مالك سلمان: أتقيأ أمريكا ..

15-09-2013

مالك سلمان: أتقيأ أمريكا ..

الجمل- جامعة تشرين/اللاذقية- د.مالك سلمان:

أوستن, تكساس/2000
سألتني الأستاذة في جامعة أوستن, بعد أن قدمت لي فنجاناً من القهوة في بيتها الصغير: كيف وجدتَ أمريكا؟
- لا بأس.
= لا, حقاً, أريد أن أعرف انطباعك عن أمريكا.
أرادت أن تعرف. لم أكن أرغب في الكلام على هذا الموضوع. كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بها. أرادت كاريل أن تعرفني بها. كانت كاريل قد قدمت من جامعة سان فرنسيسكو لتدرس فصلين دراسيين في جامعة أوستن. كانت تعرف رأيي, وتدرك كم أنا شرير وصريح ... إلى حد الوقاحة. توجَست. نظرت إليَ وابتسمت. ربما دار في ذهنها أن أسوأ ما يمكن أن يحصل هو ألا نكملَ شرب القهوة وننتهي, أنا وهي, في زاوية أحد البارات.
هي أرادت أن تعرف. جميع الأمريكيين يسارعون إلى طرح هذا السؤال عليك عندما تزور أمريكا للمرة الأولى. إنه مثل الحكة المزمنة. يدل ذلك, في الأغلب, على نوع من القلق وعدم الثقة بالنفس. أخذتُ رشفة طويلة من فنجان القهوة؛ عرفت أنني لن أكملَ الفنجان:
- في الحقيقة, لم أحب أمريكا على الإطلاق.
= وما هو الذي لا تحبه في أمريكا؟
- كل شيء تقريباً. الثراء الفاحش الذي يصل إلى حد البذاءة؛ العدوانية المتأصلة في الشعب الأمريكي؛ الاستهتار بثقافات الشعوب الأخرى وتسخيفها والسخرية منها؛ وسائل الإعلام الأمريكية التي تحرض على الشعوب الأخرى وتغسل أدمغة الأمريكيين صباحَ مساء؛ السياسة الأمريكية؛ آه, وحقيقة أنني لا أستطيع التدخين في الأماكن العامة, ولا حتى في مكتبي في الجامعة, لأنني أعتقد أن هذه فاشية غير مبرَرة ...
التفتت إلى كاريل وقالت بلهجة يائسة: إنه يذكرني بزوجي السابق. (فكرت: جيد, ربما أنتقم لرجل لا أعرفه). ثم التفتت إلي وقالت:
- اسمع, إن كنت تكره أمريكا إلى هذا الحد, فلماذا لا تعود إلى بلدك؟!
تحولَ توجُس كاريل إلى توتر. انتبهَت إلى قلة الأدب التي ينطوي عليها السؤال.
= أنا سأعود إلى بلدي بعد عدة أشهر, ياسيدتي, ولكن متى ستعودين أنت إلى بلدك؟
- أنا أمريكية, وهذا هو بلدي!
= لا, لا, أنت لست أمريكية؛ أنت أجنبية اغتصبتِ بلدَ أناس آخرين وجعلت منها بلداً لك.
- أنا لا أسمح لك أن تحدثني بهذه الطريقة ...
نهضت وقلت:
= وهل تسمحين لي بالذهاب؟
كنت أعرف أنني لن أستمتعَ بفنجان القهوة.
* * *
أوستن, تكساس/2000
سألتني مديرة "مركز دراسات الشرق الأوسط" في جامعة أوستن إن كنت أرغب في إلقاء محاضرة في أحد أقسام الآداب في الجامعة.
قلت: نعم. ربما ألقي محاضرة في قسم اللغة الفرنسية حول الأديب الفرنسي جان جُنيه وعلاقته بالثورة الفلسطينية.
= يجب أن ترتبَ لذلك مع رئيسة القسم.
لاحقاً, شرح لي الدكتور وليد حمارنة, الأستاذ الفلسطيني/الأردني/الكندي الذي كنت أعمل معه, عن الجامعات الأمريكية. قال لي: لا يمكن أن يسمحوا لك بالتحدث عن جان جنيه هنا.
