الحرب أعادت الزواج لتقاليد ما قبل اختراع الكتابة

22-10-2019

الحرب أعادت الزواج لتقاليد ما قبل اختراع الكتابة

كانت تقف كالحجر، بينما تتقافز عينيها كطائر مذعور، وصوتها يتمتم مرتعشا بكلمات لم أتبين كنهها، لكنها تشي بارتعاش قلبها.

قادتها خطاها إلى مكتب المحامي ممسكة بطفل بين يديها وكأنها تحمل صخرة “سيزيف”، وانتفاخ في بطنها يشي بأن أحشاءها تضم جنينا تفصله أسابيع قليلة عن رؤية عالم لا يحميه فيه أو يغطيه سوى السماء.

كنت أشعر بدويّ حبات قلبها الأنثوي وهي تقترب بحياء من السكرتيرة لتوشوشها همساً بأنها تريد معرفة إجراءات تثبيت الزواج، لكن كلماتها تناثرت من فم السكرتيرة التي يبدو أنها لم تسمعها جيداً لترتطم بآذان المنتظرين في بهو المكتب “اجراءات تثبيت الزواج؟”.

تركزت نظرات المنتظرين على السيدة المتشحة بالسواد باستنكار شديد، سهام مجنونة ورماح مسمومة انطلقت من عيونهم، فأصابتها بإحكام، نفذت في جلدها وتوغلت عميقا في قلبها، كانت ترتعش أمامهم وترتعد، تتولاها الخشية وتساورها الهواجس.

حبست أنفاسها ولاذت بالصمت بعد أن تاه الصوت في حبال حنجرتها، حاولت لَأْمَ جراحها، كانت تحترق، وفي داخلها دوي أصم ومن خلال عينيها سحابة من دموع أخذت تنتشر بسرعة.. حملت إبرتها وخيطها محاولة رتق بطانة كرامتها بعد أن رمقوها باحتقار، رفعت صوتها قليلا لترفع أي لبس أو اتهام لتقول تزوجت قبل عدة سنوات.. “بس بعقد براني”.

في انتظار دورها، جلست السيدة القادمة من ريف حماه على أحد كراسي القاعة، متشبثة بأهداب عينها بطفلها الذي كان يحاول الانفلات من عقال يديها ليستكشف المكان، سألتها السيدة الجالسة على يمينها عن مشكلتها.. كانت محتاجة لمثل هذا السؤال الذي جاءها كغيث من السماء، افتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة، ونفخت ما في صدرها من هموم، فاندفعت متنهدة “الحصار”.

بعد أن قرعت الحرب في سورية وعليها طبولها ازدادت نسبة الزواج العرفي بشكل كبير، وكشفت إحصائيات رسمية جاءت على لسان القاضي الشرعي الأول في دمشق محمود معراوي أن عدد العقود العرفية التي تم تثبيتها في دمشق عام 2011 بلغت 1692 عقداً، و2269 عقدا في عام 2012، بينما وصلت إلى 5315 عقداً عرفياً في 2013، وبلغت 7566 في عام 2014، لتصل إلى 12333 عقداً عرفياً في 2015، ومن الأكيد أن هذه الأرقام ارتفعت بعد انتهاء اختطاف المسلحين للغوطة وخروج آلاف المدنيين منها.

اضطرت الشابة العشرينية المتشحة بالسواد لهذا النوع من الزواج “عقد براني” خلال فترة اختطاف المسلحين لريف حماة، بعد أن جرفتها أمواج الحب إلى قريب لها فتزوجته واستعانا بأحد الشيوخ لعقد قرانهما، وبعد أن تحرر الريف من قبضة النصرة وأخواتها بدأت معركتها وزوجها مع الموت للنجاة فتقطعت بهما السبل وتاها عن ذويهما وقادتهما دروب الغريق والحريق دروب علاء الدين السوري بعد أن بطحهما التعب إلى دمشق.

