المسرح الشتوي في دمشق: تنوّع فقير

26-04-2009

المسرح الشتوي في دمشق: تنوّع فقير

ربما تكون صالات المسرح في دمشق قد اعتراها بعض الخمول مع بداية الموسم الشتوي هذا العام، غير أن الصورة ما لبثت أن تغيرت منذ أواسط شهر شباط (فبراير)، حيث تابع الجمهور خلال شهر ونيف من الزمن ما لا يقل عن ستة أعمال،  ثلاثة منها قُدّمت في إطار عروض المسرح القومي، والباقي كان متعدد الجنسية تم تقديمه في إطار الشراكات الفنية مع المراكز الثقافية الأجنبية، ومن الملاحظ أن هذه الباقة المنوعة من العروض حملت معها ألوانها المختلفة على مستويي المضمون والشكل، كما أثارت العديد من الأسئلة حول إشكالات فنية وأحيانا فكرية

في هذا السياق كان أول العروض السورية الرسمية  عرض «الشوكة» تأليف فرنسوا ساغان إخراج منصور السلطي، ثم «تيامو» إعداد وإخراج رغدا الشعراني، ومن بعده «دون كيشوت» تأليف طلال نصر الدين وإخراج مانويل جيجي، أما قائمة العروض الأجنبية والشراكات الفنية فقد ضمت المسرحية الإنكليزية «دمشق» تأليف ديفيد كريغ وإخراج فيليب هاورد بدعم من المجلس الثقافي البريطاني، «طقوس الإشارات والتحولات» تأليف سعدالله ونوس إخراج وسام عربش بدعم من المفوضية الأوروبية والمركز الثقافي الفرنسي، وأخيرا عرض الدمى المتحركة «لا تخف الحيوانات الضخمة» بدعم من المركز الثقافي الألماني، وفي ما يلي نقف عند بعض المحطات التي تعبّر عن تنوع الموضوعات وطبيعة الإشكاليات المثارة.

الشوكة
قصة «الشوكة» تدور حول إليزابيت (زينة ظروف) وهي ممثلة أدوار ثانوية في مسارح باريس سابقا، وقد أُقصيت عن ممارسة مهنتها إثر حادث سيارة أصابها بعطب مزمن في ظهرها ومشيتها، غير أن عشقها الكبير للمسرح جعلها تتشبث بوهم العودة، وتنعزل في فندق من الدرجة العاشرة، حيث تقضي فترة نقاهتها، وتتدرب على أداء الأدوار الهامة في مسرحيات راسين وديموسيه، وتقنع النادل لوسيان (سعد لوستان) بأنها ممثلة هامة تنتظرها العقود فور شفائها، وبأنها سوف تعلمه التمثيل وتقوده إلى المجد معها.
وفي مقابل هذا الحلف الفني كان هناك إيفان (محمد مصطفى) زوج الممثلة الذي يدرك تماما حجم الوهم الذي تعيشه الزوجة، ويحاول أن يوقظها منه، وحين يتعذر الأمر عليه، يقرر أن يهجرها بعد أن يكاشف النادل بحقيقتها، غير أن لوسيان الذي انساق في لعبة الوهم وأحلام اليقظة،  يقرر أن يدع الأمور تسير كما كانت عليه قبل المكاشفة.
وفي إطار هذا النص الناعم والشخصيات المهزومة التي تعيش في عالم بديل من الأخيلة والأوهام، كان الديكور ثابتا وأنيقا وفي حدود وظيفته الواقعية غرفة في فندق، وكان الأداء رشيقا ومعبّرا عن الحالة المقترحة في إطارها العام، لكن المطب الأساسي الذي وقع في شركه المخرج منصور السلطي، هو أنه منذ البداية كشف عن كل نقاط الأزمة وبؤر الصراع، ثم سارت التفاصيل على نفس الخط حتى النهاية دون تعميق أو تصعيد درامي سواء على المستوى النفسي أم الخارجي، بحيث لم يكن أمام المشاهد ما يتوقعه في الجزء الأكبر من العرض.