عرفتُ فيما بعد أن جميعَ القائمين على المركز, وجميع المراكز المشابهة في الجامعات الأمريكية, هم يهود. وفكرت: كم هم سُذج أبناء بلدي الذين يتفلسفون حول الفرق بين "اليهود" و "الصهاينة".
* * *
أوستن, تكساس/2000
طرق بابَ شقتي الأرضية ثلاثة من جنود المارينز. فتحت الباب. "غود مورنينغ, سير", سارعني قائد المجموعة بالتحية. قال: نحن نجمع التبرعات لعائلات ضحايا (يعني "شهداء") الجيش الأمريكي الذين قضوا ما وراء البحار.
= آسف, ولكنني لا أستطيع التبرع لعائلات ضحايا الجيش الأمريكي الذين قضوا ما وراء البحار.
- "إتس أوكي", إن لم يكن لديك المال, فلا بأس.
= ياسيدي, لدي المال, ولكن لا أستطييييع ... "آي كانت".
- ولماذا لا "تستطيييييع"؟!
وفكرت فيما وراء البحار, ورأيت أشلاءَ العراقيين الذين قتلهم جورج بوش الأب في حربه الأولى على العراق؛ وفكرت في أطفال فلسطين, وفكرتُ في والدي العسكري في الجيش العربي السوري الذي لا يكفيه مرتبه الشهري لتربية ست قطط, ناهيك عن ستة أولاد, دون أن يجمعَ له أحدٌ التبرعات. قلت:
= لأن الجيش الأمريكي يقتل شعبي, ياسيدي.
- ومن أين أنت؟!
= لا علاقة لك بذلك, ياسيد.
أغلقت الباب, أشعلت سيجارة, وأخذت أفكر فيمن تركتهم  وراء البحار.
* * *
أوستن, تكساس/2000
ذهبت مع مجموعة من الأساتذة والأستاذات وطلبة الدراسات العليا لرؤية فيلم وثائقي في صالة سينما الجامعة. كان رجل يجلس على كرسي ويتحدث عن تجربته. كان خبيراً في عمليات الإعدام على الكرسي الكهربائي في الولايات الجنوبية. قال إنه أمضى حياته في دراسة تاريخ التعذيب ووسائله. ثم خطرت له فكرة الذهاب سراً إلى معسكر الاعتقال الأكثر شهرة في التاريخ الحديث "أوشفيتز", في بولندة, حيث يُزعَم أن النازيين قد قتلوا أعداداً هائلة من اليهود في حجر الغاز هناك. أخذ معه مصوراً, ومطرقة, وكيساً من الخيش. ثم يتحدث, بالصور, عن دخوله سراً إلى "أوشفيتز" حيث أخذ عينات كثيرة من أماكن متعددة فيه. عاد إلى الولايات المتحدة وأرسل العينات إلى بروفسور صديق له في مخابر جامعة شيكاغو, دون أن يخبرَه من أين جاءت العينات. ثم جاء التقرير: ليس هناك أي أثر لأي غاز سام, أو أي مادة كيماوية من أي نوع, في العينات. نشر الرجل التقرير وشرحاً مفصلاً عن زيارته السرية إلى معسكر "أوشفيتز" سيء الذكر.
أخذ يشرح بعد ذلك ما حصل له: طلقته زوجته؛ طرد من عمله في جميع الولايات الأمريكية كمستشار وخبير في الإعدام بواسطة الكرسي الكهربائي؛ ومن يومها ترفض جميع المؤسسات الأمريكية توظيفه ... "في أرض الحرية والديمقراطية هذه", كما يقول.
بعد الفيلم, وفي البار المجاور جلسنا. كان البعض يتحدثون عن الفيلم. وكان هناك طالبة دراسات عليا ترغي وتزبد بحنق ظاهر وتكرر كلمة "مول" ("خلد"), وتشتم. كانت تشتم الرجل الذي صنع الفيلم الوثائقي الذي كنا قد شاهدناه للتو. كانت منزعجة من دخوله بشكل سري إلى المكان, مثل اللصوص. أعارَ ذلك انتباهي, بغضب. سألتها: عفواً, ولكن ألم يلفت انتباهَك شيء في الفيلم سوى أن الرجلَ تسللَ إلى داخل معسكر "أوشفيتز" الخالي دون أن يأخذ إذناً من أحد؟!
