غسان الرفاعي: «المجازر الأخوية» والغرق في البحر

17-08-2009

غسان الرفاعي: «المجازر الأخوية» والغرق في البحر

ـ 1 ـ لقد تجاوز الأمر حدود الاحتمال، لم يعد بمقدور الإنسان العربي السوي أن يتقبل هذه المجازر الأخوية على امتداد الوطن العربي في فلسطين واليمن والعراق والسودان والصومال، لقد تعهر شعار (الوحدة الوطنية) والمصلحة الوطنية العليا بعد أن دفن في برك الدم، ومستنقعات الوحل، وبورصات الارتزاق، ألم يكن الراحل محمود درويش على حق حينما صرخ: انقذوني من إخوتي وأصدقائي، أنا أعرف كيف أتقي أعدائي!..

يصف مراسل صحيفة الباريزيان ما شاهده بعد الاعتداء على مسجد في بغداد: أرض المسجد ملطخة بالدم، وجثث القتلى بالقرب من المنبر، ونساء ينتحبن بصوت مرتفع ويرددن: الله هو المنتقم الجبار، وخارج المسجد صف من المشاهدين يبدو عليهم الارتياح، بل الشماتة أيضا..! ويتساءل المراسل: لقد عبث الأميركان بالعراق وقسموه طوائف وإثنيات وقوميات، ولكن لم يزرعوا ملامح الشماتة على وجوه الناس، هذه الشماتة متجذرة في التاريخ، ويجري توظيفها الآن.. وعنونت صحيفة (لاتريبيون) صفحتها الأولى: مجازر بين حماس والسلفيين بعد مجازر فتح وحماس، ومع ذلك ما زال الفلسطينيون يطالبون بإقامة دولتهم؟.. ‏

‏ ـ 2 ـ ‏

كم تشتعل القلوب بسعير حب الوطن في مواسم غير مبرمجة فإذا بالناس تتلاقى من غير موعد، والدموع تنهمر من عيونها، ليقول إنسان لآخر: هل بدأت الصحوة؟ ولكن سرعان ما يخبو الاشتعال وينطفئ السعير، ويعود الناس إلى تشاغلهم، وتغافلهم وطقوسهم المضجرة: التزاور، التحاور، قراءة الصحف، مشاهدة التلفزيون، التدخين، التردد على المقاهي والمطاعم، ولكن الجميع يعرف أنه يخادع ويغش، ويتحايل، قد ينهار البعض فجأة فيصرخ كالممسوس وسط الهدوء الجنائزي، إلى متى هذا النفاق؟ وينظر إليه الجميع بدهشة، ويطرقون برؤوسهم، ويتحاشون الرد عليه. ‏

‏ ـ 3 ـ ‏

ألا يكفي هذا الطوفان من المجازر الفاجعة التي تغزو عالمنا العربي من الداخل، ويعجز المثقفون عن تفسيرها، والتنظير لإيقافها، حتى نفاجأ بقوافل المغامرين الذين يصرون على هجر أوطانهم، والتسرب إلى الشواطئ الأوروبية في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، غير مبالين بكل الأخطار التي تتهددهم؟ إن الزوارق التي يسيرها محتالون دوليون، لا تفرغ حمولتها من التعساء على الشواطئ، وإنما في قعر البحر، حيث تنهشها أسماك القرش، أو تطفو جثثاً على السطح لينتشلها حراس الحدود، ويقدموها هدية إلى غلاة العنصريين الذين يطالبون بالمزيد من الإجراءات لمنع (الهجرة غير المشروعة) كم هو مؤلم هذا التعليق الذي نشره (آلان دوهاميل) في صحيفة (فرانس سوار): منظر هؤلاء الحمقى المغامرين الذين يسلمون مصيرهم إلى تجار الرقيق والمحتالين والمرتزقة يمزقني، هؤلاء المغامرون يحلمون بالتسرب إلى داخل بلادنا فماذا ينتظرون إذا ما قدر لهم أن ينزلوا بأمان ولم تبتلعهم أمواج البحر؟ الطرد؟ السجن؟ الوظائف الهامشية السرية؟ المعاملة كرقيق؟ المأساة أنهم يفضلون هذا المصير الأسود على أوطانهم. ‏

