تكتيك عبد المنعم عمايري.. ثمانون دقيقة من البوح

23-11-2008

تكتيك عبد المنعم عمايري.. ثمانون دقيقة من البوح

لم يكن عرض تكتيك الذي قدم ضمن احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية مجرد حدث عابر في الأجندة الثقافية والفنية...‏

بل كان حالة أخرى من حالات التميز الإبداعي الذي خبا بريقه خلال العقدين الأخيرين... فعانت أوساطنا الفنية والأدبية حالة من الجمود على مختلف الأصعدة.. وسمعنا صيحات عما يسمى.. أزمة الرواية المعاصرة... أزمة الشعر المعاصر... أزمة المسرح المعاصر... هذه الأزمات التي أوجدتها أسباب عدة منها انتشار الثقافة الاستهلاكية اليومية غير المتأصلة ولاالأصيلة... ومنها ارتباط النتاجات الإبداعية والجماعية منها بشكل خاص بالعجلة التجارية تارة وبالقوانين الصماء الجامدة تارة أخرى.. ومنها أيضاً التوجه إلى المادية ليس في الفلسفة الفكرية الجدلية أو القوانين الاقتصادية بل في تعاطي الإنسان مع حياته اليومية وتفاصيل واقعه المعاش.. وهذا ليس على الصعيد المحلي فحسب بل على المستوى العالمي.. غير أن الأمل بقي مستمراً في إحياء هذه الفنون والآداب من خلال أصوات مفردة تنطلق هنا وهناك محاولة رسم أفق جديد لهذه العوالم الجمالية..‏‏

- من الصمت والعتم والفراغ تنطلق الموسيقا وتنفتح الإضاءة لندخل لعبة المسرحية من خلال صور متتابعة لشمسي (فايز قزق) الزوج الذي أضاع ابنته مؤخراً وزهوة (رغد مخلوف) زوجته الذي غادرته قبل سنوات إلى فرنسا وعادت اليوم لتشاركه البحث عن ابنتهما كنزة (لمى الحكيم) ابنة السابعة عشرة والتي تركت البيت لتبحث عن حريتها المفقودة لنقف لاحقاً أمام عدد من النماذج الشابة.. بيسان (راما العيسى)... رميز (نسرين فندي).. نجاتي (أسامة حلال) .. هذه الشخصيات الغضة التي تتباين في حيواتها الاجتماعية وجذورها العائلية العائمة على مستنقع الفقر والحرب والإهمال والتهميش والتفكك وتتفق في الضياع والألم والخوف والعجز وفقدان الجدوى في زمن حولها إلى أدوات للمتعة.. يحركها حربي (قاسم ملحو) كما يحلو له..‏‏

- اعتمد النص لغة يومية بسيطة لكنها لا تخلو من التوتر الذي ولده الاجتهاد على تركيب الكلمات والعبارات ووضعها في سياق غير تقليدي وساعد في اعتماد النص على الربط الدرامي الرمزي والإيحائي... فجاءت العبارات مشحونة بكهربائية الخوف والقلق والجرأة وهذا ما وضعنا أمام عاصفة من العواطف المتناقضة... فالحب مقابل اليأس... والخوف مقابل الأمل... والشجن مقابل الخواء الروحي.. ومع هذا فإن الربط الشفيف غير المباشر بين المشاهد بعيداً عن النمطية في استدعاء الحدث من خلال التمهيد أو التصعيد أضفى على المادة النصية حالة من الوحشة وفقد جسور التواصل المنطقي بين الشخصيات الأمر الذي ساهم في تنامي الشعور بالوحدة التي تعانيها كل شخصية على حدة لتأتي المونولوجات الفردية دلالة أخرى على أزمة الروح.. الأزمة الحقيقية التي نعيشها في مدننا الكبرى ومتعبين وضائعين ومثقلين بهمنا اليومي وماضينا المخبأ في حقائب أرواحنا.. فالحرب التي أبعدت بيسان عن أهلها لتدخل لعبة القوة المصطنعة.. وظلم الأب الذي أبعد نجاتي عن واقعه ليدخل عالم العبثية والحب المحموم بالغيرة المحكوم بالقلق... والانتهازية التي أبعدت رميز عن توازنها لتدخل حلقة التعاطي والضياع... والروح المفعمة بالرغبة التي حولت حربي إلى بائع للأحلام ومدير لمحل اللعب بالقلوب والأجساد.. والانفتاح على العالم الذي حول زهوة إلى متسكعة على أرصفة الغربة... وعجز المثقف الذي ترك شمسي مغيباً في ثياب أفكاره العتيقة.. كل ذلك يقدم نتيجة واحدة هي فقد السيطرة على الروح والجسد الصغيرين أمام كبر العالم...‏‏

- ما ميز شخصيات تكتيك وضوحها وغناها وقربها إلى الانسجام مع الذات وامتلاك كل منها قاموساً لغوياً ومعرفياً خاصاً ومرجعية بيئية ونفسية خاصة.. ولعل السبب في ذلك اشتراك الممثلين بالكتابة المسرحية على الخشبة - كما جاء في بروشور العمل- وقد ساعدت هذه الشخصيات العرض في الخروج عن الربط الدرامي التقليدي والاستعاضة عنه بالربط الدلالي والايحائي دون أن يؤثر ذلك على إيقاع العرض الداخلي... الذي لم يرتبط هذه المرة بالأحداث والمادة الدرامية وإنما بالأداء التمثيلي فحمل الممثلون مهمة الحفاظ على التواتر المتقد البعيد عن الرتابة... ساعدهم في ذلك الشرط الأدائي الذي وضعهم فيه المخرج فأحسن تقديمه بمرونة - أسامة حلال... بعفوية -لمى الحكيم ...بجرأة - رغد مخلوف ... وأعاد إنتاجه بذكاء - نسرين فندي... بأناقة - راما العيسى... بثقة - قاسم ملحو ... بحرفية - فايز قزق.‏‏

- أما الأداء الراقص الذي قدمته مجموعة من الراقصات يارا عيد - حور ملص - داريا جميل - ماجدة الحرك - لانا شميط - عزة السواح - لانا فهمي - ريناتا مجبل - رؤى ريشة - ديانا عبود فقد أعطى العرض مزيداً من الجمال والمتعة البصرية وكعادتها تفردت المتألقة يارا عيد..‏‏

الجدة في الشكل ورسم المشهدية البصرية والسمعية جاءت مكملة لخصوصية المعالجة الدرامية, فالممرات الضوئية المتقطعة والمبتورة هي الشوارع المسدودة باليأس... والبقع الضوئية التي تضم بذراعيها وبفترات متباعدة شخصية من الشخصيات هي فسحة للبوح وربما زنزانة من الضوء المبهر الذي يعميها عما يجري خارجه ... والديكور الواقف كجدار في عمق المسرح هو الحاجز بين الواقع وخلفيته السوداء... والأبواب والنوافذ التي تنفتح وتنغلق وتتهدم ممرات إلى الجزئي من الأفعال المطلقة... والموسيقا الداخلية والخارجية... المرافقة والمحرضة... الثائرة والحنونة... صهيل الروح ونزيف كبريائها... والأزياء الأنيقة التي تتشرب النظرات انعكاسا للخواء ورواسب القبح الاجتماعي والإنساني الذي أدخل الشخصيات متاهة البحث عن الماضي في الحاضر.. وعن الحاضر في المستقبل... وعن المستقبل في الماضي .. إنها لعبة الوقت الذي اختار الابتعاد عن سيرورته الأفقية..‏‏

عماد نجار

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...