حنا مينه: أنتم تسألون عن حياتي وأنا أجيبكم! (2-­3)

10-04-2010

حنا مينه: أنتم تسألون عن حياتي وأنا أجيبكم! (2-­3)

من المعروف أنني أضعت طفولتي بالشقاء، وشبابي في السياسة، وكنت في فقر أسود، وأنا، الآن، في فقر أبيض، وقد ناضلت بجسدي، والآن أناضل بقلمي، وأن المناضلين الشرفاء الصادقين، هم الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي والاقطاع، وقد كان لي حظ الانتماء إليهم، والتعرف إلى حقيقة الكلمة وشرفها من خلال إرشاداتهم. وأن هذا المجتمع، في الطفولة واليفاعة والشباب، أعطاني تجارب لا تنسى، أفدت منها في كفاحي بالقلم على امتداد حياتي الأدبية التي قاربت الخمسين الآن. وكي أختصر الكلام على المحيط السياسي أقول: عرفته، رافقته، كنت قريباً من أبرز رجاله، منذ هجرة عائلتي من اللواء العربي (اسكندرونة) إلى اللاذقية، وقبل ذلك بقليل، وبعد ذلك إلى الوقت الراهن، غير أن كفاحي، على الجبهة الثقافية، وما فيها من كرم الكفاح، قد جعلني أكتشف حقائق كثيرة، ومنذ وقت مبكر، لذلك تركت الانتماء الحزبي، منذ منتصف الستينيات، وكرست حياتي للأدب، وللرواية تخصيصاً، وسأبقى كذلك، دون أن يعني ذلك نسيان الماضي، أو عدم الأمانة للمنطق، فأنا أعرف أن اليوم الذي أنسى فيه ناسي، أو أدير لهم ظهري، أو ينقطع حبل السرّة الذي يربطني بهم، سيكون يوم توقفي عن الكتابة، وتالياً عن الحياة.

ولندع الكلمات الكبيرة، فإنني لا أنسجم معها، رغم أن الحديث قد اضطرني إلى مقاربتها، فما أقوله لقرائي إنني ولدت في حي فقير بائس، في مدينة اللاذقية، وفي دار تتقاسم عائلات فقيرة غرفها، وقد اضطرت أمي إلى حرماني من نصف حليبها، وبيع النصف الآخر إلى ابن عائلة ثرية كانت تعمل عندها.. يقال إن أخي في الرضاعة كان (جول فيتالي) وهو من الأغنياء الذين عاشوا حياة تَرِفَة، ولم أر له وجهاً، لأنه ارتحل قبل سنوات، لقد صورت وضعي الصحي العليل في سيرتي الذاتية، ومنها تعرفون وضعي العائلي الغارق، حتى الاختناق، في حفرة شقاء تدافعناه، بكل ما نملك من إرادة، فلم يندفع! أمي وأخواتي الثلاث، عملن خادمات وعملت أنا الصبي الوحيد، الناحل، أجيراً، كذلك عمل الوالد، سليم حنا مينه، الخائب في كل أعماله ونياته، حمالاً في المرفأ، بائعاً للحلوى، وللمرطبات، مرابعاً في بستان قاحل إلا من أشجار التوت، ومربياً لدود القز، ثم عاود، بين كل هذه الأعمال وأثناءها، سيرته في الترحال، كأنه (موكل بفضاء الله يذرعه). كان أبي، رحمه الله، رحّالة من طراز خاص، لم ينفع ولم ينتفع برحلاته كلها.. أراد الرحيل تلبية لنداء المجهول، تاركاً العائلة، أغلب الأحيان، وفي الأرياف، للخوف والظلمة والجوع. ولطالما تساءلت: وراء أي هدف كان يسعى؟ لا جواب طبعاً. إنه بوهيمي بالفطرة، وقاص بالفطرة، يصنع من أي مشهد حكاية مشوّقة، وقد أفدت منه في هذا المجال فقط. كان رخواً إلى درجة الخَوَر أمام شيئين: الخمرة والمرأة! لم يفز بالمرأة ولم يستمتع بالخمرة. كان يسكر إلى درجة التعتعة والسقوط والنوم حيث يسقط، لمجرد شرب كأس أو كأسين. يا للأب المثالي، الذي كافأته، في السنوات الخمس عشرة الأخيرة من عمره، مكافأة حسنة، متجاوزاً عن كل ما ألحق بالعائلة من أذى، وليس في ذلك منّة، بل واجب البنوّة وحده. ‏

من اللاذقية، حيث ولدت، تشرد الوالد، وجر العائلة معه، إلى متاهة الضياع، وهذا التشرد فرض عليّ البحث عن اللقمة أولاً، وفرض عليّ، ثانياً، العمل الشاق في السياسة، وأمنيتي، الآن، أن أتشرد من جديد، لأنني أكاد أتعفن بين الجدران الأربعة من مكتبي في الوظيفة، ومن مكتبي في البيت، الذي أعمل فيه وسط شروط لا إنسانية. ‏

