غسان الرفاعي: هايل هتلر واللحم الحلال

22-02-2010

غسان الرفاعي: هايل هتلر واللحم الحلال

ـ 1 ـ قد تنتزعنا أحداث ووقائع ضاغطة، تجري في بلدان الاغتراب، فتشغلنا بعض الوقت، عن هموم الوطن وأحزانه، لا لأنها مثيرة ولافتة بحد ذاتها، وإنما لأنها مرتبطة بالمجابهة اليومية التي نحياها، متشابكة بالقهر الذي يفرض علينا.

كان يوم الخميس الماضي 18 شباط «يوماً تاريخياً» في حي كرملين بيستر الذي كان جزءاً من الحزام «التقدمي الثوري» الذي يحيط بباريس، إذ عرض في أكبر صالة سينمائية فيه، فيلم المخرج السينمائي الأميركي الكاثوليكي الكبير (جيل جيبسون) »آلام السيد المسيح«، وكان قد عرض في أكثر من 3000 صالة سينما وعلى 45000 شاشة في الولايات المتحدة، منذ 6 سنوات، وقد أجمع النقاد على أن (جيبسون) قد تجرأ على إخراج فيلم بمثل هذه القسوة والنزاهة، خصوصاً أنه من المعروفين بإنكاره المحرقة، ونقل عنه في مقابلة تلفزيونية قبل يوم واحد من العرض: »أردت أن أتقصى الحقائق، وأن أصور أدق التفاصيل عن صلب السيد المسيح، أردت أن أظهر هول الآلام التي عاناها، وضخامة التضحية التي قدمها للإنسانية. لقد نقلت رواية الإنجيل إلى الشاشة بكل حذافيرها. فليغضب من يغضب، وليرضَ من يرضى، الذين ينتقدون الفيلم ينتقدون الإنجيل...!«. ‏

وقد تزامن عرض الفيلم مع حدثين: أحدهما عملية الاغتيال القذرة التي نفذها عملاء الموساد في دبي بحق المناضل الفلسطيني (المبحوح) باستخدام جوازات سفر مزورة تحمل أسماء رعايا من دول أوروبية، منها فرنسا، والثانية الضجة المفتعلة التي أثارها رئيس بلدية ضاحية باريسية بعد إعلان محلات »كويك« للوجبات الجاهزة عن قرارها تقديم »اللحم الحلال« وقوله: »إن تقديم اللحم الحلال هو تحد للمجتمع الفرنسي، ولابد من عقاب محلات كويك وإغلاقها، لتكون عبرة لمن يعتبر«. ‏

ـ 2 ـ ‏

وكانت مجلة »باري ماتش«، الواسعة الانتشار، قد خصصت غلافها الكامل لمشهد من الفيلم يظهر السيد المسيح وهو مصلوب وملطخ بالدماء، وكتب رئيس تحريرها افتتاحية قال فيها: »يروي الفيلم قصة أشهر محكوم بالإعدام في التاريخ، واللافت أن مخرج الفيلم (جيل جيبسون)، قد تجرأ وأجاب عن سؤال كبير يؤرق المؤمنين: »من قتل المسيح؟« قائلاً: »إنهم اليهود« والاتهام ليس جديداً، إنه مطروح منذ أقدم الأزمنة، وقد ارتكبت الكثير من المجازر، بسبب هذا الاتهام، ولكن الجديد في الأمر هو أن يكرر الاتهام، وبهذا الإخراج المعاصر القاسي بعد ألفي عام، لا همساً، وإنما بالصوت والصورة، وجهاراً. ‏

يتهم الفيلم بأمرين: أنه عنيف موجع، ثم أنه معاد للسامية، ولكن (جيبسون) يدافع عن نفسه قائلاً: »نعم، إنه فيلم عنيف، ولكن صلب المسيح ليس حدثاً عادياً ولا هادئاً، إنه أقسى تنفيذ لحكم إعدام صدر في التاريخ، فلماذا التكتم على قسوته؟ ثم إن قسوة المشهد موصوفة في الإنجيل المقدس، ولم أختلقها من خيالي«. أما الاتهام الآخر فيرد عليه (جيبسون) قائلاً: »أنا بريء منه لسبب بسيط: نحن نعلم جميعاً أن (هتلر) قد قتل الكثير من اليهود، ولكننا لم ننقم على الشعب الألماني، وكذلك، فنحن نعلم أن حاخامات اليهود قد قتلوا السيد المسيح، ولكننا لا ننتقم من اليهود!«. ‏

