المخيم في الرواية الفلسطينية

18-06-2007

المخيم في الرواية الفلسطينية

يؤرخ الكاتب الفلسطيني بشار إبراهيم لفكرة المخيّم في الرواية الفلسطينية، في كتابه الضخم الصادر حديثاً عن وزارة الثقافة السورية، وعبر دراسته حوالى ست وثلاثين رواية فلسطينية يمتد زمن نشرها من خمسينات القرن العشرين حتى أواخره. وإذ يختار هذا الكم الكبير من الروايات يدخل، مجبراً أحياناً، في نطاق التوثيق فحسب، لا النقد والتفكيك، مكتفياً بأن يبين للقارئ شكل حضور المخيم، والتعبير عن ذاك الحضور، روائياً، ومقولات الروائيين عنه، بغض النظر عن الصنعة الروائية المعمول بها، وعن التفاوت التقني والفني الكبير الذي يفصل تلك الأعمال الروائية.
لا يتناول الكاتب المخيم كظاهرة فحسب، بل كمفهوم حقيقي، وسم تاريخ الشعب الفلسطيني برمته، وذلك عبر مقدمة نظرية طويلة وغنية، يتحدث فيها عن تاريخ اللاجئين الفلسطينيين، منذ أول تهجير عام 1905 حتى اليوم، وما أفرزه التهجير من مخيمات كثيرة منتشرة، سواء في الأردن وسوريا ولبنان، أو المدن الفلسطينية المحتلة، القدس ونابلس والخليل وقطاع غزة وأراضي 48. ثم يقدم مسحاً شاملاً عن المخيم في الرواية الفلسطينية، باعتبار الرواية تنطلق من محاولة لتقديم الوعي، وزيادته وتعميقه في الذات والواقع، وباعتبارها حملت منذ البدء هاجس الروائي في التعبير عن قضايا شعبه ومآسيه. لذلك كان ثمة روايات قامت بعملية أشبه بالتسجيل، أو التأريخ للمخيم الفلسطيني منذ ولادته، ومتابعة سيرورة الوقائع والحوادث التي حصلت فيه. كما كان هناك روايات التقطت مفاصل تاريخية في المخيم، أو تناولت الفاعلية المجتمعية فيه. وهناك روايات كان المخيم جزءاً من موضوعها لا غير، أو عبارة عن خلفية روائية للحوادث.
تقوم الروايات المدروسة على رؤى وعناصر، فهي تتكلم إما عن ولادة المخيم والأمكنة التي أنشئ فيها، بداياته وعلاقاته المتطورة مع جيرانه كأمكنة وأناس، وإما عن علاقات المخيم السياسية مع سلطات البلاد المقامة فيها، وهي سلطات عربية، وإما عن علاقة المخيم بوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة. وتشترك معظم الروايات بالحديث عن الثورة والأحزاب الفلسطينية، وكذلك عن الشهداء ومقابرهم التي راحت تكبر وتتنامى مع استمرار كفاح الفلسطينيين، وبعضها يتحدث عن التطورات والتحولات التي راحت تطرأ على المخيم، الأمر الذي يرسم للمستقبل تصورات مختلفة ومتباينة.
"روايات موضوعها المخيم"، عنوان دراسة يميز فيها الكاتب بين الرواية التاريخية والرواية التي تستطيع أن تؤرخ، فتستخدم التاريخ بخطه العام فحسب، ثم تختلق الشخصيات والحوادث بما يخدم سيرها الفني. من ضمن هذه الروايات التي موضوعها المخيم، وتدور في فلكه كمكان، وفي فلك علاقات وشخصيات منه، يدرس رواية "تعالي نطير أوراق الخريف" لحسن حميد التي تتحدث عن مخيم جرمانا في دمشق حيث مزبلة المدينة، وفيها انشغال الكاتب برصد التغيير الذي يطرأ مع الزمن على البنية المجتمعية للمخيم، وعادات أهله القروية الفلسطينية. يدرس أيضاً رواية "العشاق" لرشاد أبو شاور، فيتحدث عن أريحا بوجهيها المتناقضين، كأقدم مدينة في التاريخ، وحالياً كمخيم ببيوت طينية متناثرة، حيث التناقض بين التاريخ والواقع، في محاولة لتوثيق وجود المخيم، ومزج ذلك بتفاصيل وكوارث يومية في حياته.
ويدرس رواية "البدد" لنعمة خالد، و"الوداع" لعوض سعود عوض، و"مخيم في الريح" لعارف آغا. ثم ينتقل إلى روايات كان المخيم عبارة عن مقطع أو فقرة أو حتى فاصل فيها. عموماً كانت تلك الروايات تركّز على مفاصل أشد تأثيراً في المخيم، مثل المجازر أو الاجتياح أو الاحتلال. وهنا أورد خمس روايات، أولاها "بوصلة من أجل عباد الشمس" لليانة بدر، تتحدث فيها بضمير المتكلم، وتستفيد من تجربتها الشخصية ورؤيتها العيانية في الكتابة عن مخيم صبرا في بيروت، حيث تستذكر حوادث 1970 ومجازر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن. ثم الكاتب يورد دراسة في رواية "طقوس المنفى" للياس خوري، والتي هي هنا عبارة عن تصاديات في وجدان المنفيين ووعيهم وأحاسيسهم، حيث يرصد المخيم باعتباره وعاءً لمجتمع بشري بكل تنوعاته، مستهدف بالتخريب والإفساد والتمييع، رغم الأمل الكبير بالثورة والعودة، وليس كمجتمع ملائكة وأنبياء. ضمن هذا الفصل دراسة أيضاً لرواية "طيور الحذر" لإبراهيم نصر الله، ورواية "المخيم" لجمال جنيد.