لا تخف الحيوانات الضخمة
حين تم الإعلان عن تقديم مسرحية الدمى المتحركة «لا تخف الحيوانات الضخمة» لم يكن من المتوقع أن تحظى باهتمام المشاهدين الكبار والأطفال على حد سواء، وأن تكتسي صالة المسرح بحالة من الحبور العام كالتي شهدتها، لكن للفن الجميل حضوره المميز، فالفنان الألماني بيتر كيتوركات كان قد ابتكر طريقته الخاصة في مخاطبة الجمهور، طريقة لا تعتمد اللغة أو الدمى التقليدية، بل تعتمد على الصمت والكودات الموسيقية والحركية التي مع تكرارها تتحول إلى مصطلحات متفق عليها للتحية والرفض والقبول وعقد حوارات مفهومة من قبل الجميع.
كذلك فإن العرض اتخذ من أدوات المطبخ كالملعقة ومفرمة الثوم مثلا مواد أولية لتصنيع دمى طيّعة، بحلّة أنيقة، تتحرك بطرافة، تنحني وترقص بالشكل الذي يريده صانعها ومحرّكها كيتوركات ومساعدته كارين بايرل، أما القصة فهي بسيطة جدا وتدور حول أسرة تعيش في منطقة معزولة، وتتعرض لمهاجمة الحيوانات الضخمة التي تثير في نفوس الأطفال الرعب، غير أن الأب يعلمهم كيف يمكن التغلب على الخطر بالحيلة والتعرف على الخصم ومد أواصر الصداقة معه، وليس من خلال الذعر والاختباء في المنزل، وهي فكرة تربوية هامة، تم طرحها بأسلوب جذاب، وأدوات مبتكرة، ولغة موجهة لكافة الفئات العمرية والثقافية.
طقوس الإشارات والتحولات
بعد مرور قرابة خمسة عشر عاما على صدور أكثر نصوص الراحل سعد الله ونوس جرأة «طقوس الإشارات والتحولات» قام المخرج السوري الفرنسي وسام عربش بتجسيده على خشبة المسرح في عدد من المدن السورية، والعرض الذي اجتاز تحدي الرقابة الرسمية أثار موجة من الجدل بين أواسط المشاهدين، وتم منع عرضه الثاني في مدينة حلب لأسباب غير واضحة سوى أن النص يمس بالعمق ثالوث التحريم المقدس لاسيما تابو الدين.
وينطلق النص من واقعة حقيقية جرت في القرن التاسع عشر وجاءت في مذكرات فخري الباردوي، تشعبت وتبلورت في حكاية شيقة على يد ونوس، وباتت تعج بالحياة والشخصيات المركبة والإحالات المعاصرة، وتقوم الحكاية على حدود التماس بين عالمين متناقضين: عالم الليل وبنات الهوى، وعالم الأشراف والشخصيات الرسمية، حيث يتقاطع هذان العالمان، حين يتم القبض على نقيب الأشراف عبد الله (سعيد لوستان) وهو بصحبة مومس (ناندا محمد) وهي حادثة تثير سخط الرأي العام، وتحرج السلطة، فيحاول مفتي البلاد (كفاح الخوص) تسوية الأزمة بالإدعاء أن زوجة نقيب الأشراف مؤمنة (حلا عمران) هي من كانت معه في تلك الليلة المشؤومة وليس غيرها، لكن هذا الحل السحري المبني على مبدأ التواطؤ بين ممثلي السلطتين السياسية والدينية لايلبث أن يشكل نقطة تحول انقلابية بالنسبة لكافة الشخصيات الداخلة في صلب اللعبة.
فبعد تلك الحادثة يستقيل النقيب من منصبه ويهيم على وجهه زاهدا بمتاع الدنيا، وتقرر زوجته سليلة عائلة الأشراف والتاجر المعروف (تيسير ادريس) تقرر أن تدخل عالم الليل، كي تحرر نفسها من عبء النظر إلى المرأة بوصفها خاطئة وإلى جسدها بوصفه عوّرة، فتصبح ألماسة الغانية التي تفتن الرجال بجمالها وثقافتها، ومن بينهم  المفتي الذي يتخلى عن رصانته وورعه في سبيلها، وتبلغ الحبكة ذروتها حين تُطعن ألماسة بسكين أخيها غسلاً للعار.
وقد ارتأى المخرج أن يقدم هذه الشبكة المتداخلة من العلائق والتحولات والروامز المتعددة المستويات التي تطاول مختلف بنى المجتمع الرأسية منها والعمودية، ارتأى أن يقدمها في إطار حلّة معاصرة من الأزياء والأغراض مع الحفاظ على اللغة الفصحى، وفي إطار كتلة ضخمة مكونة من طابقين، يحتلان معظم الفضاء المسرحي، ويتحركان على محور واحد، ويضمان مجموعة من الغرف المفتوحة من جهة المتفرج، والتي يمكن تغطيتها بواسطة ستائر شفافة، ويمكن دخولها والخروج منها بواسطة سلم متحرك، وصحيح أن هذا الديكور المتحرّك بين امكنة متعددة قد أكسب العرض حيوية ملحوظة، لكنه في المقابل لم يُوظف فنيا بشكل سليم، وقد أربك أداء الممثل بضخامته، وشوّش الحضور بذلك الصرير الذي كان يصدر عن حركة المحور تارة، وحركة السلم تارة أخرى، فبدا وكأنه شكل من أشكال الثرثرة البصرية، وكانت هذه واحدة من عيوب العرض الأساسية، مضافا إليها هنّات التمثيل الذي لم يستطع في بعض الأحيان أن يرتقي إلى مستوى دواخل الشخصيات في النص الأصلي.