ـ 3 ـ ‏

عرض الفيلم لأول مرة في صالة في مدينة لوس أنجلوس الأميركية، وقد سمع بكاء وعويل المشاهدين طوال الساعتين اللتين استغرقهما عرض الفيلم، فقد نقل عن السيدة (مارغريت)، وهي سيدة مدرسة في الستين من العمر قولها: »لقد أبكاني الفيلم، آه كم تعذب السيد المسيح من أجلنا كلنا، ولكن الشيء الذي أثارني هو خروج شخصين من الصالة، وقد تبين لي أنهما يهوديان. لماذا يخجلان مما فعل حاخاماتهما، ولماذا لا يتحملون بشجاعة هذه المشاهد، ويدينون هذه الجريمة؟«. وقال قس من كاليفورنيا: (مشاهد الفيلم جارحة، واللغة الآرامية التي يتحدثها أبطال الفيلم مثيرة للغاية، إنها اللغة التي كان يتحدث بها أناس ذلك الزمان. قيل لي إن سكان قرية قريبة من دمشق مازالوا يستخدمون هذه اللغة حتى الآن!). وفي تكساس اشترى أحد الأغنياء بطاقات دخول بـ42000 دولار ووزعها مجاناً على سكان مدينته! ‏

ـ 4 ـ ‏

وشهد يوم الجمعة 19 شباط تظاهرة (الغضب الأسود) إذ تجمع عدد كبير من الزنوج والأفارقة، في شوارع ضاحية (كرملين بيستر) لإحياء ذكرى أليمة، وهي إلغاء حفل كان سيقيمه المهرج والممثل الأسود (ديو دونيه) في صالة الأولمبياد، أشهر صالة موسيقية، يتردد عليها كبار المغنين والممثلين العالميين (استضافت الصالة كوكب الشرق أم كلثوم)، وقد قال أحد المحامين المعروفين أمام جمهور غاضب ثائر: (أتينا جميعا لمساندة ممثل هزلي أكثر جدية من كل سياسيينا) وصرخت امرأة: (أيها الصهاينة، أيها الإرهابيون أنتم أكثر فاشية من النازيين) واعتلى عملاق أسود تمثالاً انتصب في ساحة الضاحية وقال: (كفانا 400 عام من تجارة الرقيق الأسود، كفانا صمتاً وكتماناً، إننا نعلن ولادة القوة السوداء، فليأخذ الجميع حذرهم). ‏

ولكن من هو (ديو دونيه) هذا؟ إنه زنجي أسود فرنسي من المارتينيك، صعد إلى قمة الشهرة الشعبية، بسبب اكتشافه المتأخر لعنصرية المجتمع الأبيض، وتأليفه اسكتشات ساخرة تظهر التغطرس البرجوازي المنافق، وتهتك السياسيين الذين يحلبون الشعب ويسرقون أمواله دون خجل، وكان هجاؤه المر محتملاً، بل عادياً، ما دفع صحيفة محافظة مثل صحيفة (الفيغارو) إلى أن تقول عنه: (إنه أروع ممثل هزلي في فرنسا!) وكان يظهر على شاشات التلفزيون الكبيرة، ويسخر من الزعيم اليميني المتطرف (لوبن)، وليعلن تضامنه مع الزعيم الفلاحي (جوزيه بوفيه)، ثم حصلت الواقعة التي دفعت كل إدارات التلفزيونات العامة والخاصة إلى إلغاء عقودها معه، بل إن صالة الاولمبياد أعلنت عن إلغاء حفلة له قبل 24 ساعة من موعدها، ما أثار غضب الجماهير، وسبب تجمعهم أمام الصالة، مساء إلغاء الحفلة، والهتاف ضد التعسف والمحاباة والقوى الخفية التي تحكم فرنسا. ‏

المشهد المثير الذي تسبب في اضطهاده وحرمانه من الشاشات ودور العرض هو اسكتش على القناة الثانية من التلفزيون الفرنسي يظهر حاخاماً إسرائيلياً مسلحاً يؤدي التحية النازية أمام ضابط، ويرفع يده مقلداً الضباط النازيين قائلاً: »اسراهايل« وهي لفظة مركبة من إسرائيل وهايل (اللفظة الألمانية التي كان يستخدمها النازيون لتحية (هتلر) حينما يقولون هايل هتلر) وقد استنكرت الجماعات الصهيونية واليهودية في فرنسا هذا المشهد واعتبرته مظهراً من مظاهر العداء للسامية، ووضعت كل ثقلها لمحاربة ديو دونيه وحرمانه من الشاشات والصالات بشكل تعسفي وقهري وتساءل معلق: هل فرنسا معادية للسامية، كما يزعمون أم إنها خاضعة للطغيان السامي؟ ‏

ـ 5 ـ ‏

وشهد يوم السبت 20 شباط نشاطاً ثقافياً عربياً متميزاً، حين أعلن عدد من المثقفين العرب أنهم سيكرسون نضالهم ضد أجهزة الإعلام الغربية التي تصور التراث العربي الإسلامي تصويراً كاريكاتورياً داعراً، وضد مشروعات الدولة الفرنسية التي تطرح مفهوماً عنصرياً للهوية الوطنية، يقوم على استبعاد مواطنين فرنسيين من أصول عربية أو إسلامية، ولم يوفر نضال هؤلاء المثقفين محاولات اغتصاب الأصوليين للتراث الإسلامي، وتصويره على أنه ظلامية ترفض أنوار العقل. ‏