الرحلة، في الخطوات الأولى، انطلقت من اللاذقية إلى سهل أرسوز قرب أنطاكية، مروراً باسكندرونة، ثم اللاذقية من جديد، وبيروت، ودمشق، وبعد ذلك تزوجت، وتشردت مع عائلتي لظروف قاهرة، عبر أوروبا وصولاً إلى الصين، حيث أقمت خمس سنوات، وكان هذا هو المنفى الاضطراري الثالث، وقد دام، هذه المرة، طويلاً، حتى قارب العشرة من الأعوام، لم أكتب فيها حرفاً واحداً، وبذلك ضاع استواء رجولتي، بين الثلاثين والأربعين من عمري، سدى، فالنبتة قلّما تعيش إلا في تربتها! هناك استثناءات كثيرة طبعاً، لكن غربتي، وهي مهنتي الشاقة، تختلف جداً، بسبب ما ترتب عليّ من كدح لإعالة أسرتي، التي كان نصفها معي، والنصف الآخر في اللاذقية. ‏

لقد تزوجت مريم دميان سمعان، أصلها من بلدة السويدية، مصب نهر العاصي قرب أنطاكية، وكانت مقيمة في اللاذقية عندما التقيتها وتعارفنا بعد هجرة العائلة من اللواء العربي السليب.. إنها إنسانة طيبة، شعبية، لم تتجاوز دراستها الصفوف الابتدائية، أي إنها مثلي من ناحية التحصيل العلمي، لكنها بذكائها الفطري، تفهمت ظروفي كمناضل سياسي ضد الانتداب الفرنسي قبل الزواج، كما تفهمت ظروفي بعد الزواج ككاتب، فوفرت لي، في الحالتين، جواً أسروياً سعيداً، قوامه نكران الذات إلى حد التضحية، في سبيل إنشاء الأسرة، ومشاطرتي آلام الغربة، وتوفير الهدوء والصفاء اللازمين لي ككاتب، وإني مدين لها بنجاحي، وهذه مناسبة أتحدث فيها لأول مرة عن هذه الإنسانة الرائعة، التي كانت معي على الدهر، لا مع الدهر علي، وهذه مأثرة المرأة الرائعة دائماً، التي تتحلى بصفات نبيلة، ومنها الصبر، والتدبير، والخلق الكريم، حتى أجد نفسي عاجزاً عن الكلام الذي يفيها حقها، بسبب من أنها تفانت، ولا تزال، لإسعادي، وللسهر على الأسرة في غيابي وحضوري. ‏

إننا، هي وأنا، نقترب من نصف قرن من الزواج الناجح، والفضل في نجاحه يعود إليها حصراً، لأنها تتيح لي حرية اكتساب التجارب من جهة، والمناخ الملائم للكتابة عن هذه التجارب من جهة أخرى. ‏

رزقنا خمسة أولاد، بينهم صبيان، هما سليم، توفي في الخمسينيات، في ظروف النضال والحرمان والشقاء، والآخر سعد، أصغر أولادي، وهو ممثل ناجح جداً الآن، شارك في بطولة المسلسل التلفزيوني (نهاية رجل شجاع) المأخوذة عن رواية لي بهذا الاسم، فأبدى مقدرة غير عادية، في أداء دور (مفيد الوحش) عندما كان صغيراً، وهذا المسلسل لقي إعجاباً مثيراً، وبث إلى كل أنحاء العالم، كما شارك بدور البطولة (شاهين) في المسلسل التلفزيوني المهم (الجوارح)، وكلا المسلسلين من إخراج نجدت إسماعيل أنزور، هذا الإنسان الموهوب إلى درجة الإبهار. ‏

لدينا ثلاث بنات: سلوى (طبيبة)، سوسن (مخدّرة وتحمل شهادة الأدب الفرنسي)، وأمل (مهندسة مدنية) وقد تزوجن، ولم يتبعنني على طريق جهنم: طريق الأدب! ‏

بداياتي الأدبية الأولى كانت متواضعة جداً، فقد أخذت، منذ تركت المدرسة الابتدائية (هذه التي تعلمت فيها فكّ الحرف كما يقولون) بكتابة الرسائل للجيران، وكتابة العرائض للحكومة.. كنت لسان الحي إلى ذويه، وسفيره المعتمد لدى الدوائر، أقدم لها بدلاً من أوراق الاعتماد، عرائض فيها شكاوى المدينة ومطالبها، وهنا، كنت صدامياً منذ طفولتي، بل منذ يفاعتي.. إننا جياع، عاطلون عن العمل، مرضى، أميّون، فماذا يريد أمثالنا؟ العمل، الخبز، المدرسة، المستشفى، رحيل الانتداب الفرنسي، مطالبة الحكومة، في فجر الاستقلال، أن تفي بوعودها المقطوعة لأمثالنا من الفقراء، بعد نضالهم الطويل لتحقيق هذا الاستقلال. ‏

حنا مينه

المصدر: تشرين

حنا مينه: أنتم تسألون عن حياتي.. وأنا أجيبكم! (1 ـ 3)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...