سويسرا والمآذن والإسلام في أوروبا

05-12-2009

سويسرا والمآذن والإسلام في أوروبا

ما صدّقتُ أن استفتاءً سيجرى في سويسرا في شأن منع بناء مآذن للمساجد هناك. وعندما استطاع الحزبان اليمينيان جمع التوقيعات الضرورية لإجراء الاستفتاء، ظللت مُصراً على أن السويسريين لن يُعطوا هذا الأمر أكثريةً معتبرة. وقد حدث الأمران بخلاف ما توقعتهُ وتوقّعه كثيرون من الأوروبيين والمسلمين في سويسرا وخارجها. وقد قادني الى هذين الاعتقادين أو غرَّني في شأنهما أن الصحافة السويسرية ووسائل الإعلام المرئية كانت في مجملها ضد هذا الأمر، وصوَّرته على أنه من صناعة اليمين والغوغاء. وبالفعل، فإن نسبة الذين صوَّتوا أو شاركوا في الاستفتاء بالتصويت لا يزيد عددهم على 35 في المئة من مجموع الناخبين. لكن نسبة الـ 57.5 في المئة بالموافقة على منع بناء المآذن تبقى عالية، أي حوالى المليون من مجموع السويسريين الذين يبلُغُ عددهم سبعة ملايين ونيفاً.

وينبغي أن نستعرض أولاً حُجج الذين دعوا الى منع بناء المآذن بجانب المساجد. وأولُى تلك الحجج أنها تُخالف الطُرُز المعمارية في البلاد. وعندما حاججهم المُعارضون للاستفتاء بأن لا شذوذ في البناء، وإلا لسرى ذلك على المساجد نفسها، أجاب الداعون أنهم لا يحبذون بناء المساجد ايضاً، لكن المطالبة بالمنع في حالة المساجد فيها تحدٍ للحرية الدينية التي يضمنها الدستور. وكانت الحجة الثانية أن الأذان من المآذن يُزعج الناس ويعكّر سكينة المُدن وهدوءها.وأجاب المُعارضون بأن أكثر المآذن داخل المدن لا يُرفع فيها غير أذان الجمعة، ثم إن أكثر المساجد على حفافي المدن أو خارجها، والأذان لا يكاد يُزعج أحداً. وكانت الحجة الثالثة أنه مضت قرونٌ ما عرفت خلالها سويسرا غير الكنائس، وفي الإصلاح الكالفيني كان يستحيل على الكاثوليك أن يسيروا في الشوارع بلباس رجال الدين (الكاثوليك على الأقلّ). ولذا فإن هذه العمائر وتقاليدها تكاد تخرج عن حدود المقبول فضلاً على أن تكون مرغوبة! وهكذا فإن هذا التذمر من المآذن رمزٌ للتذمُّر من الخصوصيات الإسلامية كلها، بما في ذلك لحى الرجال وحجاب النساء. وقد أظهر أوروبيون آخرون التذمر من حجاب النساء المسلمات، ووصل ذلك الى حدود استصدار قوانين من البرلمانات لمنع الحجاب في المدارس والمؤسسات العامة. ولذا فإن أمر المآذن ومنعها هو بمثابة بدايةٍ، وإن نجح هذا الاستفتاء، فستليه استفتاءاتٌ تتناول لباس النساء والرجال، وقد تتناول المساجد داخل المدن في ما بعد!

لقد أُجريت هذه النقاشات علناً وفي وسائل الإعلام طوال شهور. ومن خصائص النظام الفيديرالي السويسري جواز إجراء الاستفتاء على أي شيءٍ أو أمر، وهم يستشهدون على ذلك على الدوام بالتقييدات التي نالت من هويات الكاثوليك في بعض الكانتونات قبل ثلاثة قرون، ومن ضمن تلك الكانتونات كانتون جنيف. والطريف أنه في هذا الاستفتاء بالذات، ما كانت هناك أكثريةٌ مع المنع في جنيف بالذات، لأنها صارت مدينة عالمية، فتغيرت أمزجة سكانها من جهة، وشعرت فئاتٌ منهم أن اضطهاد المسلمين يمكن أن يُضر بالمصالح المالية والاقتصادية والأمنية للمدينة. وقد عبَّرت عن هذا التخوف وزيرة خارجية سويسرا ومسؤولون آخرون. أما الفاتيكان الذي عَبَّر عن استنكاره أيضاً، فقد كان في وعي رجالاته ما حدث للكاثوليك من قبل. ثم ان المسيحية دينٌ عالميٌ، ويمكن أن يتعرض لتحدياتٍ في ديار المسلمين نتيجة هذا الاستفتاء الغريب.

