لوّن تلك العبارة، فإن محقق الكتاب أعاد الاعتبار اليها من غير أن يبرّر ذلك.
وفي الصفحتين 124 و125، نشرت مخطوطة سياسية عنوانها "لم تقع البقرة وليس بيننا سلاّخون". لكن جبران سبق له أن نشرها في "مرآة الغرب" بتاريخ 9 آذار 1916، وأعدتُ نشر أجزاء منها في الصفحتين 59 و60 من كتابي "عقيدة جبران". الجدير ذكره ان هذه المقالة هي ثمرة حوار تصادمي جرى بين جبران والأديب الطبيب المهجري سليم يوسف الخازن. وإذا كانت هذه المقالة - وثلاث غيرها - رداً مباشراً على الخازن، فإن "الأضراس المسوسة" و"حفار القبور" و"المخدرات والمباضع" المنشورة في كتاب "العواصف" نشرها جبران في "المرآة" بمثابة ردود مداورة على الحكيم المشاكس.
أما مقال "أيها الفن" فقد نشر أولاً في مجلة "الزهور" لصاحبيها أنطون الجميّل وأمين تقي الدين، ثم نشره الدكتور بولس العاصي طوق في كتابه "شخصية جبران في أبعادها الكونية" الجزء 12 ص910. وأشار محقق المخطوطة الى انها نشرت في مجلة "الزهور". لذلك، كان من الأفضل والأكثر إفادة لو نشرت مخطوطة أخرى مكانها تكون منسجمة مع أحد عناوين الكتاب: "مخطوطات لم تنشر".

النصف الملآن
الآن "اقلب الصفحة يا فتى" على النصف الملآن من الكأس أو بالاحرى ثلاثة أرباعه.
من المخطوطات المهمة التي احتضنها الكتاب الجديد، تلك الخاصة بجمعية "الحلقات الذهبية" السياسية السرية الثورية التي أسسها جبران في بوسطن بُعيد عودته من باريس في أواخر 1910. كان الشاعر خليل حاوي أول من نشر شيئاً عنها في أطروحته عن جبران في جامعة كامبريدج. وربما كان الشاعر الباحث آخر من سُمح له بالاطلاع عليها قبل أن توضع في الـClosed Area كما تفعل مراكز التوثيق الديبلوماسي في لندن وباريس وبرلين وواشنطن دي سي. لكن الفرق بين المتحف الجبراني ومركز كيو غاردن البريطاني، ان الثاني في حاجة الى زنزانات تحبس بعض الوثائق عن الباحثين والصحافيين، كالتي تتناول وعد اللورد بلفور بالنسبة الى فلسطين، في حين لا يوجد بين أوراق جبران ما يتضمن فضيحة ولو نقطة في بحر فضائح "عشرة داونينغ ستريت". لذلك، كان مفيداً إفراج لجنة جبران عن هذه الكمية الكبيرة من المخطوطات الجبرانية المنشورة في الكتاب، ويكون أكثر افادة لو تلغي لجنة جبران الصندوق المغلق وتضع كل المخطوطات في متناول الباحثين. أوليس التكريم الأفضل للمبدعين هو تحرير نتاجهم؟
لنعد الى الكتاب. لعل القسم الأكثر جاذبية للقراء، وبخاصة اللبنانيين العاشقين للسياسة، هو الذي توّج بالعنوان الماراتوني "لست بسياسي ولا أريد أن أكون سياسياً". ولعل أحد عناصر الجذب في مخطوطات هذا القسم، ان راسم كلماتها كان سياسياً، ولكن بالسين الكبيرة حيث لا أثر في نهجه ونتاجه للحرتقات والمكاسب الشخصية والقبض من تحت الطاولات ونقل البارودة من كتف الى كتف. أما أن يكون جبران سياسياً، فهذا واضح من خلال نتاجه، حيث ان ما نشر منه في الكتاب هو عشر ما هو موجود في الركن المغلق، على حدّ ما أخبرتني العصفورة. ويتجلى جهاده السياسي بشكل أوضح عبر الحزبين السياسيين اللذين اشترك في تأسيسهما وتولّى مسؤوليات رفيعة فيهما، وهما "جمعية الحلقات الذهبية" (1910) و"لجنة تحرير سوريا وجبل لبنان" (1917) وشبه تفرغه لاستقلال أمته ونهضتها طوال السنوات الممتدة من 1910 الى 1920.
أما أن يكون مختلفاً عن محترفي السياسة، فالقطع المنشورة في الكتاب تؤكد ذلك، وبخاصة مقال "ما يحزنني وما يضحكني" الذي ينتقد فيه اللبناني، سياسياً أكان أم مواطناً ينطبق عليه القول المأثور: كما تكونون يولّى عليكم. لنقرأ هذه العبارات التي تحسب انها كتبت في سنة 2010: "يضحكني اللبناني عندما يصرخ قائلاً: الوطن، الحرية، الاستقلال، المساواة. ويحزنني عندما ينشد هاتفاً: المجد القديم، عرين الأسد، الأرز الخالد، وغير ذلك من الكلمات المبهرجة التي تغربلها حصافتنا... والكذب على النفس وعلى الناس وعلى الله". يضيف: "يضحكني اللبناني عندما يقول لي: أنا سليل الفينيقيين والاغريق والعرب، فأتوسمه، فلا أجد في ملامحه جرأة الفينيقيين". ويقول: "يحزنني عندما أراه مرتدياً ثوباً حاك جوخه الغربي وفصّل شكله الغربي وخاطه الغربي". وينتقل من المواطن الى السياسي: "يضحكني اللبناني عضواً في مجلس الممثلين لأنه يحاول أن يظهر بمظهر الجدّيين المهتمين، مع انه ليس أكثر من ألعوبة تسيّرها أصابع الضاحكين". ثم دعا القراء الى مشاركته الضحك "لأن بعض نسائنا يلبسن القبعات الباريزية" و"لأن بعض الباريزيات قد امتلكن قلوب فتياننا" و"لأن لليسوعيين أقدم جريدة في بلادنا" و"لأن بلادنا الصغيرة بحدودها تقسم الى أربع دول عظيمة بأسمائها" و"لأن البحار تستهوي أشد رجالنا حزماً وأكثرهم طموحاً"، ووصلت دعوته الى ذروة السخرية حين قال: "لنضحك ونفرح لأن المشعوذين بيننا لا يعرفون أي مذهب يذهبون. فهم المسلمون نكاية بالمسيحية، وهم المسيحيون نكاية بالاسلام، وهم اليهود والبراهمة والبوذيون والزردشتيون نكاية بالمسيحية والاسلام".
يبقى تنويه واقتراح. أما التنويه فيوجّه الى جميع الذين ساهموا في ورشة صناعة هذا الكتاب القيّم الذي صدرت منه حتى الآن النسخ الفاخرة التي يقتصر تقليب صفحاتها على الفتى "المقرش". وأما الاقتراح، فيوجّه الى ناشر الكتاب أو لجنة جبران، للاسراع في طبع النسخ الشعبية كي يتمكن قراء جبران من اقتنائه وقراءته والافادة من مضمونه الذي يتمحور على أكثر من إبداع في حقول عدة، منها رفضه للطائفية التي كانت ولا تزال "سيدا" (إيدز) لبنان وعموم بلاد الشام.

 

جان دايه 

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...