الفكرة الأساسية التي يطرحها هؤلاء النهضويون أن فلاسفة الحداثة في القرن الثامن عشر (فولتير) (وديدورو) و(مونتسكيو) قد نادوا بانتصار أنوار العقل ضد الظلامية الخرافية، ولكن فلاسفة العرب، حتى في القرون الوسطى، قد اكتشفوا أنوار العقل وتجرؤوا على الانتماء إلى عقلانية متوازنة وقد آن الأوان ـ كما يقول فتحي سلامة ـ للمجاهرة بالانحياز للعقل. هناك أقلية ناشطة من المسلمين المتخلفين يريدون أن يرغموا الجمهورية الفرنسية على الأخذ بوجهة نظرهم حول الحقوق والواجبات والحريات في الإسلام، وهؤلاء يصطادون القناعات الإسلامية المتوازنة، ويرفضون حتى التعايش معها. ‏

ويشكو مالك شبل من عدم الاكتراث، ويقول: لقد مضى عليّ عشرون عاماً وأنا أؤلف وأكتب لاظهار نصاعة الإسلام وحداثته، ولكن لا أحد يريد أن يستمع إليّ ويكفي أن يتحدث أحد الأصوليين الهامشيين حديثاً هو أقرب إلى اللغو حتى يثير الدنيا ويقعدها. المعركة طويلة غير متكافئة، علينا أن نظهر وجهنا كنهضويين ملتزمين، هل المطلوب هو أسلمة الحداثة أم تحديث الإسلام، هذه هي المشكلة: الأصوليون يملكون المآذن، ونحن نملك المكتبات، مَنْ منا سينتصر..؟. ‏

ـ 6 ـ ‏

ثلاث معارك مترابطة ومتزامنة في العالم لابد من أن ننتصر فيها: المعركة من أجل إثبات عنصرية إسرائيل، والمعركة من أجل فضح أسطورة معاداة السامية، والمعركة من أجل إظهار عقلانية الإسلام، وإسقاط المزاعم حول الإرهاب الأصولي. إنها معركة أيديولوجية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية، واجتماعية تتطلب منا حشد الطاقات والكفاءات، ولا يجوز لنا أن نخسرها ولا أن نخرج منها مهزومين. ‏

 د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

التعليقات

إن قانون معاداة السامية نفسه يقوم على فصل عنصري. فقد وضع اليهودي الأوروبي و الأمريكي تحت قبة زجاجية تجعل من الصعب اندماجه بالمجتمع -على مستوى الولاءات النهائية- و و مجرد التفكير بنتائج القانون يؤكد على النفاق السري الذي تبادله الطرفان الأوروبي و اليهودي. فلو كانت حجة اليهود على النازية هي الفصل العنصري , يكون عندها الاندماج الوطني هو المطلب. و لكن في الحقيقة هذا يهدد اليهودي الذي لا يرضى ان يكون جزءاً من مجتمعه. و يتعارض أيضاً مع المسيحي الأوروبي الذي لا يريد ان يصدق أن اليهودي يمكن ان يكون إيطالياً حقاً او فرنسياً حقاً. لقد وضع حاجز زجاجي- حقيقي و لكن غير مرئي- يؤكد على الفصل العنصري دون ان يشير اليه هذا كان قانون معاداة السامية. و بالمناسبة يحق للفرنسي من أصل عربي أن يتباطح مع إبن قبيلته اليهودي دون أن يتهم باللاسامية . على اعتبار انه اشتباك سامي يحدث بين ساميين. اما في موضوع الاسلام فإن المشكلة اصطنعها المثقف قبل غيره عندما حاول احتكار التحدث باسم العقل و قد انفضحت هذه الأنانية غير المستندة الى حوار عميق مع الآخر بمجرد تراجع الحركات الفكرية الأوروبية التي منحت مكانها للفكر الاقتصادي ليتربع على رأس الهرم . هذا ادى الى احتكار الأصوليين للإسلام. و بقاء المثقفين في حالة بداوة و ارتحال على تخوم المدارس الفكرية. لا ادري بماذا ينتصر العلمانيون بهيغل او ديكارت أو ماركس أو ناوم تشومسكي و يزدرون بشكل قاطع نتاج اثنين من المؤسسين الفكريين هم المسيح و محمد. و كلاهما خاض صراع معرفي و تنويري في سياقه الاجتماعي القاس. لقد تنكر المثقفون لدور الرجلين حيث يحتفون بالفكر العربي ابتداءاً من نقض فكرهما. حتى اليوم ينظر الى فلاسفة أوروبا الذين دخلو ماكينة النقض و خرجوا منها بسند كفالة على أنهم أساتذة. في الوقت الذي ينظر فيه الى مشرعين- تاريخيين- بقلة اهتمام. لم يكن على المثقفين التخلي عن الرجلين , تاركينهم للسحرة و الجهلة. لا يمنعني الحادي او إيماني من الوقوف اليوم امام مفهومين في الاسلام : الكنز و بيت المال. أو عند المسيح تفكيك النظام الربوي.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...