هذا كل ما يمكن أن يُقال عن المُلابسات القريبة للاستفتاء السويسري. لكن ذلك ليس كل شيء أو أنه لا يقول الكثير عن الأهداف البعيدة والمغزى العام. فالظاهرة البارزة وراء ذلك كله هي الإسلاموفوبيا أو كراهية الإسلام. وهذا أمرٌ ليس استنتاجاً من عندنا أو ليس استنطاقاً لهذا الحدث فقط. بل هو ما تُقرره بحوثٌ ودراساتٌ ميدانيةٌ كثيرةٌ قامت بها مؤسسات تابعة للدول أو جمعياتٌ كنسية أو لحقوق الإنسان. وقدة عبَّرت تلك الكراهية عن نفسها حتى في الدول المشهورة بليبراليتها وعلمانيتها مثل الدنمارك وهولندا. أما في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا ودول أوروبا الشرقية الجديدة فحدِّث ولا حرج. وتشير الدراسات المذكورة الى أسبابٍ «عقلانية» وأخرى غير عقلانية. أما الأسبابُ «العقلانية» - وهي ليست كذلك في الحقيقة - فالمُنافسة التي تُشكّلُها العمالة الأجنبية الرخيصةُ للعُمّال المهرة وغير المهرة في بلدان أوروبا، وسط تضاؤل الموارد والفُرص، ولا يُهم في نظر هؤلاء أن يكون ذلك صحيحاً أو موضوعياً، بل هو انطباعٌ عام. لكن المشكلة في هذه الحجة أو العِلّة أن سويسرا ليس فيها أكثر من 300 ألف مسلم، وأن المهاجرين اليها من غير المسلمين يبلغون أضعافاً مُضاعفة. والأمرُ كذلك في هولندا والدنمارك وألمانيا وإيطاليا والنمسا. إذ المعروف أن تحطُّم يوغوسلافيا اثار موجاتٍ من الهجرة البيضاء، فضلاً عن الهجرة السوداء (المسيحية والإسلامية) من كل أقطار أفريقيا تقريباً، ربما باستثناء جنوب افريقيا. ولا شك في أن السُود عانوا ويُعانون من الاضطهاد في سائر أنحاء أوروبا، لكن المشاعر تجاه المسلمين، سُمراً وبيضاً، تتجاوز ذلك كله. وقد صار الجزائريون والمغاربة مضرب مثَل في النفور منهم حتى لو لم يكونوا متدينين، وحتى لو كانوا قد قضوا في أوروبا (فرنسا) أجيالاً وأجيالاً. والسبب (العقلاني) الآخر يتصل بالإرهاب، ويتصل قبل ذلك بالاضطرابات العنيفة التي كان الشبان المسلمون يثيرونها في ضواحي المدن في فرنسا وغيرها. بيد أن العنف الاجتماعي تضاءل، كما أن الأحداث الإرهابية تكادُ تنعدم. لكن الذاكرة الجماعية لا تنسى بسهولة، وبخاصةٍ أن وسائل الإعلام لا تزال تتناقلُ أخبار القاعدة، واضطرار الأميركيين والأطلسيين لمكافحتها ومكافحة طالبان، وإرسال المزيد من الجنود الى أفغانستان. وبين الباحثين الاجتماعيين والسياسيين من يشير الى أن هذا العنف هو ردُّ فعلٍ وليس فعلاً، على أحداثٍ تجري خارج أوروبا أو داخلها. وهذا ما أشارت اليه وزيرة خارجية سويسرا عندما اعتبرت أن نتائج الاستفتاء تُهدّد الأمن والعلاقات بالدول الإسلامية - بمعنى أنها تنتظر ردود فعلٍ عنيفة على ذاك الحظر الرمزي على الإسلام، بحظر بناء المآذن.