‏ ـ 4 ـ ‏

يعطي الكاتب المغربي الطاهر بن جلون لكلمة الرحيل الرومانسية التي ارتبطت دوما في قصص العشق العربية بمشاعر الوله والاشتياق معنى (كابوسيا) مثقلاً بالمرارة والإحباط، إن لم يكن بـ(الخيانة الوطنية). يقول في كلمة الإهداء التي وجهها إليّ على الصفحة الأولى من روايته (الرحيل): لكم أشعر بالعار أنا الكاتب العربي الذي يكتب بالفرنسية، وأنا أروي في فصول هذه الرواية الأربعين سيرة انسان يفاخر بالفرار من وطنه الحبيب، ولا يتورع عن شتم أهله مدفوعاً بدافع الحرص على إنسانيته، أليست سيرته نسخة ثانية من سيرتنا، نحن الهاربين من جحيم الوطن إلى مبغى المهجر؟. ‏

الرحيل رواية فاجعة ومحرجة، وهي أكثر كتب الطاهر بن جلون الثلاثين قسوة ومرارة وشجاعة، إنها مجابهة ملوثة بين العالم العربي الذي يعيش أسوأ حالاته، وأكثرها قذارة خاصة في مدينة طنجة ـ وهي مدينة الطاهر بن جلون ـ التي لا يفصلها عن القارة الأوروبية إلا مضيق جبل طارق، وبين هذه القارة الأوروبية التي لا تخجل من المجاهرة بأنها ستطرد الأوباش وحثالة الناس من أراضيها الطاهرة!. ‏

‏ ـ 5 ـ ‏

تبدأ الرواية ـ كما هو مألوف في معظم روايات بن جلون ـ في مقهى رث في مدينة طنجة، يحتشد فيه شبان مرد يحتسون الشاي المنقوع بالنعناع، ويدخنون الشيشة بنهم وقلة أدب، إنهم فقراء معدمون لا يملكون إلا أسمالهم بل لعلهم عاجزون عن دفع مشروبهم وقد يتشاجرون في أي لحظة. هنا نلتقي بطل الرواية عز العرب المعروف بين رفاقه بـ(عازل) إنه شاب في ربيع العمر متخرج في جامعة الرباط منذ أكثر من سنتين، ولكنه عاطل عن العمل، كآلاف الشبان من أمثاله ويعيش على الصدقات التي ترشقه بها أخته (كنزا) التي لا يعرف أحد من أين تحصل على بعض القطع المعدنية الصغيرة، ولكنه مسكون بحلم واخز داعر، حلم (الرحيل) عن بلده، الفرار من مدينته البخيلة التي لا توفر له العمل، ولا السكن ولا قوت يومه، نعم، الرحيل مغادرة هذه البلاد الزاهدة في أبنائها الجاحدة لمؤهلاتهم وقدراتهم، ثم العودة بعد الثراء والنجاح في الخارج، وبعد استعادة الرجولة والكرامة. ‏

‏ ـ 6 ـ ‏

كان عازل يحلم، وهو جالس في المقهى الرث في طنجة أن يصبح قادراً على الوقوف على قدميه، أن يكون رجلاً ليس بحاجة إلى أن تتصدق عليه أخته بثمن سجائره، إنسانا لا يخاف من الحياة، ولا من المغامرة، والمجازفة إنه لا يجهل المخاطر التي يتعرض لها المرشحون للرحيل، وعبور المضيق، والارتماء على الشواطئ الإسبانية والفرنسية، لقد رأى بعينه جثث أصدقاء له، غرقوا بين لجج البحر، ونهشتهم أسماك القرش، قبل الوصول إلى شواطئ الفردوس الموعود، إن ابن عمه نور الدين كان ضحية أحد المحتالين الذين يتعهدون بتأمين وصول الفارين إلى الشواطئ لقاء مبلغ فاحش، إذ كان يحشر الحالمين في زورقه المتخلع ولا يهمه أن يكون عدد المحشورين ضعف العدد الذي يتحمله الزورق، وحينما ينقلب الزورق، ويغرق الحالمون، كان يفر بعوامة مطاطية تاركاً وراءه جثث الضحايا دون أن يرف له جفن، بل لعله كان يضحك في سره. ‏