بعد خروجنا من البار وتفرقنا, سألت كاريل في السيارة: هل هذه المرأة يهودية؟ قالت: لا, أسوأ من ذلك بكثير. إنها أمريكية!!!
لم أعرف وقتها إن كانت كاريل تشتم المرأة الحانقة, أم تشتمني أنا.
* * *
أوكلاند, كاليفورنيا/2000
دعيتُ إلى نزهة على التلال التي تحتضن مدينة أوكلاند الصغيرة والتي تطل على خليج سان فرنسيسكو. أحببت أن أساهمَ في "البيكنيك" وأحضر "الباباغنوج" للجميع, على التلة. كنا حوالي 15 شخصاً لم أكن أعرف منهم سوى شخصين. في مرحلة ما انضممت إلى مجموعة من أربع أشخاص يتحدثون. كان أحدُهم يسأل شخصاً آخر عما حدث معه في زيارته الأخيرة لإسرائيل. قال الرجل إنه ذهب وأفراد عائلته إلى إسرائيل وحصلوا هناك على منزل جميل كانت القوات الإسرائيلية قد طردت أصحابَه الفلسطينيين منه. فرد الرجل الأول: جميل .. جميل .. "نايس ..نايس".
أخذني آلكس, الذي كان يقف بالقرب مني ويستمع إلى الحديث, جانباً وقال: هل سمعت؟ "نايس .. نايس"؟! هكذا يفكر الأمريكان هنا بفلسطين والعرب. بقيت أنا وآلكس نكرر كلمة  "نايس .. نايس" بسخرية واضحة في كل مرة يتحدث فيها أحد إلينا حتى انتهت "البيكنيك".
وآلكس رجل يوغوسلافي صربي (مهووس بالتصوف الإسلامي) ترك بلدَه أثناء الحرب الأهلية هناك. قال لي: لم أستطع أن أرى جيراني الذين يعرفون بعضهم البعض منذ سنوات يقتتلون فيما بينهم, إسلاماً ومسيحيين. جاء إلى الولايات المتحدة, وعمل في تدريس الرياضيات في جامعة بيركلي, المجاورة لأوكلاند, ثم انتقل للعمل في "وادي السيليكون" الواقع إلى الجنوب من سان فرنسيسكو, حيث تقوم أهم شركات العالم بتطوير البرامج الكمبيوترية. وكان يحدثني عن تواجد ضباط "الموساد" بكثافة في "وادي السيليكون" بصفة مهندسين, حيث كانوا يتجسسون على الشركات الأخرى ويقومون, أحياناً, باقتحامها ليلاً لسرقة المعلومات والبرامج الجديدة. "نايس .. نايس"!
* * *
نصان لا علاقة لهما بما قبلهما:
1. "بالحديث عن المفاجآت! كان ما اكتشفناه فجأة عبر الضباب مذهلاً إلى درجة أننا رفضنا تصديقه للوهلة الأولى, ولكن عندما رأيناه وجهاً لوجه ... لم نستطع أن نمسك أنفسنا عن الضحك, ونحن نراه هناك أمامنا ...
تخيلوا فقط, كانت تلك المدينة تقف منتصبة تماماً. كانت نيويورك مدينة واقفة. لقد شاهدنا مدناً عديدة, بالطبع, مدناً جميلة, ومرافىءَ رائعة. ولكن في أوطاننا, تستلقي المدن على طول الساحل البحري أو على ضفاف الأنهار, حيث تتمدد على الطبيعة, بانتظار المسافرين, لكن هذه المدينة لم تكن مسترخية إطلاقاً, إذ كانت تقف هناك صلبة مثل لوح, دون أي إغواء, صلبة بشكل يثير الرعب."            
- سيلين, "رحلة إلى آخر الليل"
2. "ربما كان بناء ناطحات سحاب بهذا الارتفاع الوسيلة الوحيدة للإنعاظ عند الأمريكيين, وتعبيراً عن رغبتهم في أن يبرهنوا – بالحجارة والإسمنت – على رجولة أكثرَ ‘إهانة’ من رجولة الملوك."
- جان جنيه, "نظرات خاطفة على أمريكا"

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...