في الفصل اللاحق، "روايات كان المخيم جزءاً من موضوعاتها"، يذهب بشار إبراهيم إلى قراءة روايات يتفاوت وجود المخيم فيها، ومن الممكن أن يتلخص ذلك بمجرد قيام إحدى الشخصيات بزيارة المخيم. وضمن ضغط الفكرة (التقاط المخيم أينما كان)، التي تسيطر على الكتاب برمته، يتلخص عمل أدبي كامل ربما بمقطع واحد. يلاحق الكاتب هذه الفكرة في أربع روايات، هي "قامات الزبد" لالياس فركوح، حيث المخيم قاعدة للفدائيين في مكتب الثورة، وهو مكتب في مخيم البص قرب مدينة صور في لبنان. ورواية "البحث عن هوية" لمحمد زهرة، و"دارة متالون" لنهاد توفيق عباسي، و"التصريح الأخير لموتى بلا هوية" لسليمان سعد الدين.
في فصل خاص يعرّج الكاتب على المخيم في روايتي سحر خليفة، "الصبار" و"عباد الشمس"، باعتبارها الصوت الروائي الآتي من داخل الوطن المحتل، والذي يرصد المجتمع الفلسطيني في الأرض المحتلة ضمن الفضاء المديني الطاغي على كتاباتها، ابتداء بنابلس مدينتها وصولاً الى المدن الفلسطينية الأخرى كالقدس وغيرها.
ثم يتناول الكتاب ستة روائيين واثنتي عشر رواية. إثنتان ليحيى يخلف، "نشيد الحياة" و"تفاح المجانين". إثنتان أيضاً لرجب أبو سرية، "دائرة الموت" و"عطش البحر". إثنتان لجمال ناجي، "الطريق إلى بالحارث" و"وقت". روايتان أيضاً لنادر عبد الله، "نهاية شيء ما"، و"جمر الرصيف". وروايتان لعدنان عمامة، "الخرعندار" و"الولد سلمان". وأخيراً روايتان للحاج إسماعيل، "صافي صافي" و"الحلم المسروق".
أما دراسة المخيم في أعمال غسان كنفاني الروائية، فتأتي أهميتها من المكانة التي يتمتع بها كنفاني كخلاّق وشهيد، ومن أهمية أعماله الروائية. وإذ يتكلم كنفاني عن المخيم، في حديث خاص أدلى به الى كاتب سويسري ونشر في مجلة "شؤون فلسطينية" 1974، نجد المؤشرات الواضحة حول طبيعة العلاقة التي تربطه بالمخيم، حيث عمل كمدرّس للرسم هناك، هو الذي سكن المدن منذ أن طرد وأهله من عكا عام 1948. الوقوف عند المخيم في روايات كنفاني، وخصوصاً "رجال في الشمس" و"ما تبقى لكم" و"أم سعد"، يتضمن، بحسب رأي بشار إبراهيم، ظلماً ما، لأنه لا يشتمل على كل التعبيرات والصور والرؤى التي شكلها الكاتب عن المخيم، والتي يمكن أن نجدها في قصصه القصيرة مثلاً.
في استكمال لتوثيق أدبي لتاريخ المنفى الفلسطيني يدرس الكاتب تمظهرات الانتفاضة الكبرى عام 1987 في الروايات الفلسطينية، وذلك في رواية "وجوه في مكان ساخن" لعبد الله تايه، التي تدرس المقدمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أسست لاندلاع الانتفاضة في مخيم جباليا. ورواية "الخروج من القمقم" لعمر حمش، و"صرخات" لمحمد نصار، التي تقدم صوراً من الانتفاضة اليومية في قطاع غزة، وكذلك الأمر في رواية "أنشودة فرح" لربحي الشويكي. أما رواية "الشمس في ليل النقب" لهشام عبد الرازق، فأشبه برواية مذكرات عن النضال الفلسطيني في المعتقلات. وأخيراً رواية "خنتش بنتش" لمحمود عيسى موسى، التي طبعتها اللجنة الشعبية الأردنية لدعم الانتفاضة، وقدم لها الكاتب الكبير جبرا إبراهيم جبرا حيث وصفها بالعمل الهائل والغني.
الموقف الإيديولوجي المقيم، الذي يسم بالعموم القضية الفلسطينية، ويتبدى في كل ما قد يكتب عن تلك القضية، إلا في حالات قليلة، نستطيع أن نبرره ببساطة، وربما باقتناع تام، في ما يخصّ الكتابة السياسية أو الفكرية أو حتى البحثية مثلاً. لكن حين تدخل الكتابة نطاق الرواية ينبغي أن يختلف المشهد برمته. فنحن إذ نعمل على سحب ذاك الموقف الإيديولوجي إليها، لا نقطف إلا ثمرة تكبيل العمل الأدبي بسلسلة من الآراء المسبقة، والأفكار الجاهزة، والمواقف السياسية المقدسة، التي لا يستطيع الكاتب، الخاضع لكل تلك الاعتبارات، أن يلويها ببساطة. لتتحوّل الروايات إلى مناشير سياسية، أو مجرد خطب فولاذية ليس من وظيفة الرواية أن تكونها. من هنا لم يستطع بشار إبراهيم، على الرغم من الجهد الكبير المبذول في عمله، أن يتخلص من العبء الإيديولوجي، ولا أن يحرر الروايات الفلسطينية، عبر دراسة مغايرة مثلاً، من تلك الأغلال. بل كرّس ذلك عبر التقاطه المعنى المسبق فحسب، والمعنى المحصور بموقف واحد ومعروف ومهيأ سلفاً كي لا يحيد الروائي عنه، وذلك على حساب الشكل والمتعة والصنعة والتقنيات الروائية التي لا حدود لها.

روزا ياسين حسن

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...