أما الأسباب غير العقلانية فحدِّث ولا حرج. فالأوروبيون ينفرون أو تنفر غالبيتهم من لباس المسلمات، ومن ظهور المساجد في مدنهم. وليس لهذا النفور سببٌ ديني، فقد غادرت المسيحيةُ أخلاد وممارسات الأكثرية من السكان منذ أزمان. ثم ان الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية ظلّت خلال العقدين الأخيرين أكثر الجهات تصدياً للإسلاموفوبيا، والعِلّةُ في الساسة أنهم ضعفاء أمام رغبات الناخبين الواقعيين والمحتملين. وهم لا يصارحون العامة بالإنكار خشية أن يستغلَّ ذلك اليمينيون في التصعيد من شعبيتهم. على أن اليساريين يقولون لهم إن هذا الجُبنَ غير مبررٍ بدليل ما حدث في سويسرا أخيراً، وفي الدنمارك وفرنسا قبل ذلك. فلا أحد يشكك في مشاعر الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، ومع ذلك فقد تحمس وزايدَ على السياسي اليميني المتطرّف «لوبان»، وتقدم الى البرلمان الفرنسي بمشروع قانون حظر الحجاب عام 2004. وكان المسؤولون الدنماركيون في سائر أنحاء العالم الإسلامي مستنكرين مسألة الصور الكاريكاتورية وما أحدثته، لكنهم ما فعلوا الكثير للحديث الى ناخبيهم ومواطنيهم في الداخل. وقد قال لي أستاذٌ فرنسيٌ انه سمع نقاشاً بين نائب يساري ومجموعة من الشباب حول كراهية الإسلام والمسلمين، وقد قال اثنان منهم للنائب إن المغاربة في شوارع باريس يذكرونهم بالحروب الصليبيةّ! وتدخل الأستاذ في الحديث وقال للشابين: لكن الفرنسيين والأوروبيين في الحروب الصليبية كانوا غُزاةً لا مغزوّين، فاستغربوا جميعاً وقالوا انهم لم يكونوا يعرفون ذلكّ! وبذلك، فإن هذه الظاهرة - والتي قد تكون لها أسبابها «المعقولة» في الأساس - تجاوزت تلك الحدود الى الأوهام والمخيلات الجماعية، بحيث ما عاد أحدٌ من حَمَلة شعائر الكراهية - فضلاً عن خصومهم - يُدرك لها سبباً أو يستطيعُ أن يذكر لها مبرراً معقولاً! وهكذا، فالساسة الأوروبيون أو بعضُهم ليسوا جبناء كما يظن اليساريون، بل يعتقدون أو يعتقد بعضهم أنهم انما يستجيبون رغباتٍ شعبية عميقة، ويقودونها الى نهاياتها «العقلانية». وهذا معنى المُعارضة شبه الجماعية الآن للدخول التركي الى الاتحاد الأوروبي. فقبل خمس أو ست سنوات كانت دولٌ أوروبيةٌ كبرى مثل المانيا وبريطانيا بل وفرنسا، تؤيِّد هذا الدخول، ولأسبابٍ سياسيةٍ واقتصادية. أما اليوم فما عاد سياسي أوروبي كبير يريد لنفسه مستقبلاً يُصرّح بتأييد ضم تركيا الى الاتحاد، وذلك باستثناء البابا الذي يُصرُّ على أيّ حالٍ على الهوية المسيحية لأوروبا!

ويُعزّينا بعض الأساتذة الأصدقاء بأن هذه موجة لا تلبثُ أن تنحسر مثل موجات كراهية السود أو الفيتناميين. وقد يكون الأمر كذلك. لكن اللافت أن الإسلاموفوبيا تتناولُ المكروهين ودينهم وثقافتهم، وهو ما لم يتوافر في الموجات العنصرية ضد الشعوب الأخرى. فعندما قلّ مجيّء الفيتناميين الى فرنسا مثلاً تراجعت الصيحاتُ ضدَّهم. والمشكلة أننا بجوار أوروبا وستظل الهجرة احتمالاً قوياً قائماً. ثم لماذا الربط بين الإسلام والإنسان دائماً؟ فالهنديُّ مرحبٌ به، لكنه إذا كان مسلماً تغيرت النظرة. فهذا يعني أن هناك كراهيةً للإسلام من جانب أُناسٍ غير متدينين، ولا يهمهم أن يتدين الكاثوليك أو البروتستانت أو لا يفعلون، بل المهم ألاّ يكون المرءُ مسلماً من أيّ جهةٍ أتى.

إن من الصعب الآن التفتيش عن مخرجٍ أو اقتراح حلول ما دامت الظاهرة موجودةً وناميةً وتتناولُ معظم الدول الأوروبية. ويرى مسلمون أوروبيون أن الأمر يقتضي الصبر والثبات وعدم اللجوء الى العنف. فالإسلام هو الدين الثاني أو الثالث في أوروبا بعد الكاثوليك والبروتستانت. وبعد عشرين عاماً ومن دون الدخول التركي سيكون عددُ المسلمين في أوروبا خُمسَ السكّان. وإذا طوروا مشاركتهم في النظام السياسي، فلن يستطيع أحدٌ اضطهادهم أو نفيهم أو ممارسة العنف الشعبي أو القانوني أو عنف الدول ضدهمُ. ويرى كثيرٌ من الشباب الناجحين العاملين مع الدولُ والشركات أن «الصبر» كلمةٌ سهلةٌ، لكنها غير عملية، فقد استكانوا طويلاً من أجل الحصول على الإقامة أو الجنسية، لكن شيئاً ما تغير باستثناء استحالة طردهم لأنهم صاروا مواطنين! فالمهم أن نعي أن العنف لا يحلُّ مشكلةً حتى لو كان ردَّ فعل، وأن خصوصيات الهوية التي نتمسكُ بها ليست سبباً كافياً لتبرير التمييز، كما أنها في الوقتِ نفسه ليست السبب الكافي لحماية الدين والكرامة.

رضوان السيد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...