دون كيشوت
للمرة الثانية خلال أقل من عام يُعاد مسرحة رواية الكاتب الإسباني سرفانتيس «دون كيشوت» وللمرة الثانية تنفتح الستارة على ذلك الحالم الذي يتطلع إلى محاربة الشر وإصلاح العالم وحيدا وبأسلحة بدائية، تلك الرغبة النبيلة التي تعوزها أدوات التحقق والحماية، والتي تودي بصاحبها إلى التهلكة بعد سلسة من المعارك الغير متكافئة والهزائم المريرة، وعند هذه الحدود التراجوكوميدية توقف المؤلف طلال نصر الدين بدءا من انبعاث حلم التغيير في مخيلة الفارس (مصطفى الخاني) وخادمه سانشو (سوسن أبو عفار) مرورا بحروبه الخاسرة مع طواحين الهواء وجنود الوالي ونزلاء الماخور، انتهاء باحتضاره، وفي كل مرة كانت صورة الحبيبة الأسيرة هي الدافع لخوض المعركة، ومع كل هزيمة كانت صورة الأم (نهال الخطيب) تتقدم لتضع لمسة حنان، وتلقي باللوم على وعود الكتب.
ولم يشأ المخرج مانويل جيجي أن يلتزم برؤية واقعية، بل اعتمد التجريبية، ووازن بين المسارين الساخر والمأسوي في النص، واستعان بلغة الرقص والإضاءة والموسيقى لخلق تشكيل مشهدي معادل للحالة النفسية، بحيث بدت الإحالة واضحة إلى صورة المثقف في زمن تراجع معه أثر الكلمة، وتقدمت لغة العنف، ومع أن الصورة عكست حقيقة الأمر، غير أنها لم تأت بجديد، بل أعادت طرح ما نعرفه جيدا في النص الأصلي وفي الحياة.

تهامة الجندي

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...