‏ ـ 7 ـ ‏

لكن عز العرب ينجو من الهلاك وأنياب سمك القرش ويصل إلى الشواطئ الإسبانية ويحقق حلمه الأخضر الذي يتغلغل في تلافيف دماغه، وكان عليه أن يختار بعد وصوله إلى إسبانيا بين أمرين، إما الانخراط في العمل الإرهابي، وإما أن يشق طريقه في ازقة الفساد واللاشرعية: ولم يشأ أن يكون إرهابياً عن جبن، ولا عن جهل، وإنما كان مصمما على أن ينجح، ويقف على قدميه، وقد تعرض لمأزق وأزمات كادت تفقده اتزانه، وذات يوم أرغم على المشاركة في مشاجرة مع عمال إسبان، فجرح في وجهه وأهين، وبصق عليه عدد من العمال، إلى أن التقطه (ميكائيل) تاجر الخردة الذي يحب الغلمان، وبعد تردد قَبل أن يكون عشيقه، وتعرف على امرأة متسلطة، فاستأجرته كزوج مؤقت لتسهيل حصوله على شهادة إقامة، وهكذا يصبح عز العرب مرذولاً من جهتين: إنه غلام تاجر الخردوات الإسباني من جهة، وزوج مستأجر لعاهرة من جهة ثانية، وبدأ يطرح على نفسه عدة أسئلة: إلى أي حد يمكن أن ينحدر الإنسان لتحقيق حلم (الرحيل)، هل هناك أمل في أن يصحو، وأن يفكر بالعودة إلى (الوطن الحبيب) وإذا بقي في المهجر أو المنفى، فهل من الممكن أن يحافظ على انسانيته، وأن يتمتع بكرامته وشرفه؟. ‏

‏ ـ 8 ـ ‏

لم يكتف بن جلون بإيصال عز العرب إلى هذه الحفرة الدنسة من الابتذال والانحلال بل استجرّ أخته كنزا إلى مصير مشابه، إذ تنجح هي الأخرى في الرحيل، وتحقق حلمها الأخضر، وتلتحق بأخيها الذي يتعايش مع (اللوطي) وكم كانت دهشتها كبيرة عندما عرض عليها الإسباني الداعر أن يستأجر لها غرفة في زقاق سيئ السمعة، وأن يجعل منها مومساً تعمل لمصلحته، ولم تجد مفرا من قبول العرض القذر. ‏

في آخر فصول الرواية تصحو (كنزا) فجأة بعد أن غاصت في العهر حتى أذنيها، فتقول لأخيها، بادية التعب والإرهاق: ألم يحن الوقت للعودة إلى طنجة ولايجرؤ عز العرب على رفع رأسه، ومجابهة اخته وإنما يتمتم، وكأنه يحدث نفسه: طنجة؟! والعودة إلى المقهى، ويرتمي على كتف اخته وهو يبكي بصوت عال، ويقول: لقد اشترينا وطناً آخر، ودفعنا الثمن!. ‏

‏ ـ 9 ـ ‏

يتساءل (بن جلون): ماذا لو أن الزورق الآثم الذي أنزل بضاعته الإنسانية على شواطئ اسبانيا لم يكن أكثر من اسطورة؟ ماذا لو لم يكن اكثر من شبح يطفو على الأمواج؟ »لقد تم اغتيال الحلم الأخضر، وتدحرج عز العرب ومعه أخته، من الصعلكة إلى الاتساخ، من الخجل إلى الوقاحة، من الاعتزاز برجولته إلى بيع جسده، وتأجير فحولته لامرأة ساقطة، والخضوع لأن تكون اخته مومساً على الرصيف، ألم يكن من الأفضل له، ولكرامته ان يغرق في البحر، وأن تبتلعه الحيتان وأسماك القرش؟. ‏

‏ ـ 10 ـ ‏

يحق لنا ان نكاشف (بن جلون) بعتبنا، إن لم يكن بغضبنا، ألا يوجد خيار للإنسان العربي العادي إلا الاستنقاع في مقهى رث وتدخين الشيشة أو التعهر في المهجر الأوروبي؟ هل أضحت الحداثة والإصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ضرباً من المستحيل؟ من المؤكد أن الإنسان العربي يستحق مصيراً آخر، يليق بماضيه، وقدراته، وطموحاته. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...