تمكن زوجها من إيجاد عمل له يقتاتان منه وطفلهما، كان أكثر ما يخيفها هو فقد السند الوحيد المتبقي لها “زوجها”، لكنها كانت محظوظة لأنه بقي على قيد الحياة، ومحظوظة لأنها وزوجها مازالا على وفاق، كثيرات غيرها مررن بتجربة مشابهة لكنهن فشلن في تثبيت العقد بسبب وفاة الزوج أو اختفائه أو هربه بعد تخليه عن مسؤولياته كزوج وأب.

يصعد صدرها ويهبط بتنهيدات حارقة وهي توشوش جارتها بقاعة الانتظار في مكتب المحامي بأن همها الأساسي اليوم هي وزوجها، طفلهما الذي تحمله بين يديها وجنينهما الذي تحمله في أحشائها، تتابع هامسة للمرأة التي تسمعها بفضول، همي وزوجي هو تثبيت زواجنا في السجلات الرسمية كي نتمكن من تسجيل أولادنا لننقذهما من صفة “ساقط قيد”.

جاء دورها ليقابلها المحامي أسامة طه.. رجل القانون الذي يقول: إن هذا النوع من الزيجات ليس وليد الحرب فهو موجود منذ زمن في قوانينا العرفية وموروثاتنا الاجتماعية التي تمثّل حضوراً كبيراً ومؤثراً في ذاكرتنا اليومية الجمعية والفردية، فهو الطريقة الإسلامية للزواج والتي لا تستوجب إلا حضور شاهدين وشيخ يكتب عقداً لا يحتاج للتوثيق في السجلات الرسمية.

الزواج العرفي كان منتشراً، بحسب طه، بين العديد من فئات المجتمع السوري التي تقودها العادات والتقاليد التي تمنع الرجل من لقاء خطيبته دون عقد نكاح شرعي على أن يتم التثبيت في المحكمة لاحقا، أو تلك المجتمعات التي تزوج أبناءها صغارا فيتم الزواج عرفيا حتى يبلغ العروسان سن الرشد فيتم التثبيت..

لكن الحرب زادت طين السوريين بلة وداهمتهم المشاكل من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون، فبقيت ألاف مؤلّفة من عقود الزواج العرفية ولأسباب عديدة غير مثبتة في المحاكم الشرعية ولا مسجلة أو معترف بها بالدوائر الرسمية.

طه يحمل قانون الأحوال الشخصية قبل تعديله مؤخراً مسؤولية انتشار هذا النوع من الزواج لأنه كان يحوي الكثير من الثغرات ويسمح بالتجاوزات، ولم يكن يحاسب المتزوجين خارج إطار المحكمة أو يجرم هذه الممارسة، مما جعلها تتسبب في مآسٍ لأجيال كثيرة، فهناك أولاد كثيرون غير مسجلين لأن زواج والديهم غير مسجل أصلاً، ولا يمكن للمرأة حمل صفة متزوجة أو الاستفادة من حقوقها دون إثبات زواجها بشكل رسمي.

مكتب المحامي طه، يشهد توافد الكثير من حالات إثبات الزواج يومياً، فبعد السيدة الحموية جاءت شابة أخرى متزوجة من دون تثبيت للعقد، رغم أنها مقيمة في السيدة زينب بريف دمشق لكن العائق في حالتها كان تخلف زوجها عن خدمة العلم وخوفه من “الفيش” إن هو توجه الى المحكمة الشرعية، بجنينها في بطنها وصلت مها مكتب المحامي طه فهي تنوي رفع دعوى ضد زوجها لتثبيت زواجها بعد أن أكملت شهرها الرابع وحصلت على تقرير طبي يثبت كلامها.

في ظل الحرب القاتلة التي عصفت بسورية، يكتفي بعض الشبان المتخلفين عن الالتحاق بالخدمة العسكرية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية بالزواج العرفي، فيبتعدون عن مراجعة أي دائرة حكومية، ومن بينها المحاكم الشرعية، حتى لا يساقوا للجيش.

بينما تغيب المحاكم الشرعية الحكومية في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة، وتبعا لذلك فعقود الزواج في محاكمهم أكثر قربا وشبها بالزواج العرفي.

وفي بعض دول اللجوء السوري كـ لبنان وتركيا وغيرهما حيث رصدت حالات عديدة لـ”العقد البراني”، هناك عدة أسباب للزواج العرفي حسب المحامي طه، أولها هو حالة اللجوء غير النظامية للعروسين أو لأحدهما، وثانيها يتمثل في الكلفة المادية الباهظة لتسجيل هذه الزيجات في ظل ظروف مادية بائسة يعيش فيها اللاجئون واللاجئات إلى جانب قوانين بعض الدول التي لا تبيح تعدد الزوجات.

يقترح القاضي الشرعي الأول في دمشق محمود المعراوي، حلاً للمشاكل المترتبة على الزواج العرفي، فيقول: إذا اضطر الأهل لهذا النوع من الزواج فيجب أن يضعوا العصمة في يد ابنتهم، وفي حال ذهب الزوج ولم يعد فإنّ الزوجة يمكنها أن تطلق نفسها بحضور الشاهدين على زواجها.

ورغم الحل المقترح فإن الزواج العرفي يرمي بالفتيات في شراك علاقة يقال عنها إنها ترضي الله ورسوله لكنها لا تجلب لهن إلا الوبال والمآسي خاصة إذا ما أنجبن أطفالا فتضيع حقوقهن وحقوق أبنائهن المنقوصة أصلا ويعشن حياة ملؤها الخوف من أن يتركهن الزوج ويتخلى عنهن فتضطرهن الظروف لمواجهة مجتمع لا يرحم.

وبين مدعية بأن ظروفها الحياتية الصعبة تدفعها كل شهر إلى حضن رجل والاسم “زواج،” وبين من تتزوج عرفيا لتجد نفسها بعد مرور يومين أو ثلاثة مرغمة برضى زوجها وتدبيره على ممارسة علاقات جنسية مع آخرين يفتح هذا الشكل من الزواج الباب للإتجار بالبشر وتشغيل النساء بالدعارة بشكل إجباري نظراً للسيطرة الذكورية للرجال على نسائهم؛ أما الأطفال فالتهديد الأول الذي يعانون منه هو عدم تسجيلهم في السجلات الرسمية وعيشهم ساقطي القيد وضياع حقوقهم.

كم تكون الدموع تافهة إذا ما قيست باختناق القلب، تعلم مريم أن الدموع لا تصحح خطأً، لكنها كانت تقف على باب مكتب المحامي حائرة تملأ الدموع عينيها وتحمل عبء الدنيا على كتفيها، لا تدري ماذا تفعل، بعد أن فشلت في تثبيت عقد زواجها المكتوب على ورقة مهترئة لم تعترف بها المحاكم الشرعية، فبعد أن تقطعت بها الأسباب وسُدت في وجهها كل السبل والأبواب لم تتمكن مريم من منح أولادها صفة “أولاد الحلال”، فهم في نظر القانون مجرد مجهولي نسب بعدما اختفى والدهم.

لم يكن زوج مريم المُختفي سورياً، بل “مجاهدا” تزوجته مرغمة خلال فترة تواجدها في إحدى المناطق الساخنة، وأنجبت منه طفلة.. كما انها غير قادرة على جلب الشهود لتثبيت زواجها فشاهداها من المقاتلين المهاجرين الغرباء.
تقول مريم: خرج زوجي ليقاتل وانقطعت أخباره حتى عاد يوما في نعش، لم يبقَ لي غير فرح ولا أعلم شيئاً عن عائلة من كان زوجي أو بلده حتى أقصدهم.. تتابع: أخشى ما أخشاه أن تسألني فرح يوما “من أبي؟”.. وللحكاية بقية.

 


الأيام

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...